أفكار وآراء

سياسة الهند الخارجية في مواجهة التحولات الدولية والإقليمية

21 سبتمبر 2020
21 سبتمبر 2020

د.صلاح أبونار -

تمنحنا السياسة الخارجية الهندية مؤشرا واضحا على التحيز الإدراكي، الناتج عن احتدام الصراع الأمريكي – الصيني وتصدره لمسرح النظام الدولي. فالهند التي تشكل ثاني كتلة سكانية في العالم بعد الصين، ورابع قوة عسكرية بعد أمريكا وروسيا والصين، وسادس اقتصاد عالمي بعد أمريكا والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا، وأول قوة تنجح في إدخال مركبتها الفضائية في مدار المريخ من أول محاولة، لا نجد سياساتها الخارجية في صدارة الاهتمام الإعلامي العام، بل نصادفها داخل مواقع لا يعرفها سوى متخصصون. يحدث هذا بينما تنتقل بؤرة السياسة العالمية صوب المحيط الهندي - الباسفيكى وشرق آسيا، ومعها تتصاعد التناقضات والتوترات الإقليمية وتبرز أهمية دراسة السياسات الخارجية لدول المنطقة الكبرى وعلى رأسها الهند.

مرت سياسة الهند الخارجية منذ استقلالها 1947 بثلاث مراحل. امتدت الأولى حتى نهاية الحرب الباردة 1989، والثانية من نهاية الحرب الباردة حتى أزمة 2008 الاقتصادية، لتدخل من أوائل العقد الثاني مرحلة ثالثة لا زالت ملامحها الأساسية آخذة في التشكل.

تفاعلت أربع قوى في تشكيل مسيرة المرحلة الأولى. نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة. وسياسة عدم الانحياز والكتلة الدولية المعبرة عنها خلال الخمسينات والستينات. وقيادة نهرو التاريخية بتعبيرها عن تقاليد الاعتدال والسلمية والتطور التدريجي والديمقراطية داخل حركة التحرر الوطني الهندية. والطابع التناقضي والصراعي للنظام الإقليمي الذي واجهته الهند بعد الاستقلال. إذ واجهت بعد انفصال باكستان خصما إقليميا يفصلها عن آسيا الوسطى، وتشكل عبر علاقة عقائدية صراعية قادت لثلاث حروب. ومع السيطرة الصينية على التبت وجدت نفسها للمرة الأولى في تاريخها في حدود مشتركة معها ومتنازع عليها. وتحت تأثير تلك العوامل نزعت السياسة الخارجية الهندية، صوب الاستقلالية الاستراتيجية عن القطبية الثنائية، والسعي لنظام دولي متعدد الأقطاب، وانتهاج منطق التوازنات الدولية وليس التحالفات الاستراتيجية. ولكن ضعف الإمكانيات الهندية، والتكلفة العالية للسياسات الخارجية المستقلة النشطة، وإمكانيات تفجر النظام الإقليمي بمنطقه الذاتي وبمنطق تحالفاته الدولية، جعل السياسات الهندية دفاعية ومحافظة. إلا أن الهند اكتشفت أيضا مزايا التوجه الدولي الدفاعي الموازن والمحافظ، إذ مكنها من حماية وحدتها في وجه عوامل التمزق الداخلي، وسمح لعمليات بناء الدولة والأمة بمواصلة النجاح، وأتاح فرصا قوية للنمو الاقتصادي وبناء قاعدة تكنولوجية مستقلة، وشكل سياقا مناسبا لتطور تجربتها الديمقراطية.

وانطلقت المرحلة الثانية بنهاية الحرب الباردة. مع نهايتها تحررت سياسة الهند الخارجية من قيود القطبية الثنائية، فوسعت نطاق شراكاتها الاستراتيجية ليشمل ما يزيد عن 30 بلدا، وعمقت نطاق تعاونها الاقتصادي الدولي، وحررت دورها داخل المنظمات الدولية. وصاحب تلك التحولات نتيجتان. داخليا انتهجت الهند سياسات إصلاح اقتصادي رفعت معدلات النمو السنوي من 3.5% في الثمانينات إلى 7% في أوائل الألفية، الأمر الذي وفر لها الإمكانيات المادية والتبادلية لممارسة دور دولي وإقليمي نشط، ومنح السياسة الخارجية قواعد مساندة داخل النخب الهندية. وخارجيا تمكنت الهند بالرغم من استقلالها عن سياسة واشنطن، من الاحتفاظ بتحالف استراتيجي قوى معها. شجعت واشنطن دور الهند الدولي لتوظيفها سياسيا كقوة آسيوية موازنة للقوة الصينية الآخذة في النمو، وللقوة الروسية المستديرة في عهد بوتين صوب آسيا، وكأداة لكبح احتمالات الدور الإيراني في آسيا، وكحليف داخل المنظمات الدولية. ومن جهتها رأت الهند في هذا التحالف قوة مناهضة للدور الصيني، ووسيلة لكبح السياسات الباكستانية، وكتحالف ضروري لمواجهة الصراعات المتصاعدة في بحر الصين الجنوبي، وكضمانة لا غنى عنها لتطوير قدراتها النووية والعسكرية. وابتداء من مطلع العشرية الثانية بدأت الهند تبحث عن مسار جديد لسياساتها الخارجية. تولدت تلك الحركة من تحولات السياقين الداخلي والخارجي. داخليا حققت معدلات تنمية عالية. ارتفع إجمالي الناتج القومي من 37 بليون دولار عام 1960 إلى 2.875 تريليون عام 2019، ونصيب الفرد من الدخل القومي من 90 دولارا عام 1962 إلى 2130 عام 2019، ونسبة المسجلين في المدارس الابتدائية من 78.514 % عام 1971 إلى 112.9% عام 2019، وتوقعات الحياة من 44.5 سنة عام 1965 إلى 69.4 عام 2018، ونسبة معرفة القراءة والكتابة من 40.7% عام 1981 إلى 74و4% عام 2018، وانخفضت وفيات الأطفال دون خمس سنوات من 241 لكل ألف طفل إلى 34 لكل ألف. ومن منظور مقارن حقق النمو الهندي معدلات عالية. في سنوات 1950 - 1964 كان معدل النمو السنوي المركب لنصيب الفرد الهندي من الدخل القومي 2.04%، وارتفع في سنوات 1980 - 2010 إلى 4.6%، بينما ارتفع في دول شرق آسيا من 3.54% إلى 4.18%. وفي عام 1980 كان نصيب الهند من الناتج القومي العالمي 3% ووصل عام 2016 إلى7.24%، ومن الصحيح أن الصين قفزت فيما بين التاريخين من 2.3% إلى 17.8%، لكن في المقابل انخفض نصيب أوروبا من 30% إلى 16.7%، والبلدان المتقدمة من 64% إلى 42%. وخارجيا شهد السياقان الدولي والشرق آسيوي تحولات جذرية. عالميا وقياسا على عقدي ما بعد الحرب الباردة، تصاعدت وتيرة الإرهاب الدولي والعنف الأهلي والهجرات الواسعة من مناطق الأزمات والتدخلات الخارجية، ورافق ذلك الانسحاب الأمريكي من النظام الدولي وتفكك تحالفاته التقليدية. وآسيويا عاودت الصراعات الجيوبوليتيكية التقليدية احتدامها، وانتقل ثقل الدور الأمريكي إلى شرق آسيا والباسفيكي ومعه ثقل تناقضاته، واتجهت الولايات المتحدة لتصعيد صراعاتها مع الصين وإيران وحولت بحر الصين الجنوبي إلى منطقة أزمات.

ولقد كان من شأن التحولات السابقة أن تدفع السياسة الخارجية الهندية صوب مرحلة جديدة لازالت في بداياتها. مرحلة تسعى للتعبير عن قوتها الجديدة، عبر التحول إلى «قوة قائدة» بلغة ناريندرا مودي، دون التخلي عن نزعتي الموازنة والتعاون الاستراتيجي. ومرحلة تطلق فيها سياسات جديدة لحماية مصالحها المهددة في سياق صراعاتها الآسيوية القديمة، الآخذة في الاحتدام في ظل السياقات الدولية والإقليمية الجديدة.

وتمنحنا سياسة الهند تجاه إيران وباكستان والصين نموذجا لإدارتها لأكثر سياقاتها الآسيوية حيوية وتوترا. يسيطر الصراع على العلاقات الهندية - الباكستانية. وسنجد أصل الصراع في تأسيس باكستان والدور البريطاني فيه، وحركة الصراع العرقي المصاحبة للتأسيس وما رافقها من عنف جماعي وترحيل لكتل سكانية واسعة، ومشكلات تعيين الحدود المصاحبة. وستدفع السياسات الباكستانية بتلك الصراعات، بفعل تحولاتها الداخلية التي ستؤجج التناقض العقائدي الأصلي، وعبر سياساتها الإقليمية في أفغانستان، وعبر نمط إدارة تحالفاتها مع الصين وروسيا والولايات المتحدة الضار بالهند. وستلجأ الهند إلى انتهاج حزمة من السياسات لحصر تداعيات صراعاتها مع باكستان. الحروب لحظة عجز الإدارة السلمية للنزاع، وتطوير قدراتها النووية لكبح احتمالات تصاعد النزاع، وتعميق تحالفها مع واشنطن لتحجيم دعمها لباكستان، والإدارة العقلانية لتناقضتها مع الصين لمحاصرة التوظيف الباكستاني له، ومد جسور التعاون لدول آسيا الوسطى لمحاصرة النفوذ الباكستاني.

شكلت إدارة العلاقات مع إيران معضلة دائمة أمام السياسة الهندية. للهند مصالح نفطية مع إيران يصعب قياسها، لأنها شديدة التأثر بسياسات الحظر المفروضة على إيران، ولكن المؤكد أن النفط الإيراني في ظل الظروف العادية هو الأقرب جغرافيا والأقل تكلفة والأكثر مرونة في سبل النقل. وللهند مصالح قوية في تطوير وجودها الاقتصادي في ميناء جابهار الإيراني جنوب شرق إيران، فسوف يوفر لها 20% من التكاليف اللوجستية لتجارتها مع إيران والدول الخليجية، وسيمنحها وصولا مباشرا للنفط الإيراني حال إغلاق مضيق هرمز، وسيسمح لها بمراقبة باكستان ويعزز قدراتها العسكرية، وسيمكنها من توطيد علاقاتها مع دول آسيا الوسطى، وأن تصبح جزءا من ممر النقل الدولي الآسيوي الممتد من الشمال للجنوب. وللهند مصالح استراتيجية في إيران، فهي تمنحها معبرا يتخطى الحاجز الباكستاني صوب أفغانستان واسيا الوسطى، وهي مناطق تشكل مرتعا لجماعات الإرهاب المسلح. ولكن الهند تواجه في توجهها الإيراني مشاكل عدة أخطرها التناقض مع أولويات حليفها الأمريكي. وفي مواجهة تلك الأولويات وتحولاتها المستمرة وجدت نفسها مجبرة على اتباع سياسة مركبة، تجمع بين الانصياع للموقف الأمريكي والتحايل الخفي عليه واللجوء لحلول غير معلنة ومتوافق عليها ضمنا مع واشنطن تمنحها هامشا من المناورة.

في 1988 توافقت الصين والهند على إطار استراتيجي لعلاقاتهما، أتاح للبلدين على مدى عقدين إمكانية تطوير علاقاتهما وإدارة خلافاتهما وحفظ السلام بينهما، ولكن التحولات السابقة قلصت صلاحيته. ويتصدر الآن بحر الصين الجنوبي قائمة قضايا العلاقات مع الصين. في 1991 كان 18% من ناتج الهند الوطني يأتي من التجارة الخارجية ويتجه أغلبها غربا عبر قناة السويس، وفي 2014 ارتفعت النسبة إلى 49.3% يتجه أغلبها شرقا، فأصبحت أكثر اعتمادا على البحر كممر لما قيمته 189 بليون دولار سنويا. حدث ذلك بينما أخذ النفوذ الصيني في التوسع داخل البحر، وازدادت كثافة الحضور الأمريكي داخلة وحوله ومعه احتمالات المواجهة العسكرية، وأخذت نزاعات دوله المتشاطئة تتصاعد لتقترب من حافة الانفجار. وهكذا أصبح على الهند مواجهة مشكلة ضمان أمن البحر، دونما التورط في نزاع مباشر مع الصين أو تحالف عسكري مع واشنطن، بل عبر فعاليات التفاوض والموازنة من خلال التحالفات الإقليمية الفعّالة.