الثقافة

إبراهيم عبدالمجيد :العمل بهيئة الكتاب جانب آخر من قضايا النشر

15 سبتمبر 2020
15 سبتمبر 2020

حين كنت أتولى رئاسة تحرير سلسلة كتابات جديدة، كان لنا مكتب هزيل لا يشجع على الحضور، فكنت أترك الحضور لفتحي عبد الله وأيمن حمدي. عادة كنا نخرج إذا ذهبت إلى هناك ونجلس في مقهى صغير قريب في الطريق إلى السبتية، ويبدأ كلاهما يتحدث في الكتب التي وصلت إليه والتي علينا أن نقرأها. كانت القراءة الأولى لهما وبالذات لفتحي عبد الله. لم أكن أعطي أحدًا من الخارج ليقرأ إلا نادرًا. فعلتها مرتين فقط مع شخصين وكادا ينتهيا بي إلى السجن؛ الأول منهما أعطيته رواية لشاب عن الهجرة والعمل في السعودية، عادت الرواية ومعها تقرير يقول إنها رواية جيدة عن الهجرة في الخليج والأمر مفوض للهيئة. في ذلك الوقت كانت المعركة ضارية حول رواية "الصقار" عام 1996. تقرير ذلك الكاتب كان يمكن أن يمر عاديًا، لكني بالليل داهمني كابوس قوي مفزع، فصحوت من الكابوس أستعيذ بالله. الكابوس كان يقول لي إن في الرواية كارثة، ورأيت نفسي واقفًا في المحكمة عاريًا. تذكرت الجملة الأخيرة من التقرير وكيف "أن الأمر مفوض للهيئة". هو هكذا يغسل يديه من الرواية المعجب بها. ذهبت إلى الهيئة صباحًا دخلت إلى قسم المونتاج وسألتهم عن الرواية، فقالوا سوف تنزل إلى المطبعة لتطبع اليوم. قلت لهم أن ينتظروا حتى أقرأها وأنا جالس بينكم. فتحت الصفحة الأولى. كان بها إهداء إلى أنا صاحب رواية (البلدة الأخرى) وكنت أعرف. دخلت إلى الصفحة الثانية أول صفحات الرواية بعد الإهداء فوجدت بعد السطر الثاني كلامًا لا يمكن نشره أبدًا لا فنيًّا ولا اجتماعيًّا ولا أخلاقيًّا. يقول البطل بعد وصوله ونزوله من الطائرة "أنا رايح أعيش بين الشعب السعودي..."، وكل الألفاظ السيئة يصف بها الشعب السعودي. بعدها "أنا لازم..."، وكلام جارح جدا. لم أكمل الرواية ومنعت نزولها المطبعة، وبعدها أخطرت صاحبها باعتذاري عن نشرها. طبعًا لا يمكن الدفاع عن هذا النوع من الأدب بأي طريقة وبالذات فنيًّا. الفن ليس كلامًا مباشرًا، لكنه تصوير ومواقف. يمكن لشخصية في الرواية أن تشتم أخرى بأحط الألفاظ لكن أن يشتم شعب فهو كلام لا قيمة له فنيا. ثم إن هذا الكاتب يهدي الرواية لي، وهذا سيؤكد أمام أي محقق أني مساهم في هذا القذف الذي لا معنى له والذي لا يقترب من الفن أبدًا. بدأ البعض يهاجمني في الصحف. ولن أدخل في تفاصيل فقد كانت أياما سوداء وخلاص. ما يهمني هو سمير سرحان الذي قال لي إن ما يحدث جميل؛ لأنه يوضح أننا لا رغبة لنا بنشر أعمال تثير المشاكل وهذا أمر طيب. كان تعليقًا ذكيًّا منه، وطلب مني أن لا أرد، وطبعًا لم أرد. نشر كاتب الرواية عن السعودية روايته على حسابه في إحدى دور النشر الخاصة بعد أن حذف كل الشتائم في الشعب السعودي وحذف طبعًا الإهداء إليّ، لكنه للأسف توفي بعد ذلك - عليه رحمة الله.. تلك الأيام أذكر فيها كتَّابًا وافقوا على حذف بعض الكلمات أو تغييرها، فقد صارت هناك رقابة يعد أزمة رواية "الصقّار" على ما ينشر وصلت إلى مَن يطبعون ومَن يوزعون في المكتبات! وهناك كتّاب بعد أن صدر لهم ديوان في السلسلة أو مجموعة قصصية، احتج حتى العاملون والموزعون في الهيئة عليه. كانت مصادرة الكتاب تعني إعدامه وأنه لن يدخل في الحسابات. لم يكن يُعدم، بل يبيعه عمال المخازن لحسابهم في سور الأزبكية. حدث ذلك لكاتبين وأخبرتهما أن لا يقلقا فالكتاب سيكون بالأزبكية في اليوم التالي بنصف جنيه وتفهما الأمر. لكن ظلت في نفسي حيرة، فمَن أُرضي الآن؟ ليس كل الكتاب سيتفاعلون بالإيجاب، ولم أعد قادرًا على وقف طوابير المراقبين للكتب، كما أن هناك مَن لا يتقبل ذلك ويحدث ضجة رغم قلتهم ، وليست هذه بدولة تحترم الإبداع، ففي مجلس الشعب ينتظر الإخوان. ضاقت نفسي من السلسلة، ولم يجعلني أستمر غير تفهم أكثر الكتاب لكن لم يطل الوقت. ثم استقلت منها عام 2000 بعد ثلاث سنوات.البعد عن ذلك أفضل لي لأتفرغ للخيال. *** أعود الآن إلى الضحك، وكيف كنت أترك الأمر لفتحي عبد الله وأيمن حمدي يستقبلان الكتب، وأحيانًا أكون موجودًا، فيأتي من يقدم لي رواية أو ديوان شِعر. كان هناك بسطاء طيبون جدًّا، لكني كنت شريرًا في بعض الأحيان من باب الضحك فقط والله. يأتي الواحد معه حقيبة بها كتب كثيرة مخطوطة يقدم لي رواية. من صفحتها الأولى أعرف أنها لا تصلح لسوء اللغة أو سذاجتها، فأقول له: "للأسف نحن متوقفون عن نشر الروايات بعض الوقت وننشر قصصًا قصيرة". كان هذا يحدث بعد حوار معه عمن قرأ وماذا قرأ في الأدب ومَن يحب أن يقرأ فلا أجد له معرفة بشيء. حين أعتذر عن الرواية ليس لأنها سيئة، ولكن كما قلت لأننا لا ننشر الروايات الآن حتى لا أحرجه، يُخرج مجموعة قصص من الحقيبة أقرأ واحدة، فأجد كلامًا فارغًا، فاعتذر أنها كبيرة الحجم، فيخرج ديوانًا أقرأ بعض شِعره، وأعتذر أنه سيتأخر عامًا فيخرج قصصًا للأطفال. كان هذا مربكًا لي جدًّا ومضحكًا. ذات مرة جاءني واحد من هذا النوع الجميل، يقول إن ما يكتبه تتم سرقته، فسألته أين نشرته؟ فقال قبل النشر. سألته كيف حدث ذلك؟ فقال لا أعرف، ولكن كل ما أكتبه أجد غيري ينشر مثله، وآخر ما حدث أني كنت أمس أفكر في مسلسل فوجدته يُعرض أمامي على الشاشة. سألته: من أين أنت؟ فقال: من سوهاج. قلت له ضاحكًا: لماذا لا تخبر الكاتب عبد العال الحمامصي فهو من سوهاج ليساعدك؟ قال لي: إنه هو الذي يسرق أفكاره قبل أن يكتبها. طبعًا ضحكت وقلت له: لن يحل مشكلتك غير الأستاذ ثروت أباظة وكيل مجلس الشورى، وأعطيته خطابًا كتبته بالقلم الجاف على ورقة بيضاء بخطي أقول فيه السيد الأستاذ ثروت باظة وكيل مجلس الشورى رجاء مساعدة حامله. خرج فرحًا ولم أسمع به بعد ذلك أو أراه. راقتني هذه الفكرة المجنونة، فأعطيت البعض خطابات لمشاهير. قررت أن يكون العبث هو الحل والضحك متوقِعًا أن أيًّا منهم سيخبر صديقًا له بما جرى فيخبره بدوره أني أهزر معهم مثلًا. الحقيقة لا أعرف ولم أقابل أيًّا منهم بعد ذلك. أحدهم جاء لي بكتاب عن الكرة الأرضية، فسألته وأنا أنظر في آخر الكتاب "ألا توجد مراجع علمية للحديث عن الفَلك؟" فقال لي إنه يخشى أن يكتب المراجع، فتعرف أمن الدولة مصادره! هؤلاء رغم العبث والضحك كانوا طيبين يملؤون وقتنا بالضحك والدهشة وأرثي لهم، وهكذا مهنة الكتابة متاحة لكل مُصاب في روحه أو عقله. لكن فتحي عبد الله كان يفعل شيئًا آخر. كان يأخذ المجموعة القصصية من الكاتب أو الديوان أو الرواية، ويقول له إن الأستاذ إبراهيم سيكتب المقدمة بنفسه للكتاب. عرفت ذلك حين رأيت كاتبًا نشر -في جريدة الجمهورية أو المساء لا أذكر بالضبط- خبرًا أني سأكتب له مقدمة كتابه. سألت أيمن حمدي عن الكتاب، فضحك، وسألت فتحي عبد الله، فضحك. سألت فتحي من أين جاءت الجريدة بهذه المعلومة؟ قال لي من الكاتب وأنا الذي قلت له ذلك. سألته إذنْ أين الكتاب؟ قال لي " ولا فاكره. يا عم إحنا في ورشة مجانين".. ضحكنا وطلبت منه أن يفعل ما يشاء، لكن يتوقف عن الوعد بأني سأكتب المقدمة. وتوقف. كان الضحك يعيننا رغم المشاكل التي تنتظرننا، وكنا لا نتقاضي أجورنا إلا بعد وقت طويل. كان أجري عن العدد كرئيس تحرير ثلاثمائة جنيه، وفتحي عبد الله مائتي جنيه، وأيمن حمدي مائة وخمسين جنيهًا، وكان غيرنا من الصحفيين يتقاضون الآلاف على رئاسة تحريرهم لأي مطبوعة في الهيئة أو في الثقافة الجماهيرية أو مواقعهم كمستشارين -كانت هذه هي الحظيرة التي اتهم بها فاروق حسني، وبالمناسبة كلمة الحظيرة جاءت أول مرة في حوار مع فاروق حسني في مجلة الأهرام العربي، وكان يقصد بها أن تكون الوزارة حاضنة للأدباء وخانه التعبير، لكنها مشت واتهم بها الأدباء على إجمالهم. كنت أعرف أن كتَّابًا يريدون الشهرة بأي طريقة كانوا يرسلون كتبهم بعد النشر بطريقة ما إلى الأزهر ليحتج عليها. قررت الابتعاد، وبعد استقالتي وفي العام نفسه ابتعدت أيضًا عن العمل بالمقهى الثقافي، لكن كان السبب مختلفًا. كان السبب هو وفاة زوجتي بعد رحلة شاقة لها ولي معها مع السرطان، ولم تعد بي رغبة في أي عمل، وأحسست أني كبرت على هذا العمل. تركته لحسن سرور ومعه شعبان يوسف يديرانه، وأخبرت سمير سرحان أن ينساني، لكن ذكريات المقهى الثقافي كانت حلوة في كثير جدًّا من الأحيان.