أفكار وآراء

ليبيا.. هل تقف على مشارف الحل السياسي؟!

21 سبتمبر 2020
21 سبتمبر 2020

د. عبدالحميد الموافي -

حتى منتصف القرن الماضي، كانت بريطانيا وفرنسا هما القوتان الأكثر تأثيرا في الشرق الأوسط، ومع منتصف الخمسينيات والعدوان الثلاثي على مصر، بدأ تدهور قوتيهما، وبدأت أمريكا في زيادة نفوذها على حسابهما، كما بدأ الاتحاد السوفيتي السابق الدخول إلى المنطقة.

عبر صفقة الأسلحة التشيكية لمصر، ثم التعاون معها لبناء السد العالي، وحتى عام 2000 وانتهاء الحرب الباردة قبل ذلك بعقد كامل لم تكن القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، أي القوى غير العربية وهي تركيا وإسرائيل وإيران وأثيوبيا، ذات قدرة على التأثير في تطورات الشرق الأوسط على نحو ذي قيمة، أو بشكل ملموس، غير أن الموقف أخذ يختلف بشكل متزايد ومحسوس، بعد اجتياح العراق عام 2003 وإخراجه من معادلة القوة العربية نتيجة لذلك، ثم أحداث الربيع العربي، التي فتحت المجال واسعا أمام ما اسمته كونداليزا رايس «الفوضى الخلاقة» في المنطقة، والتي هدفت إلى تفكيك قواها العربية الرئيسية والعمل على إعادة تركيبها بشكل يتوافق مع المصالح والأهداف الغربية والأمريكية بشكل أساسي. ومع أن نموذج العراق فشل بشكل ذريع، إلا أن الغرب وأمريكا استمرت في خططها، واستعانت بحلف الأطلنطي أحيانا، كما حدث في ليبيا عام 2011 للإطاحة بالعقيد القذافي، ونظرا لعدم الاهتمام بمرحلة ما بعد القذافي، تحولت ليبيا إلى ساحة للصراع بين مختلف القوى المتربصة والطامعة في مواردها وفي موقعها الاستراتيجي، والمتطلعة أيضا إلى دور ونفوذ إقليمي جديد لها، وكما حدث في سوريا بعد عام 2011، تكرر الأمر في ليبيا بدرجة متماثلة إلى حد غير قليل، وفي الحالتين وغيرهما كان من أهم وأبرز الملامح هو تطور وتزايد نفوذ وطموحات ومخططات القوى الإقليمية للتمدد والتوسع في المنطقة على حساب الدول العربية ومصالحها المباشرة وغير المباشرة، صحيح أن القوى الدولية الرئيسية كانت لها حساباتها وخططها التي تباشرها بشكل ما، ظاهرة حينا ومستترة أحيانا، ولكن الصحيح أيضا هو أن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي يلملم أوراقه الآن، كان عقد توسع وتطاول القوى الإقليمية على حساب الأمة العربية بأشكال مختلفة وغير مسبوقة أيضا، ولا يخفف من ذلك أن تلك القوى الإقليمية حاولت، ولا تزال تحاول التستر أو تغليف أطماعها، ومخططاتها، باتفاق هنا أو تصريح هناك، أو حتى إعلان تحالف أو صيغة ما لا يأخذها الكثيرون مأخذ الجد لأنهم يعلمون أهدافها ومراميها المباشرة وغير المباشرة، المهم أن الساحة العربية أصبحت مفتوحة، وعلى نحو لم يحدث منذ عقود طويلة، أمام تأثيرات القوى الإقليمية التي تابعت وتتابع بقوة ونشاط العمل لتحقيق مصالحها المباشرة وغير المباشرة على حساب الجسد العربي المثخن والذي خارت قواه بفعل ما تعرض ويتعرض له على مدى العشرين عاما الماضية.

في هذا الإطار تجري الأحداث والتطورات في الشقيقة ليبيا، ذات المساحة الكبيرة والموقع الاستراتيجي في منتصف الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، والذي يشكل بطن أوروبا، ومن ثم لم يكن مفاجئا، ولا غريبا، أن تشهد الساحة الليبية صراعا ضاريا، مباشرا وغير مباشر، سافرا حينا ومستترا أحيانا، بين مختلف القوى المعنية، سواء كانت قوى دولية في مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا بقيادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا، أو كانت قوى إقليمية منها تركيا ومصر وبعض الأطراف الأخرى، إلى جانب القوى الليبية التي انقسمت وتوزعت بشكل كبير وتحالف بعضها مع ميليشيات متطرفة معروفة بتوجهاتها ومواقفها داخل ليبيا وخارجها، وقد انعكس ذلك كله على الأوضاع في ليبيا التي أخذت شكل المواجهات المسلحة والانقسام السياسي والعسكري بين شرق ليبيا وغربها أيضا. وأمام التطورات المتلاحقة على الساحة الليبية والتحركات المتتابعة والاتصالات الجارية بين الأطراف الليبية الداخلية وبينها وبين القوى الإقليمية والدولية في الآونة الأخيرة، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: أنه في الوقت الذي تخلصت فيه العاصمة الليبية طرابلس من التهديد الذي مثله الجنرال خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، بعد زحفه للسيطرة عليها في أبريل من العام الماضي، وذلك بعد هزيمة قواته على مشارف طرابلس، بفعل مساندة تركيا لقوات حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج والميليشيات المدافعة عن طرابلس في يونيو الماضي، ومن ثم تقهقر قوات شرق ليبيا، وتوقف القوات التابعة لحكومة السراج والميليشيات المتعاونة معها بالقرب من مشارف سرت، فإن جدية مصر ووضوح موقفها في أنها ستتدخل إذا تم تجاوز خط سرت / الجفرة واستعدادها العملي لذلك، ساهم إلى حد كبير في وقف تقدم قوات غرب ليبيا، خاصة وأن تركيا ومصر امتلكتا إرادة ورغبة تجنب المواجهة بين قوتيهما، أو بين الطرفين اللذين يدعمانهما، إدراكا منهما للمخاطر المترتبة على ذلك من ناحية، ولمعارضة القوى الدولية لأي تصعيد قد يؤدي إلى مثل هذا التصادم المدمر من ناحية أخرى. وبالفعل أصبح خط سرت- الجفرة بمثابة خط فاصل بين قوات شرق ليبيا وقوات طرابلس، خاصة بعد التوافق على وقف القتال في كل ليبيا، الذي أعلنه فايز السراج في 22 أغسطس الماضي واستجابة قوات حفتر، وتأييد الأطراف الليبية والدولية لهذه الخطوة الضرورية، والتي تيقن معها الجميع من أنه لا يمكن حل القضية الليبية عسكريا، وأن استمرار المواجهات المسلحة يدفع الشعب والدولة والمجتمع الليبي ثمنها من حاضره ومستقبله بأشكال مختلفة. وفي ظل الأمر الواقع هذا ازدادت وتيرة الحركة والاتصالات الساعية للتوصل إلى تسوية سياسية بين الأطراف الليبية، وكانت التحركات النشطة والمتعددة لرئيس مجلس النواب الليبي في طبرق عقيلة صالح، الذي زار العديد من العواصم المعنية بليبيا في الأسابيع الماضية، وكذلك مبادرة القاهرة، ومخرجات مؤتمر برلين، ومحادثات «خمسة +خمسة» بين قوات شرق ليبيا وقوات طرابلس، ثم اجتماعات ابوزنيقة في المغرب التي انتهت الخميس الماضي بين ممثلين لمجلس النواب الليبي المنتخب في شرق ليبيا وبين ممثلين للمجلس الرئاسي الليبي، وما رافقها من محادثات استضافتها القاهرة وشارك فيها ممثلون من المشاركين في محادثات المغرب، ذات تأثير إيجابي متزايد في التهيئة لحوار ليبي ليبي بهدف العمل للتوصل إلى حل سلمي للوضع في ليبيا.

ثانيا: إنه مع إدراك كل الأطراف لضرورة الحل السلمي في ليبيا، فإنه يمكن القول إنه تم التوافق على مبدأين أساسيين للعمل في إطارهما- قدر الإمكان بالطبع- وهما أنه ينبغي أن يكون الحوار المفضي إلى الحل حوارا ليبيا / ليبيا بالأساس، بمعنى استبعاد التدخلات الخارجية بكل أنواعها، وهو ما توافقت عليه الأطراف الليبية وبعض الأطراف الإقليمية والدولية، والمبدأ الثاني هو أن الحوار الوطني الليبي ينبغي أن يشمل كل القوى الليبية دون استبعاد أو استئثار لأي منها، وبذلك يتم استيعاب مختلف القوى الليبية الراغبة والحريصة على الحل السلمي وإعادة الاستقرار إلى ليبيا مرة أخرى. ومن خلال ذلك تم ضمان أنه لن تكون هناك قوى تعرقل أو تعطل تحقيقا لمصالحها الذاتية، وإذا حدث ذلك فإنه سيكون مكشوفا ومتصادما مع القوى الليبية الراغبة في الخروج من الأزمة الراهنة. وإذا كانت القاهرة والجزائر وتونس والمغرب قد أكدت على هذين المبدأين بصيغ مختلفة، فإن المحادثات التي استضافتها المغرب، والتي استضافتها القاهرة، تمثل خطوات مهمة للتقريب بين شرق ليبيا وغربها والإعداد لتصورات مشتركة للسير نحو الحل، وكان مشجعا أن يتفق الوفدان في المغرب على تقاسم المناصب الرئيسية والشروط الواجب توفرها في الشخصيات التي ستشغل هذه المناصب في الفترة القادمة.

يضاف إلى ذلك الأيام القليلة الماضية شهدت مواقف تتسم بالإيجابية والاستعداد لدفع ليبيا نحو السير على طريق الحل بشكل عملي، ومن بين هذه المواقف: الموقف الأول، إعلان فايز السراج استعداده للتخلي عن منصبه في نهاية شهر أكتوبر القادم وذلك بعد تشكيل مجلس رئاسي جديد وحكومة جديدة في ليبيا. وبالرغم من أن ذلك أثار ردود فعل عديدة داخل ليبيا وخارجها، إلا انه يعطي دفعة للعمل والبحث عن نقاط توافق بين الأطراف الليبية لإعادة استجماع القوى الليبية مرة أخرى من أجل المصالح الوطنية الليبية وتجاوز الانقسام الذي استمر منذ عام 2015 بعد التوصل إلى اتفاق الصخيرات.

الموقف الثاني يتمثل في إعلان عبدالله الثني رئيس الحكومة في بنغازي تقديم استقالة حكومته إلى رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح، ومع أن هذه الخطوة جاءت بعد مظاهرات شهدتها مدينة بنغازي احتجاجا على تدهور الخدمات وزيادة المشكلات الحياتية في شرق ليبيا، إلا انه لا يمكن فصلها عما يجري في طرابلس والمحادثات في المغرب أيضا وما توصل إليه عقيلة صالح في محادثاته مع مختلف الأطراف المعنية بالأزمة الليبية، وبالتالي فإنها خطوة قد تسهم في التمهيد لإيجاد، أو لتشكيل حكومة ليبية موحدة لكل ليبيا، إذا تمت إعادة تشكيل المجلس الرئاسي والحكومة واستقالة السراج.

الموقف الثالث يتمثل في إعلان خليفة حفتر إعادة إنتاج النفط، الذي تم وقفه قبل عدة أشهر، على أن يتم تقسيم عائداته بشكل عادل ومتابعة إنفاق تلك العائدات. ومع الوضع في الاعتبار أن واشنطن كان لها دور في هذا الأمر، إلا أن إعادة إنتاج وتصدير النفط الليبي من شأنه أن ينعش الخزينة الليبية ويدفع نحو مزيد من التقارب والتوافق بين شرق وغرب ليبيا واستعادة مؤسسات الدولة الاقتصادية لعملها بما يخدم المصالح الليبية. يضاف إلى ذلك أن لجنة الحوار الوطني الليبي قررت تشكيل لجنة إدارية تضم ممثلين عن مختلف القوى الليبية للإشراف على إنفاق وتوزيع العائدات النفطية الليبية، وهي خطوة من شأنها-إذا تحققت- استعادة الثقة بين الأطراف الليبية، والدفع نحو السير لحل سلمي لصالح ليبيا الدولة والمجتمع والحفاظ على وحدتها الترابية والسياسية.

ثالثا: إنه في ظل التقاء معظم الأطراف المعنية بالأوضاع في ليبيا على ضرورة الدفع نحو حل سلمي يتسع لاستيعاب كل القوى الليبية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة الليبية مرة أخرى، بما في ذلك القوات المسلحة الليبية، وهو أمر شديد الأهمية لنجاح التحركات الحالية والقادمة، إلا أن السير على طريق الحل، واستقالة فايز السراج قد تترتب عليه خسائر لبعض الأطراف الإقليمية التي ارتبطت باتفاقيات متعددة مع حكومة الوفاق الليبية في الأشهر الماضية، ومما له دلالة في هذا المجال أن تركيا أعربت عن أسفها لإعلان السراج عزمه الاستقالة، ومن ثم فإن مصير تلك الاتفاقيات سيتم التعامل معه من جانب السلطات الليبية الجديدة، خاصة وأن الاتفاقيات التي أبرمت لم يتم عرضها على مجلس النواب الليبي المنتخب، وهو الذي سيقرر مصيرها في النهاية باعتباره المجلس التشريعي المنتخب، على أية حال فإن ليبيا تقف الآن على مشارف الطريق نحو الحل السلمي ولعلها تتمكن من تجاوز أية عراقيل أو عقبات من أجل أن يعود السلام والاستقرار إلى ليبيا الشقيقة مرة أخرى.