أفكار وآراء

حديث في الاستثمار الأكاديمي.. جامعة السلطان قابوس مثالاً

26 سبتمبر 2020
26 سبتمبر 2020

محمد عبدالله العلي - كاتب بحريني -

لفت انتباهي ما أعلن في سلطنة عُمان في الـ 19 من الشهر الجاري من أن جامعة السلطان قابوس حققت دخلاً استثماريًا خلال العام المنصرف بلغ 11 مليونًا و369 ألف ريال عُماني، كما أن اللافت أيضًا، هو أن يُحقق البحث العلمي عائدًا بلغ مليونين و976 ألفًا و961 ريالاً عُمانيًا. وهي أرقام مُشَجّعة تمنح التعليم والبحث في هذه الجامعة الوطنية الصاعدة فرصة الاستمرار المريح في أداء عملها ونشاطها وكذلك العناية بمخرجاتها التعليمية بدون ضغوط مادية، وبعيدًا عن تقلبات الأحوال الاقتصادية التي لا تستقر على بَر.

إن مسألة استثمار الجامعات لم تعد أمرًا «يمكن التفكير فيه لاحقًا» بل «يجب الانتباه له حالاً» كونه متعلقا بمصير وجودها الفعلي ودورها الحقيقي. فالكفاية المالية للجامعات تعني أمرين مهمين.

الأول: أن العمل الأكاديمي سيُنجَز والعَيْن على جودته فقط وليس على مدى مواءمته للكلفة المالية الموضوعة له.

الثاني: أن الأفق الزمني لن يكون أسيرًا لـ «حَدّ الوقت» اللاهث والمزعج بل لحاجته الطبيعية من الزمن التي تمنحه أريحية العمل بهدوء ورَوِيَّة بدءًا بالمقدمات ومرورًا بالتجريب ووصولاً للنتائج، لإثبات شيء ما أو دحضه أو شَدّه، في وقت تسعى دول وشعوب كثيرة لكسر احتكار العلوم والابتكارات وإبعادها عن جشع الاستحواذ.

فحين تُقدّر إحدى الدراسات تكاليف البحث والتطوير لدواء ما بمتوسط مليار و100 مليون يورو (وهو أقل بـ 50 بالمائة من التقدير المعتاد البالغ مليارين و400 مليون يورو)، وأن تطوير دواء في الولايات المتحدة الأمريكية زادت كلفته في 10 سنوات فقط من مليار و100 مليون دولار إلى مليارين و800 مليون دولار، فإن الأمر لا يحتاج إلى تأمل فقط في هذه الأرقام الفلكية المذكورة، بل لإجراء المزيد من الدراسات حول حقيقة البيانات التي تقدمها الشركات للنفقات الفعلية المُدّعاة، تعزيزًا للشفافية كي نظفر بأسعار أكثر عدالة وإنصافًا، في لحظة يعاني فيها العالَم (وتحديدًا البطون الرخوة فيه) من العديد من الأمراض الفتاكة التي تُجهز على الملايين من أبنائه سنويًا.

نعم إن مؤسسات التعليم العالي في كثير من الدول لها تأثير اجتماعي وتنموي وبيئي، بل هو في كل جوانب حياة الناس من خلال قيامها بالبحث ونقل المعرفة والتكنولوجيا. فأصحاب التخصصات عادة ما يتم اللجوء إليهم لعقلنة الخطوات وترشيد القرارات واستشراف مآلاتها ما أمكن تقليلاً للضرر. لذلك أغلب الدول تدعم مؤسسات التعليم العالي لديها لاقتناعها بأن تلك الصروح قادرة على إنارة دروب البلدان في مجالات مختلفة.

خلال الإعداد لما سُمّي بتحالف المحيط الهادئ الذي يضم بيرو وشيلي وكولومبيا والمكسيك والهادف إلى توسيع حدود حوكمة التجارة والاستثمار في أمريكا اللاتينية عبر تعزيز التداول الحر للسلع والخدمات ورأس المال، عُقِدَت أهم اجتماعاته في جامعة إكسترنادو في بوجوتا بكولومبيا إذ التأم كبار العلماء والكادر الأكاديمي والباحثون وطلاب الدراسات العليا في تخصصات ذات صلة بالقانون والاقتصاد والعلوم السياسية وغيرها، مع المسؤولين السياسيين والتنفيذيين المعنيين لوضع أفضل البرامج والسياسات لذلك المشروع.

وعندما أرادت دول البلقان أن تستثمر في مجال الطاقة دفعت نحو عقد اجتماع مفتوح لكراسي اليونيسكو في البلقان داخل كلية إدارة الأعمال بجامعة بوخارست للدراسات الاقتصادية، حيث أفاض العلماء والأكاديميون فيه حول موضوعات ذات صلة بما اجتمعوا من أجله، كتعزيز الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة وتوربينات الرياح العائمة ومشاريع الطاقة الكهرومائية والابتكارات في الطاقة النووية وأحدث التطورات في مجال الطاقة الخضراء.

وقد لا يربط البعض بين دور الجامعات وبين ولوج الصين إلى السوق الرأسمالي العالمي وتحولها إلى «مصنع للأرض» ولاحقًا إلى قوة اقتصادية ضاربة. وهنا يجب أن نُفصّل لأهمية الموضوع. فما بين عامي 1949م و1997م تحولت هونج كونج من بؤرة استعمارية بريطانية إلى عاصمة مالية عالمية ومحرك نحو التوسع وإعادة تشكيل الرأسمالية العالمية. فدور النخبة الصينية من صناعيين ومصرفيين وأكاديميين الذين جاؤوا إلى هونج كونج وسط الحرب والثورة كان محوريًا، فقد استخدم هؤلاء العلاقات الوثيقة لهونج كونج مع الولايات المتحدة الأمريكية للحصول على تعليم متقدم، وبحلول السبعينات كانت هونج كونج أكبر مرسل للطلاب الأجانب إلى الكليات والجامعات الأمريكية في العالم، ما جعلهم لاحقًا عرّابين لإعادة مشاركة الصين مع الرأسمالية العالمية، مستغلين عهد دنج شياو بينج وإصلاحاته الاقتصادية، إذ رُبِطَت القوى العاملة الصينية بالسوق الأمريكية وتاليًا حصل الصعود الاقتصادي الكبير للصين عالميًا.

إن الدور الذي تلعبه الجامعات لم يعد فقط تعليميًا بل أصبحت تلك الصروح مُولّدة للأفكار والابتكارات والمشورات العلمية النافعة وتجسير العلاقات بين الدول والشعوب. لذلك مهما بُذِلَ من أجلها لا يعتبر ترفًا بل تعضيدًا لها ودعمًا للعقول الوقَّادة، وعُمان ديدنها في ذلك جَلِي، وما السيرة العطرة للراحل السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه-، وعطاياه ومِنَحِهِ وكراسيه العلمية المنتشرة حول العالم إلاّ شاهد على ذلك. فكأنه كان يستحضر ما قاله الشاعر الأيرلندي وليم بتلر ييتس (1865م - 1939): أن تُعَلِّمَ لا يعني أنك تملأ إناءً بل إنك تُشعل نارًا. وبالفعل حين تدخل إلى قواعد بيانات نشر الدراسات المُحَكَّمة تبهرك، مشاركات الأكاديميين العُمانيين.

في الختام أقول: إن جامعة السلطان قابوس رسمت مستقبلاً ماليًا آمنًا لها وهو قابل للنمو والتنوع والتطور. كما أنه من المهم الإشادة هنا بنوع الاستثمارات التي قامت بها الجامعة كإنشائها شركة بيت الخبرة للمشاريع المتكاملة والتجارة، والمؤسسة الاستهلاكية الطلابية، ومركز عُمان للتقنية الحيوية البحرية، وهي جميعها مشاريع نافعة للإنسان وبعيدة عن ضرره. كل التحية لمسيرة العلم الراسخة في سلطنة عُمان الشقيقة.