1509586
1509586
الثقافة

ربع قرن في مطبخ واشنطن بوست

14 سبتمبر 2020
14 سبتمبر 2020

ليونارد دواين -

ترجمة أحمد شافعي -

كانت الساعة قد تجاوزت لتوها الثانية والنصف من صباح الثامن من نوفمبر سنة 2000، حينما أدركنا أن الانتخابات الرئاسية التي شهدت تنافسًا غير مسبوق لم تنته بعد. كنت واقفا بجوار غرفة الأخبار شبه المهجورة مع ستيف كول الذي كان قد أصبح مديرًا للتحرير عندي منذ سنتين. وكنا نحاول أن نقرر ماذا يمكن أن نفعل في زنكات الصفحة الأولى التي وضعت للتو على المطابع. هل يجب أن تخرج الصفحة الأولى من الطبعة الأخيرة لصحيفة واشنطن بوست في صباح ذلك اليوم بخبر عن فوز جورج دبليو بوش حاكم ولاية تكساس؟

كان مراسلنا السياسي الفذ دان بلاز قد كتب ثلاث فقرات افتتاحية بديلة لخبر الانتخابات. إحداها تعلن فوز نائب الرئيس آل جور مثلما توقعت شبكات التليفزيون في وقت مبكر جدًا من الليل. والثانية لفوز بوش مثلما توقعت القنوات التلفزيونية بعد الثانية والربع صباحًا. وثالثة نسخ بلاز قالت: إن الانتخابات لم تحسم بعد. فبعثت نسخة فوز بوش إلى قسم تنفيذ الصفحة الأولى من الطبعة النهائية؛ لأن المصادر أخبرت بلاز أن جور على وشك التسليم بهزيمته في الانتخابات.

وفي الدقائق الأخيرة قبل تشغيل المطابع لطباعة الطبعة النهائية، بدأت الشكوك تنتابني أنا وكول. كان قد تقدم بوش في ولاية فلوريدا الحاسمة آخذًا في التراجع. وكنت قد اخترت كول ليكون خلفًا لبوب كايزر مديرًا للتحرير عندما ترك كايزر منصبه ليؤلف الكتب ويكتب الأخبار للصحيفة؛ لأن كول ـ شأن كايزر ـ كان يفوقني ذكاء. تناول كول، ذو الوجه الطفولي الجميل، والشعر الأشعث، ونظارات التلامذة، قلمًا ومضى يخربش أرقامًا على قصاصة ورق.

عقدنا مقارنة بين تقدم بوش المتراجع في فلوريدا وبقية الأصوات التي لم تفرز بعد. وأدركنا أن الفرصة حسابيًا لم تزل سانحة لجور في التغلب عليه، أو أن هامش الفوز الضيق لأي من الرجلين في الولاية كفيل على أقل تقدير بفرض إعادة فرز الأصوات.

اتصلت بمدير النوبة الليلية في قسم التنفيذ وأمرت بسحب زنكات الصفحة الأولى من المطبعة فورًا. وفي غضون دقائق، أُرسلت المقدمة البديلة لخبر بلاز عبر الكمبيوتر وطبعت على الزنكات. وسرعان ما بدأت مطابعنا في طبع الجريدة وعلى صفحتها الأولى هذا العنوان: «الانتخابات الرئاسية المثيرة تنتظر إعادة الفرز في فلوريدا».

في قرابة الساعة الرابعة صباحا أخبر أحد مساعدي بوش الصحفيين أن جور اتصل ببوش قبل ساعة لإعلان هزيمته في الانتخابات، ثم عاود الاتصال للتراجع عن إعلانه، وسوف يعاد الفرز في فلوريدا لتحديد من يكون الرئيس.

قمنا بتحديث جميع أخبارنا لطبعة ملحق الانتخابات الذي اكتمل وبات جاهزًا للبيع بحلول العصر، وللمرة الأولى في انتخابات رئاسية، قمنا أيضا بتحديث موقعنا الإلكتروني ساعة بعد ساعة لنسجل رقمًا قياسيًا في عدد جمهور موقعنا.

تفادينا كارثة.. لم يكن الأمر في مثل سوء عنوان «ديوي يهزم ترومان» على الصفحة الأولى من صحيفة شيكاجو ديلي تريبيون سنة 1948، لكنني لم أكن لأرغب في تعريض البوست -أي صحيفة واشنطن بوست- لحرج نشر خطأ فادح في الصفحة الأولى في ليلة الانتخابات.

قرابة عشرين جريدة كبيرة أخرى أخطأت وأعلنت فوز بوش بعناوين عريضة في صدر الصفحات الأولى من طبعاتها الصادرة في الثامن من نوفمبر، ومنها ميامي هيرالد ونيويورك تايمز ويو إس آيه توداي وبوسطن جلوب وفيلادلفيا إنكويرر ودالاس مورننج نيوز. وتوقعت الشبكات التليفزيونية الفائز مرتين وأخطأت في المرتين. لكن من الذي كان يحسب؟

في ذلك الوقت، كنت مديرًا تنفيذيًا لواشنطن بوست منذ قرابة العقد، بعد إدارتي لغرفة الأخبار فيها على مدى سبع سنوات قبل ذلك كمدير للتحرير تحت رئاسة بين برادلي. كنت قد التحقت بالجريدة متدربًا صيفيًا سنة 1964. عملت صحفيًا استقصائيًا، وكنت من المحررين المشاركين في خبر ووترجيت، ومحرر أخبار محلية، ومراسلا في لندن، ومحرر أخبار وطنية. وكنت قياديًا مشاركًا، أترك مكتبي لأقضي أغلب اليوم متجولًا في غرفة الأخبار. وكان دون جراهام الرئيس التنفيذي لشركة واشنطن بوست وبو جونز ناشر الصحيفة يعهدان إليَّ بجميع القرارات المتعلقة بإدارة غرفة الأخبار وتغطية الأخبار.

وغرف الأخبار لا تقوم على الديمقراطية. فلا بد لشخص أن يتخذ القرارات النهائية بشأن ما ينشر في الجريدة، أو يبث على الهواء، أو يطلق على الإنترنت. وقد اتخذت قرارات لا حصر لها على مدار ربع القرن الذي قضيته مديرا لتحرير البوست ومديرًا تنفيذيًا لها. أيّ الأخبار ينشر في الصفحة الأولى؟ متى يكون خبر قد يثير الجدل جاهزًا للنشر؟ هل الخبر دقيق ومنصف؟ هل ينطوي على اقتراف محتمل للتشهير؟ متى تكون لغة خبر أو صورة مسيئة للقراء؟

وفوضت في بعض القرارات محررين أذكياء وموهوبين يعملون تحت رئاستي، لكنني كنت منخرطا انخراطا غير معتاد، فكثيرًا ما كنت أطرح الأسئلة، وأقدم الاقتراحات، وأقرأ مسودات الأخبار، وأشارك المحررين والصحفيين في مناقشات اتخاذ القرارات. وفي حين كانت تلك الأخبار تأتي من خلال الصحفيين، كنت أرى نفسي عاملًا حفازًا يمكِّنهم من تحقيق أفضل أداء لهم. لكنني كنت أعتقد دائمًا أن العمل ينتهي لدي، وكنت أجد متعةً وتحديًا وتدفقًا للأدرينالين من تلك المسؤولية النهائية.

دون دراسة نظامية لإدارة غرفة الأخبار التي تنامى العاملون فيها حتى وصلوا إلى تسعمائة شخص، تعلمت بالممارسة. في أثناء عملي محررًا تنفيذيًا، أقمت علاقة مع كل مديري التحرير عندي، تقوم على الصراحة التامة مع كل منهم، لا سيما في حالة الاختلاف. فطلبت من توم ولكنسن -أقرب المستشارين الشخصيين إليَّ، الذي أصبح كبير مديري التحرير العاملين في الأخبار- أن يأتيني بأسوأ الأخبار التي لا يطيب لغيره أن يطلعني عليها.

كما كان وليكنسن مكلفا بمهمة سنوية تقتضي منه أن يطلب من عينة ممثلة للصحفيين في غرفة الأخبار تقييمي سرًا. فكنت أحظى بالثناء على كوني محررًا نشيطًا، وأتلقى الانتقاد في بعض الأحيان لإفراطي في «التدخل في التغطيات وتحرير الأخبار». رأى أعضاء الفريق أنني شخص منفتح، مباشر، مستعد لتغيير رأيي، وفي الوقت نفسه مبادر إلى قول رأيي قبل الإنصات إليهم. أدركت أنني ألعب دورًا يرون مهنيًا أنه ينطوي على قدر غير منطقي من الأهمية. وبرغم محاولاتي للحد من سطوة رأيي فقد بقيت القاعدة الحاكمة هي أن «ما يقوله ليونارد» هو القول الفصل، حتى لو لم أكن حاضرًا.

ووقعت في أخطاء. واتخذت قرارات خبرية مؤسفة اختلف معها أعضاء فريق غرفة الأخبار أو القراء، ومن ذلك ما يتعلق بالحياة الخاصة للسياسيين.

كنت في بعض الأحيان أقع في شرك التنافس الإعلامي على خبر كبير دون أن أقدمه لقراء البوست من منظور أفضل. فعلى سبيل المثال قامت البوست ـ مثل كثير من وسائل الإعلام الأخرى ـ بتغطية محاكمة أوه جيه سمسن في جريمة القتل سنة 1995 وكأنها مسلسل تليفزيوني. أذهلني الأمريكيون الأفارقة ـ ومنهم عاملون في غرفة الأخبار لدينا ـ وهم يصيحون هاتفين للحكم بأنه غير مذنب. لكنني سرعان ما أدركت أن موقفهم ذلك ينم عن مقت عميق للعنصرية، ومقت خاص لما رأوه إعمالا لقانون عنصري في لوس أنجلوس، وذلك أمر لم نقم بتغطيته على النحو الكافي.

كانت قضية سمسن في نظر كثير من الأمريكيين الأفارقة قضية عنصرية محضة. وطالما كانت العنصرية قضية حاضرة في غرفة أخبار البوست، وذلك بصفة خاصة بسبب ضخامة عدد السكان الأمريكيين الأفارقة في منطقة واشنطن. وبرغم أن البوست كانت من أوائل الصحف الكبرى التي وظفت صحفيين سودًا، فقد كان عددهم يزداد ببطء. كذلك كانت النساء أقل حضورًا مما ينبغي في غرفة الأخبار حينما توليت موقع المحرر التنفيذي.

في الفترة التي كنت لم أزل فيها مديرًا للتحرير، بدعم من دون جراهام، أقمت وأشرفت على نظام رواتب قائم على الجدارة لغرفة الأخبار وكان نظاما ممولا بسخاء. وقد أسسته بحيث يكافئ الأداء مكافأة منطقية، مع تقليص للتفاوت غير المنطقي في الرواتب بين الرجال والنساء البيض والأقليات. ومن أجل ذلك كنت أراجع بانتظام، بمعاونة كبار المحررين، طبيعة الأداء والرواتب لكل صحفي في البوست، مما مكنني من المراقبة الحثيثة لعمل الفريق كله.

وكمدير تنفيذي، كان من أولوياتي أن أزيد عدد الصحفيين من النساء والأقليات في غرفة الأخبار، وأن أزيد أيضا من فرصهم في الحصول على المهام الجيدة والمواقع الإشرافية. وكنت كثيرًا ما أضع قضايا العرق في جداول اجتماعات الفريق والإجازات السنوية لكبار المحررين. قمت بتكوين فرق عمل متنوعة عرقيا وكنت أتخذ القرارات بناء على توصياتهم لتحسين آليات التوظيف والتدريب والتطوير الوظيفي.

كانت عملية بطيئة، تعرضت لانتكاسات أيضا. لكنها زادت باطراد من عدد النساء والأقليات في غرفة الأخبار ومن نجاحهم جميعا. خلال سنوات عملي الأربع والعشرين مديرا للتحرير ومديرًا تنفيذيًا، زادت نسبة النساء في غرفة أخبار البوست من 34 إلى 45%، أما الصحفيون الملونون فتضاعفت نسبتهم من 12 إلى 25%. وأصبح النساء والملونون أغلبية بين المحررين الأربعين الكبار في غرفة الأخبار.

لم يكن هذا فقط هو القرار الصائب الذي صب في مصلحة الروح السائدة داخل غرفة الأخبار. بل كان أمرًا جوهريًا كذلك أن تتنوع خلفيات الصحفيين من أجل الكتابة بمزيد من الفعالية والإنصاف عن نطاق عريض متنوع من الناس والأماكن والموضوعات.

ومثلما فعل بين برادلي، أصررت على ألا يكون للحزبية مجال في تغطية البوست الخبرية وعلى عدم انخراط صحفيي البوست في العمل أو النشاط السياسي من أي نوع. كانت «سياسة أخلاقيات ومعايير غرفة الأخبار» ـ التي طبقتها بصرامة ـ توجب على الصحفيين «تجنب الانخراط النشط في القضايا الحزبية ـ القضايا السياسية والشؤون المجتمعية والعمل الاجتماعي والمظاهرات ـ التي من شأنها أن تنال من قدرتنا على الإنصاف في نقل الخبر وتحريره». كان ذلك يعني ألا يستطيع أعضاء فريق الأخبار التبرع لحملات المرشحين، أو الأحزاب، أو القضايا، أو توقيع الالتماسات، أو المشاركة في أي من المسيرات الاحتجاجية الكثيرة في واشنطن.

توقفت عن التصويت حينما أصبحت مديرًا للتحرير سنة 1984، وإن لم أطالب غيري من صحفيي البوست بمثل ذلك. فلأنني صاحب القرار الأخير في تغطية البوست الخبرية، لم أشأ أن أقرر، ولو سرًا، من الذي ينبغي أن يكون الرئيس أو الشخص الذي يتولى هذا المنصب العام أو ذاك، أو الموقف الواجب اتخاذه في القضايا السياسية. أردت أن يبقى عقلي منفتحا على جميع الأطراف والاحتمالات. وأعتقد أن عقلي المنفتح يسَّر عليّ ممارسة عمل صحفي مباشر ونافذ استطاع أن يضع جميع أنواع المسؤولين والمؤسسات في موقع المحاسبة.

في عام 1989، حينما كنت لم أزل مديرا للتحرير، أراد بعض صحفيي البوست أن يشاركوا في مسيرة ضخمة من أجل حقوق الإجهاض في واشنطن. فقمت بزيارة العديد من فرق العمل في غرفة الأخبار وذكَّرتهم بأن هذا سيكون خرقًا لسياسة الأخلاقيات. شارك القليلون برغم ذلك. فلم نعاقبهم أنا وبين لكننا منعنا «من نسوا هذا يوم الأحد» من تكرار هذا الخرق للسياسة. استاء بعض الصحفيين، ولكن تلك كانت آخر مرة معروفة خرقت فيها السياسة. وكنت أوضِّح بصفة دورية في مذكرات إلى فريق العمل أو اجتماعات بأعضائه أهمية عدم التنازل عن استقلالية ومصداقية عملنا الخبري.

في نيويورك تايمز، كانت ليندا جرينهاوس مراسلة الجريدة في المحكمة الأمريكية العليا قد شاركت في مسيرة حقوق الإجهاض، خارقة بذلك سياسة مماثلة لدى تايمز، برغم أنها تقوم بتغطية قضايا الإجهاض في المحكمة. وبعد عقود أصرت جرينهاوس في كتاب سيرتها «مجرد صحفية» على حقها في المشاركة في المسيرة كمواطنة مستقلة، بعيدا عن دورها كصحفية. كما أعلنت أنها كانت تتبرع شهريا لمؤسسة «الأبوة المرتّبة». وفي رأيي أن هذا كان ينبغي أن يجعلها غير مؤهلة للاستمرار في تغطية المحكمة، برغم أن التايمز تركتها في الملعب.

واليوم بصفة خاصة في ظل جميع الاتهامات للإعلام بالتحيز، بات أهم من ذي قبل بالنسبة إلى الصحفيين الساعين إلى الحقيقة أن يجتنبوا جميع مظاهر التحيز ليجعلوا عملهم يتحدث عن نفسه. فيجب ألا يكون المجال متسعا إلا للخبر نفسه.

في أواخر أكتوبر سنة 2000، وقبل أسبوعين من الانتخابات الرئاسية، كتبت عمود المحرر لأذكِّر القرَّاء بالفصل الصارم في البوست بين التغطية الإخبارية التي كنت أديرها والافتتاحيات وصفحات الرأي وإقرار المرشحين الخاضعة لإشراف منفصل من محرر صفحة الافتتاحية. أوضحت أن إقرار صفحة الرأي لآل جور في ترشحه لا تؤثر على تغطيتنا للحملة، وأن معسكري المرشحين الرئاسيين قد اشتكيا في بعض الحالات من تغطية لم ترق لهم.

كتبت «لو أننا متحيزون، فنحن متحيزون لحبنا للخبر الجيد. وما من قصة خبرية أفضل في هذه المدينة من معركة انتخابية مستعرة يبدو أنها جارية على حبل مشدود. وإننا نحاول أن نضمن ألا يعوق افتتاننا بالسباق مسؤوليتنا عن إمداد الناخبين بأكبر قدر ممكن من المعلومات عن المرشحين نفسيهما، والقضايا، وما يشغل عقول الناخبين، وكيف تدار الحملتان». وأضفت أن «فريقنا يشعر بهذه المهمة شعورًا أعمق مما يمكن أن يدركه القراء. فإذا نحن أحسنا القيام بواجبنا، سوف تسنح للناخبين أفضل فرصة ليقرروا بأنفسهم إلى أين يجب أن يتجه الخبر».

ومثلما تبين، تحولت مهمتنا إلى تحديد ما قام الناخبون أنفسهم بتحديده في انتخابات سنة 2000 الرئاسية. بعثنا عشرات الصحفيين إلى أماكن إعادة الفرز في فلوريدا، حيث كان عشرات المحامين التابعين لجور وبوش يتجادلون مع بعضهم بعضا، ومع مسؤولين انتخابيين تابعين للولاية، فضلا عن المحاكم التي وجبت إعادة الفرز فيها. كما كان عشرات آخرون من صحفيي البوست يعملون في الموضوع نفسه في غرفة الأخبار. فقد أظهر تحليل البوست لأنماط الناخبين في كل دائرة في فلوريدا أن أعدادا غير قليلة من أصوات الناخبين لم تحسب في بعض الأماكن، ومنها أحياء أغلب سكانها من الأمريكيين الأفارقة، وذلك بسبب آلات الاقتراع القديمة والارتباك بشأن وضع العلامات في البطاقات الانتخابية.

في ذلك الوقت، تلقيت في منزلي اتصالًا هاتفيًا أجراه جور من منزل نائب الرئيس في حي أوبزرفيتوري سيركل بواشنطن، حيث كان يدير بنفسه جهود معسكره للفوز في المعارك القضائية وإعادة فرز فلوريدا. حاول أن يقنعني بنشر خبر عما اعتبر أنه قد يثير شكوكا حول نزاهة مداولات المحكمة العليا. وكانت معلومات ذلك الخبر قد نشرت بالفعل في البوست قبل وقت كبير، فقلت له إنه ما من سبب لنشر نسخة أخرى، ما لم يكن الهدف هو التأثير على نتيجة القضية. ورددت طلبه.

عند مرحلة ما من إعادة الفرز، تقلص تقدم بوش على جور في فلوريدا إلى قرابة مائة صوت فقط. وحينما انتهت إعادة الفرز، كان جور متأخرًا عن بوش بمئات قليلة من الأصوات. وأُعلن بوش فائزًا في الثالث عشر من ديسمبر بعد قرار مثير للجدل صدر عن المحكمة العليا بأغلبية ضئيلة لينهي إعادة الفرز في فلوريدا. خسر جور الانتخابات الرئاسية بفارق خمسة أصوات انتخابية بينما فاز بالتصويت الشعبي على مستوى الأمة، فكانت تلك رابع واقعة من نوعها في التاريخ الأمريكي.

قررت أن البوست يجب أن تنضم إلى سبع مؤسسات إخبارية أخرى ـ منها أسوشييتد بريس ونيويورك تايمز وسي إن إن وشركة تربيون المالكة للوس آنجلوس تايمز وشيكاجو تربيون وبلطيمور صن ـ في اتحاد أنفق قرابة مليون دولار على قيامنا بإعادة الفرز. قامت شركة نورك البحثية غير الربحية التابعة لجامعة شيكاغو بتعيين محققين مدربين للنظر في 175 ألف صوت أراد جور إعادة فرزها. ظهرت مشكلات في الحصول على رقم صغير نسبيا من الأصوات التي سعوا إليها. لكن بناء على الأصوات التي قاموا بمراجعتها، تبين أن بوش كان ليفوز بفارق ضيق في فلوريدا.

كما أجرت صحف ميامي هيرالد ويوإس آيه توداي ونايت ريدر دراسة انتهت إلى نتيجة مماثلة. وكتبت يو إس آيه توداي تقول إن بوش «كان ليفوز في إعادة الفرز اليدوي لجميع الأصوات المتنازع عليها في الانتخابات الرئاسية في فلوريدا لو خضع حساب الأصوات لجميع المعايير المقبولة على نطاق واسع». نشرت البوست أكثر من مائتي خبر عن عملية الفرز الطويلة في نوفمبر وديسمبر من عام 2000، فضلا عن كتاب نشر في 2001، بعنوان «المأزق: القصة الداخلية لأصعب انتخابات في أمريكا». كما قمنا بتغطية الخبر عبر الإنترنت بصورة مستمرة، بما جعل البوست أقرب إلى مؤسسة إعلامية عاملة على مدار الساعة.

التقيت جورج دبليو بوش للمرة الأولى خلال الحملة الرئاسية سنة 2000. رتبت ركوب طائرته للحديث إليه في أثناء الطيران من إحدى محطات حملته إلى غيرها. ابتعد بالحوار إلى السياسات الأساسية التي بدا واضحًا أنه يستمتع بالنقاش فيها تفصيليًا. أكثر ما أسعدني هو اهتمامه بالناس، ومنهم صحفيو البوست الذي كانوا يغطون أخباره. إذ كان يطلق عليهم أسماء تدليل ويعي بدهاء أساليبهم في العمل. أدهشني أن أجده جذابا، وداهية في السياسة، وإن لم يكن مثيرًا للإعجاب ثقافيًا.

أقامت كاثرين جراهام ـ التي قادت البوست كناشرة ثم كرئيسة تنفيذية منذ 1963 إلى 1991 ـ حفل عشاء كبيرًا لبوش في قصرها بجورج تاون في فبراير 2001، بعد شهر من تنصيبه. كان مساء حافلًا بحضور بيل جيتس ووارن بوفيت وهنري كسنجر وإيثيل كينيدي وباربرا وولترز وديان سوير فضلًا عن ضيوف آخرين، وفضلا عن رفاق الإعلام في واشنطن. وبدا بوش ببساطة سلوكه في غاية الارتياح.

خلافا لبيل كلينتن، لم يأت بوش إلى واشنطن وهو غريب عنها تماما، برغم جذوره العميقة في تكساس. كان قد قضى وقتا طويلا يدرس في صمت رئاسة والده جورج إتش دبليو بوش عند زياراته للبيت الأبيض. وأحاط نفسه بمخضرمي واشنطن في قمة إدارته الجديدة. فنائب الرئيس ديك تشيني كان وزيرًا للدفاع من قبل، وعضو كونجرس وكبيرا لموظفي البيت الأبيض. ووزير الخارجية كولن باول كان رئيس هيئة الأركان المشتركة ومستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن الوطني. ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد كان وزيرا للدفاع مرة من قبل وكبيرا لموظفي البيت الأبيض. أما كبير موظفي البيت الأبيض في ولاية بوش، وهو آندرو كارد، فسبق أن خدم في البيت الأبيض والمجلس الوزاري لجورج بوش الأب. وكل أولئك كانوا معروفين لصحفيي البوست.

بعد ولاية كلينتن الثانية المضطربة ودراما الفرز الطويلة في عام 2000، أتت سنة 2001 بشيء من الهدوء والترفق بغرفة الأخبار البوست. ثم كان لذلك أن يتغير بالطبع في الحادي عشر من سبتمبر حينما اختطف إرهابيون طائرات ركاب ووجهوها للاصطدام بمركز التجارة العالمي في نيويورك، والبنتاجون في آرلنتن، وحقل في بنسلفانيا وسط ثورة من ركابها ـ بما أسفر عن مصرع 2996 من بينهم 19 إرهابيًا. فحتى في الأيام الهادئة نسبيا، كانت قيادة غرفة الأخبار أشبه بإدارة أزمة. في ذلك اليوم، ولأيام كثيرة، كثيرة بعده، كانت تغطية 11/9 وتوابعها هي أكبر اختبار لمسيرتي.

* ليونارد دواين جونيور، المدير التنفيذي السابق لواشنطن بوست وأستاذ الصحافة حاليًا بجامعة أريزونا. وهذه المقالة مأخوذة من كتابه «All About the Story: News, Power, Politics, and The Washington Post» الذي يصدر هذا الشهر عن بابليك أفيرز.