أفكار وآراء

السيولة المعرفية

27 سبتمبر 2020
27 سبتمبر 2020

خميس بن راشد العدوي -

في الآونة الأخيرة، وبالأخص خلال آخر خمس سنوات.. بدأت تظهر عبارة «السيولة المعرفية»، وأقول عبارة لأنها لم تتحول إلى مصطلح بعد، فهي ترد في سياق لغوي عابر، كأي عبارة يستحضرها المتكلم للتعبير عن حالة التدفق المعرفي الذي يمر به العالم الآن، بدخوله في العصر الرقمي، مثل القول: في زمن السيولة المعرفية. والعالم يعيش حالة من السيولة المعرفية. ولم أجد من درسها بكونها خصيصة عقلية لغوية، وأتكلم بالذات عن الكتابات العربية بحسب اطلاعي، ولذلك أحاول هنا أن أتناولها بكونها خصيصة لغوية نابعة من حالة عقلية يتمتع بها الإنسان.

المرجع الوحيد الذي وجدته يذكر السيولة المعرفية بما هو أقرب للاصطلاح مرجع غير عربي، وهو كتاب «دليل جامعة كامبريج للذكاء»، تحرير: روبرت ج. ستيرنبيرج وسكوت باري كوفمان، وترجمة: داود سليمان القرنة وعنتر صبحي عبداللاه، صدر عام 2015م، وتُرجم إلى العربية عام 2017م. الكتاب لم يتكلم عن السيولة المعرفية بكونها خصيصة عقلية لغوية، وإنما بكونها ظاهرة ألمّت بالعقل في وقت مبكر من عمر الإنسان، وهو ما سمّاه بـ«الإنسان الحديث»، أي العاقل، وخصصها بـ(الإنسان القديم في العصر الحجري)، ما عدا تلك الإشارة العابرة، فإن السيولة المعرفية تستعمل بمعنى تدفق المعلومات الهادر عبر تقنيات العصر الرقمي. ولذلك سيكون حديثي هنا محاولةً لوضع مهاد معرفي لمصطلح «السيولة المعرفية».

السيولة المعرفية.. هي خصيصة عقلية لغوية، وتعني أن المنتَج العقلي الذي يبرزه الإنسان عبر اللغة لا بد أن يكون بحالة سائلة متحركة، فهو متحرك من حيث نشأته في العقل ذاته، ومن حيث انتقاله إلى العقول الأخرى، ومن حيث عدم استقرار يقينه، وذلك لأن العقل ديناميكي بطبيعته غير قابل للسكون والتكرار، ولا يرتبط ذلك بالتراكم المعرفي، ولا بفحص تلك المعرفة، فما يبدو اليوم بأنه صحيح يصبح غدًا خطأ، فهو في تحرك مستمر.

السيولة.. تعني الحركة الدائمة، وهي حركة نابعة من العقل وحده، وليست من الدوافع البيولوجية للجسم، فالرغبة في الغذاء لا تتمثل فيها سيولة معرفية، وبالتالي السعي المتكرر للحصول عليه بدوافع بيولوجية لا علاقة له بالسيولة، فالحيوان والنبات لا يملكان هذه الخصيصة. وعندما ارتبطت طريقة حصول الإنسان على الغذاء بوعيه العقلي وليس برغبته البيولوجية وحدها، تحولت إلى سيولة معرفية ناتجة عن خصيصة العقل المفطور على عدم السكون، وبالتالي فمن الطبيعي.. أن التعبير عمّا انتجه العقل سيحمل الخصيصة ذاتها.

وهذه السيولة مبتدأها عقلي.. فهي تحصل حتمًا للعقل ولو لم يوجد عقل غيره ينقل إليه منتجه، فالعقل لديه قدرة فائقة بأن يحاور نفسه، بمعنى أنه «يعيش» حالة فكرية سائلة في ذاته، فهي أصلاً قُوُتُه الذي يحيا به.

والعقل بخصيصته الذاتية هذه، فاض بمنتجه إلى العقول الأخرى، فكان ضرورة أن تنشأ اللغة، لأنه لا يحصل الانتقال إلى عقل آخر إلا عبر لغة، واللغة ليست حركة باللسان فقط، وذلك بما أنها حالة ناشئة من العقل، فقد سخّر لها كافة جوارح الجسد الذي يحمله، فأصبح لكل جارحة قدرتها الخاصة على نقل اللغة، لكن اللسان هو الأقدر على نقلها بسيولة متناهية، وقد أبدع العقل في إيجاد الوسائل التي تنقلها، فمنذ أن كان يتكلم الإنسان مباشرة إلى أخيه، حتى رفع صوته لكي يصل للبعيد، أو لأكبر عدد ممن يريد أن يوصل لهم مراده، إلى أن تمكن مع مرور الوقت أن يسخّر نواميس الكون لنقل صوته عبر القارات الأرضية، بل وعبر الأجرام السماوية، بحيث يصل في اللحظة نفسها التي ينطق بها تقريبًا.

وهذا القدرة الفذة للعقل، سواء من حيث سيولته الفكرية أو قدرته على نقلها إلى الآخر أوجد معرفة، تحمل أيضا خصيصة السيولة.

إذًا.. للسيولة المعرفية مرحلتان جوهريتان:

- مرحلة إنتاج المعرفة، يمارسها العقل بكونه عقلًا، وهي التي نسميها فكرًا، حيث تولد الفكرة فيشعر بها الإنسان في ذاته، وحتى لو لم يعبّر عنها بلغة للآخر.

- مرحلة التعبير عن المعرفة، وتحصل كذلك تلقائيًا عبر اللغة، لأن الإنسان إن فكّر نطق، وليست لديه قدرة على «الكتمان المطلق» لفكره، وإنما الاختلاف في نوع اللغة بكونها أداة يعبّر بها عن فكرته، والتي يسلك فيها طرائق قددا، باللسان وسائر جوارح الجسد.

خلال المرحلة الأولى أبدع الإنسان في إنتاج المعرفة من خلال الأدوات العقلية كالخيال والوجدان والوهم، ثم الربط والتحليل والتفكيك والديالكتيك، ثم التجريد والمنطق والأقيسة. ولا تخدعك هنا «ثم» العاطفة على التراخي، فهذه الأدوات أو بعضها قد تعمل في العقل متزامنة، أو بفوارق زمنية لا يكاد يشعر بها الإنسان، فضلًا أن يقيسها، وإنما جئت بها لأن كل أداة تحتاج إلى مقدار وافر من العمليات العقلية التي تسبقها، كما أنها متداخلة إلى حد التشابك.

والمرحلة الثانية جاءت نتيجة للمرحلة الأولى، ولكنها بين عقول كثيرة، وفق شبكات التواصل البشري، التي نشأت مع نشأة الإنسان ذاته، ثم تطورت لنرى كل هذا التعقيد في المعرفة الإنسانية، ولنرى كذلك الضخ الهائل منها في زمننا.

إذًا.. السيولة المعرفية هي حركة الفكر الذي ينتجه العقل في ذاته، ثم تناقله بعد ذلك بين العقول. ومن الطبيعي.. أن السيولة المعرفية تزداد كمًا ونوعًا بمرور الزمن على البشر، فتكاثر العقول ينتج مزيدًا من المعرفة، كما أنه ينتج إبداعًا لتنافس العقول الكثيرة، ورغم هذه البديهة التي من المفترض أن يلحظها الإنسان منذ آماد طويلة، إلا أنه لم يلتفت إليها إلا في السنوات الأخيرة لتظهر عبارة «السيولة المعرفية» بكونها تعبيرًا عامًا عن الحالة المبهرة لسرعة انتقال المعرفة وتدفقها الهائل.

لا يمكن نكران الانفجار المعرفي عبر الفضاء الافتراضي الذي أوجده العصر الرقمي، إلا أن ذلك كله ليس إلا مظهرًا من مظاهر أهم خصيصة يتمتع بها العقل وهي السيولة المعرفية. وهو مظهر لا يمكن الاستهانة به، فهو لم يقتصر على تسريع حركة المعرفة، وعلى تعميمها بفارق زمني لا يكاد يذكر، وإنما أوجد قفزات في عمليات العقل البشري بجموعه الكلي، كما أنه أوجد الذكاء الاصطناعي الذي نعيش الآن بداية عصره، والذي يشي بدمج مذهل من نوعه، ليس بين العمليات التي يقوم بها العقلان البشري والاصطناعي فحسب، وإنما كذلك في الرافعة الجسدية التي ينصهر فيها العقلان ليكونا عقلًا واحدًا متمازجًا تمازجًا كليًا، بحيث لا يمكن التمييز فيه بينهما، بل يتنبأ البعض باستقلال هذه الرافعة العاقلة عن الإنسان والحاسوب بكونها كائنًا آخر حر التصرف.

ثم إن المعرفة مصابة بحالة مذهلة من السيولة، فهي لا يمكن أن تستقر، فكل المعارف التي أنتجها الإنسان قابلة -ضرورة- للتعديل والتطوير والتفسير والتأويل والإقصاء والاستدعاء، فهي في حركة دائبة، ولا يكاد يسلم من هذه السيولة إلا بعض قواعد المنطق العقلي العليا، وكأنما وجد الثبات فيها لنتمكن من رؤية خصيصة السيولة التي يتمتع بها العقل. فحتى المعرفة الدينية التي يعتقد المؤمنون بها بأنها ثابتة هي في تغيّر مستمر، أي أنها سائلة معرفيًا، وكذلك معطيات العلم من معارف مصابة بالسيولة، ولولاها لكف الدين عن رفد النفس الإنسانية بروح الإيمان، ولجمد العلم عن المضي في إبداعه.

وبعد.. فالسيولة المعرفية ليست مجرد لازمة لغوية ترد على اللسان للتعبير عن حالة الانتشار السريع للمعرفة، أو الانفجار المعرفي في العصر الرقمي، وإنما هي مصطلح لخصيصة عقلية بدأت مع وجود العقل ذاته، ومارست مفعولها النوعي والضخم والمتسارع في الوجود الإنساني، على كل مستوياته في الحياة التي يمكن أن نستحضرها.