9966
9966
الثقافة

العمل بهيئة الكتاب.. من جديد.. المقهى الثقافي ومعرض الكتاب «6 ـ 10»

18 سبتمبر 2020
18 سبتمبر 2020

المرة الثالثة كانت قبل ذلك بأعوام. كنت أجلس في المقهى المجاور لخيمة الندوات، وجاءني غلام صغير وسألني: «هل حضرتك مسؤول عن المقهى الثقافي؟» قلت له: «أجل» قال لي: «أنا تلميذ من بني سويف في السنة الثانية الإعدادية، وأتيت أبحث عن عمل بالمعرض ودلوني على حضرتك، أريد أن أعمل أي شيء، فنحن في إجازة نصف السنة، وأعود بأي نقود إلى أسرتي الفقيرة» سألته عن عمره. عرفت أنه في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة لا أذكر بالضبط. قلت له: «المقهى الثقافي هذا تابع لهيئة الكتاب، والهيئة جهة حكومية لا تسمح لعمل أحد أقل من ستة عشر عامًا، حتى لو عمل مؤقت؛ لأنها جهة رسمية» صعُب عليَّ حاله وتغير سمات وجهه. أخرجت من جيبي ما فيه وكانت خمسين جنيهًا لا غير قدمتها له، وقلت له: «خذ هذه مني، وابحث عن عمل في أي دار نشر خاصة بالمعرض ربما تجد فرصة» مشى الغلام، وجلست مع الأصدقاء، لا أفكر في أي شيء، وفجأةً وفد عليَّ شاب تجاوز الثلاثين من العمر، سألني: «حضرتك إبراهيم عبد المجيد؟» قلت: «أجل» قال: إنه صاحب دار نشر سورية - للأسف نسيت اسمها الآن واسمه أيضًا- ويريد أن يطبع لي أي رواية ولو قديمة. طلبت منه الجلوس وقلت له: يمكن أن تطبع رواية «المسافات». يمكن أن تمر على دار المستقبل العربي التي طبعتها وتشتري نسخة وتطبعها في سوريا. ليس لدار المستقبل أي حقوق عندي؛ لأنها مطبوعة من زمان» أخرج من جيبه خمسمائة جنيه وأعطاها لي مقدمًا بإيصال حتى يكتب العقد وأنا في ذهول. قلت لنفسي: «الحسنة بعشرة أمثالها وفي الحال يا رب» مشى هذا الناشر من أمامي، ولم أره حتى اليوم، ونسيت اسمه كما قلت ونسيت اسم دار النشر التابعة له، ولم أسمع أن الرواية تم نشرها في سوريا قط! المهم يومها لم أعد إلى البيت مباشرةً. ذهبت إلى الجريون، وسهرت أحكي القصة للأصدقاء في دهشة من كون الحسنة بعشرة أمثالها في الحال ونضحك وعزمت عددًا كبيرًا منهم. قابلت الغلام الصغير بعد يومين صدفة واقفًا أمام مكتب سمير سرحان، وعرفت منه أنه وصل إليه، وأن الدكتور سمير طلب منه أن يقف بباب المكتب ويعطيه كل يوم مبلغًا جيدًا من جيبه. انتهى المعرض ولم أرَ هذا الغلام بعد ذلك أيضَا. لقد حقق له سمير سرحان ما أراده.

سأتحدث الآن عن مواقف أخرى في معرض الكتاب، بطلها أيضًا هو الرئيس الأسبق حسني مبارك. كان حسني مبارك كما هو معروف يفتتح معرض الكتاب كل عام، وبعد جولة له بين دور النشر يقام لقاء له مع المثقفين. حضرت كثيرًا ذلك اللقاء، وانقطعت عنه في السنوات الخمس الأخيرة كسلا فلقد حفظته. كنت وعدد من الكتاب نتعمد الجلوس في آخر صف حتى نتحدث براحتنا. يبدو أن المنظمين للقاء لاحظوا انقطاعي عن تلبية الدعوة فصاروا بدورهم لا يوجهونها إليَّ. كان اللقاء في الحقيقة مناسبة للضحك، فلا بد من الاعتراف أن الرجل- مبارك- كان لا يأخذ أي شيء على محمل الجد، وكان يذهب بالأمر دائمًا إلى منطقة السخرية والضحك. كانت هناك أسئلة مهمة جدًّا في السياسة والمجتمع من البعض، لكن اللقاء المسجل كان كما قلت من قبل لا يبث كاملًا على الهواء. يبث بالليل، ومن ثم كان التلفزيون المصري يتعمد في المونتاج حذف الأسئلة المهمة والإبقاء على الأسئلة الساذجة، ومن ثم كانت صورة الكتَّاب تبدو مضحكة وتدعو إلى السخرية. يخفي التليفزيون الأسئلة الجادة، كما كان الرئيس نفسه يحول الأسئلة الجادة إلى سخرية، فلا يكون أمامنا إلا الضحك. أذكر مرةً سألته الكاتبة سلوى بكر قائلة: «لماذا لا يحصل أبناء الزوجات المصريات اللاتي تزوجن عربًا على الجنسية المصرية؟» فكان جوابه: «يعني هما العرب بس اللي عندهم صحة؟ ما المصريين زي الفل» بعد ذلك بسنوات حصل أبناء المصريات المتزوجات من العرب على الجنسية المصرية، لكن ذلك كان من أثر زوجته سوزان مبارك والمجلس القومي للمرأة. في إحدى السنوات غرقت سفينة تُسمَّى «سالم إكسبريس» في البحر الأحمر، وكان اللقاء بعد الحادثة بوقت قليل، فالحادثة كانت في منتصف ديسمبر عام 1991، والمعرض في يناير التالي. الحادثة هزت مصر إذ اصطدمت الباخرة العائدة من السعودية بالشُّعب المرجانية قرب ميناء سفاجة، وتأخر إنقاذ ركَّابها حتى الصباح بعد أن غرقت في ربع ساعة، فمات 476 شخصًا، خاصة أن المنطقة حافلة بأسماك القرش والباراكودا المتوحشة، ونجا 178 شخصًا فقط. في لقاء المعرض وقف الكاتب المسرحي علي سالم ليتحدث فقدم اسمه قائلًا: «علي سالم كاتب المسرح» فقال الرئيس ضاحكًا: سالم إكسبريس.. معقول؟!.

لكن من أطرف ما حدث كان مع المرحوم محمد سيد أحمد الكاتب والمناضل الماركسي المعروفه. كان محمد سيد أحمد يسأل الرئيس كل عام سؤالًا صعبًا جدًّا، والرئيس يسمعه وتتسع ابتسامته ثم يقول: «والله يا دكتور محمد ما أنا فاهم حاجة. استنى نقعد لوحدنا بعدين» ونضحك. كانت لغة محمد سيد أحمد هي الصعبة في مقالاته أصلًا ومن ثم في أسئلته. كان يفعل ذلك كل عام. ذلك العام قال له الرئيس: «قوم يا دكتور محمد قل لنا السؤال الصعب» ضحكنا طبعًا، ولم يستطع محمد سيد أحمد أن لا يلبي طلب الرئيس.. كان اللقاء هذه المرة في القصر الجمهوري، ومن ثم كان الرئيس جالسًا أمامنا، ونحن أمامه قريبون جميعًا منه، كان رئيس الوزراء ذلك الوقت الدكتور عاطف عبيد، وكان يجلس على يمين الرئيس. وقف محمد سيد أحمد وحاول أن يكون سؤاله واضحًا جدًّا وسهلًا جدًّا، فقال: «يا سيادة الرئيس كان زمان هناك قوتان في العالم هما الاتحاد السوفييتي وأمريكا، الآن قوة واحدة فقط هي أمريكا، لكن هناك قوتين في الاقتصاد.. شمال وجنوب. شمال غني وجنوب فقير، وفي مصر نفسها أغنياء وفقراء، أو شمال غني وجنوب فقير، نريد من الدولة أن تقرِّب المسافة بين الشمال الغني والجنوب الفقير في مصر» نظر إليه الرئيس مليًّا مبتسما كعادته، لم يكن يبتسم هذه المرة من صعوبة السؤال، فالسؤال سهل جدًّا وواضح. لكن من سهولة السؤال. بعد أن نظر إلى محمد سيد أحمد لحظة مبتسمًا قال لعاطف عبيد: «يا عاطف، اعمل لهم أسانسير».

مرة أخرى كانت مع يوسف إدريس. بيني وبين يوسف إدريس غرام وجنون.. كنت أراه كل عام يجلس في الصف الأول في لقاء الرئيس حسني مبارك، المهم أني ذلك اليوم جلست في الصف الثالث، كان جالسًا به الدكتور المرحوم سيد حامد النساج، وأشار إليَّ عند دخولي من باب القاعة أن أجلس بجواره لأنه يريدني في أمر ما، كانت عادتي أن أجلس في الصفوف الأخير لأنام أو أتحدث براحتي مع من يجاورني. دخل يوسف إدريس. رأيته يهل كالبرق ووقف متحيرًا ثم غاضبًا فلا مكان في الصفوف الأولى، وحتى لا أجعله يغضب أكثر وقفت أشير إليه. أخبرته بجلوسي هنا لأحجز له المكان لأنه تأخر، لم يكن مبارك قد حضر بعد إذ كان يحضر بعد جولة في المعرض. جلس يوسف إدريس مكاني قائلًا لي: «أعرف أنك لم تفعل ذلك من أجلي، لكن شكرًا يا إبراهيم». جلس في ضيق. جاء مبارك فقام يوسف إدريس على الفور وقال: «أريد أن أتكلم قبل أي أحد؟» قال له مبارك: «تفضل يا دكتور يوسف» قال يوسف إدريس: «إنك يا سيادة الرئيس ترى الوزراء كل أسبوع، وربما كل يوم، ولا ترانا إلا كل عام، فكيف يأتون في يوم لقائنا ويجلسون في الصف الأول، أرجو في العام القادم أن يجلس الوزراء في الخلف»، صفقنا وضحك مبارك على عادته، فلم يكن يأخذ أي شيء بجد، وقال له: «حاضر يا دكتور يوسف» لكن يوسف إدريس لم يعش للعام القادم، فقد مات في أول أغسطس من العام نفسه.


انتهيت من كتابة هذا الجزء وأنا أستمع إلى بيتهوفن ومقطوعته من (أجل إليز)، التي اكتُشفت متأخرة وعُزفت عام 1867 بعد وفاته بأربعين سنةً. لم يتوصل أحد إلى مَن هي إليز، وقيل: إن بيتهوفن عرف فتاة اسمها تيريزا مالفاتي، كانت تلميذة تدرس عنده، وأنه لسوء خطه قُرئت إليز. المهم أنها معزوفة بيانو متبتلة توقظ كل الماضي الحنون وكل الذكريات الطيبة وتسبح بك في فضاء من المحبة للبشر. وأعتذر إذا كانت قد تسللت بعض مواقف ليست مضحكة، فلقد كان أثرها عليَّ شديدًا لكني حاولت أن أخفف منها وأن لا أدين أحدًا، فالكل من الفضاء قادم وإلى الفضاء يعود. لم يعد لي في هذا العالم إلا الله، أقول له: «أنقذنا يا رحمن؛ فلقد ضاقت عليَّ البلاد»، وأحاول أن أكذب وأضحك وأنا أرى الأوطان حولي في خراب، ووطني لا أعرف أين هو!».