أفكار وآراء

«المؤتمر الدولي للسلام» طوق نجاة محتمل.. ولكن !!

28 سبتمبر 2020
28 سبتمبر 2020

د. عبدالحميد الموافي -

ليس من المبالغة في شيء القول بأن الأسابيع الخمسة الممتدة من الآن وحتى موعد انتخابات الرئاسة الأمريكية في الثالث من نوفمبر القادم، هي أسابيع وأيام على جانب كبير من الأهمية والتأثير في حاضر ومستقبل القضية الفلسطينية والأوضاع في الشرق الأوسط أيضا.

ليس فقط لأن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، التي وصفها ايهود اولمرت رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بأنها «تعاني من الشعور بالقوة المفرطة»، تسعى إلى تغيير قواعد عملية السلام وأسس التفاوض لتحقيق السلام وحل القضية الفلسطينية، مدعومة بتأييد أمريكي كاسح وغير مسبوق من إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي يتوق للبقاء لفترة ثانية في رئاسة الولايات المتحدة، ولكن أيضا لأن المحيط العربي يعد في أضعف حالاته، لأسباب كثيرة متراكمة ومعروفة وظاهرة في جنبات وطننا العربي، كما لم يحدث من قبل منذ عقود.

ومع الوضع في الاعتبار أن التفاوت في موازين القوى يفرض نفسه بوضوح، وعلى نحو حقيقي على مائدة المفاوضات، وفي نصوص وصياغات الوثائق والإعلانات السياسية، إلا أن الرغبة الحقيقية في حل المشكلات، وفي التوصل إلى اتفاقيات قادرة على الاستمرار وبناء السلام والاستقرار للشعوب، يدفع القيادات السياسية المسؤولة وبعيدة النظر، إلى الارتفاع على جاذبية الانصياع لتحقيق المصالح الوطنية بمفهومها الضيق المتمثل في استغلال ظروف ضعف الطرف الآخر، لصالح التوصل إلى تسويات واتفاقيات قادرة على الحياة والاستمرار لصالح الطرفين، وهو ما يحقق في الواقع المصلحة الوطنية للطرف القوي أيضا، ولكن بأساليب أخرى. وإذا كانت بذور الحرب العالمية الثانية قد ولدت، في جانب منها على الأقل، في اتفاقيات إنهاء الحرب العالمية الأولى، خاصة مع ألمانيا، وإذا كانت تركيا تتطلع الآن إلى إعادة النظر في اتفاقيات لوزان التي تنتهي عام 2023 أيضا، فإن صدام حسين مزق اتفاقية الجزائر لتقسيم الحدود في شط العرب مع إيران عام 1980، بعد خمس سنوات من توقيعها عام 1975، لتنشب الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات صعبة ومدمرة، والتي انتهت بالتأكيد على الالتزام باتفاقية الجزائر، وفي ضوء ذلك، فإنه ليس من المهم أن تحقق إسرائيل كل مطامعها على حساب الأراضي الفلسطينية في هذه المرحلة، ولا أن تفرض على الفلسطينيين والعرب ما تراه هي محققا لمصالحها على حسابهم نتيجة للأوضاع الراهنة، ولكن الأكثر أهمية لإسرائيل ولفلسطين وللسلام والاستقرار في هذه المنطقة أن يتم التوصل إلى تسوية قادرة على الحياة والاستمرار للقضية الفلسطينية، وعلى بناء التعايش والتعاون الإقليمي بشكل يحظى بتأييد ورغبة الجانبين الفلسطيني والعربي من ناحية الإسرائيلي من ناحية أخرى لبناء واقع وحياة جديدة لصالحهما معا، خاصة وأنه من المؤكد أن السلام والأمن والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية من العالم هي أمور كلية مترابطة ومتداخلة ومتقاطعة أيضا، بمعنى أنه من غير الممكن أن يحقق طرف بمفرده السلام والأمن والاستقرار له بمعزل عن الأطراف الأخرى أو على حسابها، وينطبق ذلك على إسرائيل وكل القوى الإقليمية الأخرى في المنطقة، سواء في علاقاتها مع العالم العربي، أو في علاقاتها الجماعية الأوسع أيضا. ومن المعروف أن السلطنة أكدت وأوضحت ذلك البعد كثيرا، وفي مناسبات عديدة، وموثقة، في علاقاتها واتصالها وجهودها المعلنة وغير المعلنة للإسهام في تحقيق السلام والاستقرار في الخليج والشرق الأوسط، بما في ذلك بين الفلسطينيين وإسرائيل.

وفي ظل التطورات الجارية في المنطقة خلال هذه الفترة، وما قد يحدث خلال الأسابيع القادمة، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: أن تسوية القضية الفلسطينية، والتوصل إلى حل عادل وشامل ودائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي سيظل، وكما كان، مرهونا بقرار الشعب الفلسطيني وقيادته، وبقدر تمسك الشعب الفلسطيني بقيادته وبتماسك قواه الوطنية والعمل على حشدها على صعيد واحد لتحقيق أهدافه ومصالحه الوطنية، بقدر نجاحه في الحفاظ على تلك المصالح والسير نحو تحقيقها على الأرض، وإفشال أية تحركات، أو محاولات لفرض حلول لا يراها محققة لمصالحه. على صعيد أو آخر فهو صاحب الأرض، وهو الذي يتحمل تضحيات تحريرها في النهاية، صحيح انه في حاجة للتضامن والدعم العربي الكبير والمتواصل معه، بمختلف السبل، ولكن الصحيح أيضا هو أن الكلمة الأخيرة هي للشعب الفلسطيني فيما يتعلق بقضيته ومصيره والحلول التي يرضاها. ومن المعروف على امتداد العقود الماضية، على المستوى العربي، أن الدول العربية بوجه عام كانت تؤيد ما يراه ممثلو الشعب الفلسطيني محققا لمصالحه، ومن المهم والضروري أن يستمر هذا المبدأ اليوم وغدا، ليكون الشعب الفلسطيني هو المسؤول في النهاية عن قراراته وعن سبل الحل المناسبة لقضيته ولتقرير مصيره. ومن المعروف أيضا أن الدول العربية التي احتلت إسرائيل أراضيها في عدوان عام 1967 كانت تفصل دوما بين صراعها مع إسرائيل وجهودها لتحرير أراضيها المحتلة وبين القضية الفلسطينية، ولذا كانت هناك قضية الشرق الأوسط المتعلقة بتلك الدول وبعلاقاتها مع إسرائيل، إلى جانب القضية الفلسطينية المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة وما ترتب على إقامة إسرائيل من نتائج بالنسبة للشعب الفلسطيني الشقيق. واعتادت الدول العربية الأخرى اتخاذ موقف الدعم والمساندة للحقوق والمطالب الفلسطينية والعربية، ووفق ما تعلنه وترتضيه القيادة الفلسطينية والأطراف العربية المحتلة أراضيها وتبلور ذلك في مواقف كثيرة منها على سبيل المثال المبادرة العربية للسلام التي أقرها مؤتمر قمة بيروت عام 2002. والتي ترتكز على مبدأ الأرض مقابل السلام وعلى إقامة الدولة الفلسطينية على حدود يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، في إطار حل الدولتين. ثانيا: إنه على امتداد أكثر من سبعة عقود جرت العديد من محاولات وجهود الحل للقضية الفلسطينية، ثم للقضية الفلسطينية وقضية الشرق الأوسط بعد عدوان 1967، وبوجه عام سارت الجهود في مسارين أساسيين: الأول من خلال الأمم المتحدة - الجمعية العامة ومجلس الأمن وبعض المنظمات المتخصصة كاليونسكو وغيرها – بالنسبة للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني، واستنادا إلى مبادئ الأمم المتحدة وقراراتها، خاصة وأن إسرائيل ذاتها قامت بموجب قرار الجمعية العامة لتقسيم فلسطين في نوفمبر عام 1947، وبفضل مبادئ ميثاق الأمم المتحدة تمت صيانة الحقوق الفلسطينية في كل القرارات التي صدرت عن المنظمة الدولية. وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للقضية الفلسطينية ولحقوق الشعب الفلسطيني.

أما المسار الثاني فإنه برز بعد عدوان يونيو 1967، وفي إطار القرار 242 لمجلس الأمن وصياغته الشهيرة التي وظفتها إسرائيل والغرب لصالحها من ناحية، وتزايد الاهتمام الدولي بالوضع في الشرق الأوسط والتنافس الدولي حوله من ناحية ثانية، حيث لعبت واشنطن وموسكو دورا محوريا في محاولات السلام في المنطقة ومن خلال قيادات الدول المعنية، وحرصت واشنطن على القيام بدور محوري لخدمة إسرائيل وخدمة مصالحها بالطبع، وهو ما برز بوضوح في الدور الأمريكي الأحادي في عملية السلام منذ سبعينيات القرن الماضي، ووصل إلى ذروته في مواقف الرئيس ترامب لصالح إسرائيل فيما يتصل بالقدس ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بضم إسرائيل للجولان وتأييد الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. وإذا كانت تلك المواقف قد دفعت بالقيادة الفلسطينية إلى قطع الاتصال مع واشنطن، وإلى رفض وساطتها المنفردة في عملية السلام، خاصة وأن إسرائيل توحشت في السنوات الأخيرة في عمليات الاستيطان، فإن صيغة العمل من خلال المؤتمر الدولي، تظل هي الأكثر مناسبة للجانب الفلسطيني، ليس فقط لأن هذه الصيغة تفرض وجود أطراف دولية أخرى مثل روسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وهو ما يقيد ولو نسبيا التوجه الأمريكي لترجيح كفة إسرائيل ومصالحها على حساب الفلسطينيين، وعبر قرارات ومواقف أمريكية منفردة، ولكن أيضا لأن المؤتمر الدولي يستند في النهاية إلى الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة كأساس للعمل والبحث عن حل وهي ضمانة يتمسك بها الجانب الفلسطيني للتلويح بها في وجه إسرائيل والإدارة الأمريكية.

ومن هنا فإنه من المفهوم أن يدعو الرئيس الفلسطيني محمود عباس في كلمته أمام اجتماعات الدورة 75 للجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام إلى عقد مؤتمر دولي للسلام تشارك فيه كل الأطراف المعنية وقد طلب من الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو جوتيريش العمل من أجل عقد المؤتمر بدءا من بداية العام القادم، كما أعرب عن استعداده للتوصل إلى حل لكل القضايا بما فيها قضايا الوضع النهائي – الحدود واللاجئين والمياه والقدس والمستوطنات – في إطار «سلام حقيقي»، لأنه يدرك أن نتانياهو لا يريد تفاوضا ولا مؤتمرا دوليا ولا سلاما يمكن أن يقيد محاولاته للتوسع على حساب الفلسطينيين، خاصة وأنه مهووس بالرغبة في تسجيل نفسه بين قادة إسرائيل الكبار مثل بن جوريون وبيريز وبيجين ورابين. غير أن الواقع هو أن هذا الأسلوب الذي لا يراعي المصالح الفلسطينية والالتزام بحد أدنى من التوازن يحمل في ذاته بذور فنائه وفشله في المستقبل ومن ثم لا يمكن أن يكون أساسا للسلام العادل والدائم مهما تم توقيعه من اتفاقيات.

ثالثا: إنه مع الوضع في الاعتبار أن المؤتمر الدولي للسلام يمكن أن يمثل طوق نجاة بالنسبة للقيادة الفلسطينية، والقبول بما يتمخض عنه، باعتباره تعبيرا عن الإدارة الدولية والمجتمع الدولي، إلا أن عقد المؤتمر الدولي يظل أمرا تكتنفه الكثير من الصعوبات الحقيقية، وهي صعوبات لا تتوقف فقط عند الرفض الإسرائيلي والأمريكي التقليدي لعقد مثل هذا المؤتمر، الذي يحرم واشنطن من التحكم المنفرد والتأييد المطلق لإسرائيل، ولكن الصعوبات تمتد أيضا إلى الساحة الفلسطينية ذاتها، ففي الوقت الذي تظهر فيه أصوات تدعو إلى تغيير القيادة الفلسطينية ومحاولة النيل من الرئيس الفلسطيني بشكل أو بآخر، فإن العلة الأساسية تكمن في استمرار الانقسام بين فتح وحماس. وإذا كانت اجتماعات بيروت للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، واجتماعات إسطنبول بين وفدي فتح وحماس ومشاورات الدوحة بين قادة حماس، قد حملت بعض التفاؤل بالنسبة لإعادة توحيد الصف الفلسطيني، والإعداد لانتخابات تشريعية، ثم رئاسية فلسطينية، ثم انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني خلال الأشهر الستة القادمة، فإن تحويل الاتفاقات إلى خطوات عملية إيجابية على الأرض ظل الصخرة التي تتحطم عليها الكثير من آمال الفلسطينيين، ومن المأمول أن تنجح فتح وحماس في تحطيم تلك الصخرة، والتوصل إلى توافق يحقق ويعزز المصالح الوطنية الفلسطينية، حتى لا يجد الفلسطينيون أنفسهم في العراء، في ظل ما تحاوله واشنطن وإسرائيل الآن وخلال الفترة القادمة. إنه تحد حقيقي للفلسطينيين والعرب أيضا.