1509552
1509552
الثقافة

العمل بهيئة الكتاب.. أزمة رواية «3ـ10»

14 سبتمبر 2020
14 سبتمبر 2020

إبراهيم عبدالمجيد -

التقيت بالمرحوم الدكتور سمير سرحان رئيس هيئة الكتاب. طلب مني في نهاية الثمانينات أن أدير المقهى الثقافي بمعرض الكتاب. وفي عام 1996 طلب مني أن أكون رئيسًا لتحرير سلسة أدبية جديدة هي «كتابات جديدة». صرت منتدبا في هيئة الكتاب وعملي الأصلي في الثقافة الجماهيرية.

اتفقنا أن تكون السلسلة للكتابات الجديدة، بمعنى الجديدة في شكل وبنية الكتابة، وتكون مفتوحة أكثر للشباب المجددين. طلب مني مساعدين لي فاخترت الشاعر الشاب وقتها فتحي عبدالله مديرًا للتحرير، والشاعر أيمن حمدي الشاب أيضًا وقتها سكرتيرًا للتحرير وبدأنا العمل.

اختار هو جمال الغيطاني ويوسف القعيد مستشارين للتحرير، فاخترت أنا معهما الدكتور شاكر عبدالحميد والدكتور أحمد درويش مستشارين أيضًا. بدأنا العمل أنا وفتحي وأيمن وكنت أعرف أن المستشارين مجرد أسماء قد نلجأ إليها أو لا نلجأ، لكن المسؤولية علينا نحن أنا وفتحي وأيمن.

كانت مطبوعات مكتبة الأسرة تشغل مطابع الهيئة معظم العام ولم يكن ممكنًا أن تصدر السلسلة منتظمة كل شهر كما تقرر، لذلك تأخر صدور العمل الأول والثاني والثالث وما بعده حتي اكتملت سبعة أعمال صدرت معًا في وقت واحد. هنا وقعت الأزمة الكبرى عن رواية تسمى (الصقّار) كاتبها الشاب وقتها سمير غريب على الذي يعيش في باريس الآن. وهو غير سمير غريب الصحفي والكاتب والذي تولي مناصب مهمة في وزارة الثقافة. ما إن صدرت الرواية، حتى قامت الدنيا بسبب مقال لفهمي هويدي في الأهرام عن مشهد لم يعجبه فيه إحدى شخصيات الرواية يجدف، لكن بعد هذا المشهد عقاب سماوي ينزل عليه. لم يقف فهمي هويدي عند العقاب السماوي ووقف عند مشهد التجديف. شاركه في الموقف الدكتور جلال أمين، وقامت الدنيا ثلاثة أشهر رديئة من الهجوم علينا. طبعًا كان هناك مَن يدافع عنا وعن الرواية مثل سيد خميس والدكتور حسين أمين وبالمناسبة طبعًا هو أخو جلال أمين، وكانت جريدة الدستور في أول ظهورها تفتح الباب واسعًا للمدافعين، بينما الأهرام وجريدة خاصة لا أذكر اسمها، لأنها اختفت هما الأكثر هجومًا. كان سمير سرحان ينظر لي ويهز رأسه ويقول لي لا ترد على أحد حتى تمر الأمور.

لثلاثة أشهر صرت أجمع الصحف التي تشتمنا وتقوم بتكفيرنا، وكانت بينها صحف غريبة مجهولة أو لا قيمة لها أيضًا، أو الصحف التي تؤيدنا ولم يكن غير الدستور في ظهورها الأول مؤيدًا تقريبًا كل أسبوع. صارت الحلقة تضيق كل يوم، فلقد نشرت جريدة الأهالي تحقيقًا حول الموضوع شارك فيه عدد من كتاب الستينيات أدانوني كلهم بطريقة غير مباشرة، بقولهم إن الفن يراعي المجتمع أو الظروف باستثناء صنع الله إبراهيم. كنت أعرف الشرخ الذي بيني وبينهم بسبب رواياتي وكيف ازداد بعد صدور (البلدة الأخرى) ثم (لا أحد ينام في الإسكندرية) التي حصدت بهما شهرة كبيرة، ونشر كاتب كبير منهم مقالًا في المصور يشيد فيه بفهمي هويدي كمفكر كبير. لم أتضايق لكن توقيت نشر المقال كان مثيرًا. كلهم بعد ذلك في أزمة (وليمة لأعشاب البحر) كانوا مع إبراهيم أصلان ابن جيلهم طبعًا، وكنت أنا أيضًا معه ليس لمسألة المجايلة من عدمها، لكن تأييدًا لحرية التعبير. بل وفي أزمة الرويات الثلاث كنت مع حرية التعبير أيضًا وضد مصادرتها خاصة أن ما فيها ليس شتائم ولا قذف، لكنه مواقف فنية واستقلت من السلسلة.

المهم نعود إلى موضوعنا وهو رواية (الصقار). كان جمال الغيطاني قد تقدم بطلب استقالة كمستشار للسلسلة لسمير سرحان، وكتب في طلبه أرجو قبول استقالتي من هذه السلسلة التي لا أعرف عنها شيئًا. أعطاني سمير سرحان الاستقالة لاحتفظ بها، لكني مزقتها مقدرًا حالة الرعب التي صارت في مصر، ومقدرًا أيضًا لأخبار الأدب التي يرأس تحريرها جمال أنها نشرت حوارًا ولو قصيرًا مع مؤلف الرواية يدافع فيه عن نفسه، ثم إني طوال عمري أذكّر نفسي أني لست صحفيًّا لأنشر ما يصل إليَّ من أوراق أو احتفظ به. ليست مهنتي. كما أن جمال الغيطاني يريد أن ينأى بنفسه عما يمكن أن يطول الجميع فماذا يضايقني في ذلك وبالفعل أنا لا آخذ رأي المستشارين فيما أنشره. لقد طلبت من سمير سرحان حذف أسماء المستشارين الأربعة جمال الغيطاني ويوسف القعيد اللذين اختارهما وشاكر عبدالحميد وأحمد درويش اللذين اخترتُهما أنا. قلت «فليكن الجميع بعيدًا عن المعركة». كانت المعركة بشعة.

أعود إلى أحلى ما جرى، وهو أني كنت احتفظ بالصحف التي تشتمنا وتكفرنا أو التي تدافع عنا. عدت يومًا إلى البيت مهمومًا من هذا الجو الغريب الذي لم أصادفه إلا في قراءات عن أمم الجهل. طلبت مني زوجتي الأولى رحمها الله أن نأكل على الأرض مثل أهالينا زمان. وافقت مبتسمًا، وإذا بها تفرش الأرض بالصحف وتضع فوقها الطعام. نظرت إلى الصحف، فوجدتها كلها هي التي تحمل المقالات المعادية أو المؤيدة، فسألتها «لماذا تفعلين ذلك؟»، قالت «هذه هي الصحف يا إبراهيم إما أن يأكل عليها الناس أو يمسحوا بها الزجاج.. فضي دماغك واسمع الموسيقى واكتب واقرأ». بعدها لم أهتم بالمسألة قط. انتهت المعركة وسافر سمير غريب علي إلى فرنسا لكن حدثت واقعة لا بد أن أحكيها.

كنت عائدًا من الإسكندرية في القطار المكيف، فقابلت الصحفي الشاب وقتها ماهر حسن بالقطار. قال لي معلومة غريبة جدًّا وهو أنه غدًا ستجتمع لجنة علماء الإسلام الأزهرية، وتقوم بتكفير الدكتور حسن حنفي ظهرًا، ثم تجتمع مساء لتكفيري وسمير سرحان وسمير غريب علي. في اليوم التالي ذهبت إلى جريدة الدستور التي تدافع عنا في مكانها القديم قرب ضريح سعد زغلول، لأخبر إبراهيم عيسى وأعرف منهم حقيقة الخبر. قابلت هناك صدفة الدكتور جلال أمين، فسألته «لماذا تدخل المعركة مع فهمي هويدي يا دكتور؟ إن كل جملة استنكرها فهمي هويدي أو تستنكرها أنت وراءها عكسها أو جملة مضادة لها، فلماذا هذا الانتقاء؟»، فُوجئت به يسألني «وما علاقتك بالموضوع؟»، قلت له «أنا رئيس التحرير»، فقال لي «لم أنتبه إلى ذلك». صرت مندهشًا فاسمي على الصفحة الأولى للرواية أنا وأسماء مساعديَّ والمستشارين، وأدركت أن وراء المعركة أشياء أخرى لا أعرفها. بينما أقف معه متصنعًا الضحك وأقول له «رأيك في المويلحي وطريقة كتابته كطريقة جميلة ومفيدة لا يلزم الأجيال الجديدة يا دكتور». بينما أضحك وأتسامر معه حول الأدب متجاهلًا أنه لم يعرف أني رئيس التحرير، جاء خبر تكفير الدكتور حسن حنفي، تمامًا كما قال لي ماهر حسن. قلت له «بالمناسبة سيتم تكفيري أنا أيضًا وسمير سرحان وسمير غريب علي في جلسة المساء من هذه اللجنة»، فقال لي إنه لن يكتب في هذا الموضوع بعد اليوم، وحدث أنه لم يكتب فيه، لكن أنقذنا الله وقامت أمن الدولة بحل الجمعية بعد ساعة من تكفيرها للدكتور حسن حنفي. جاء الخبر إلى جريدة الدستور وأنا معهم ولم تجد اللجنة الوقت لتكفيرنا في بيان لها! وقتها أعطيت الرواية لبلال فضل الذي كان يكتب ويعمل بالدستور وبها خطوط تحت الألفاظ والجمل سبب المشكلة، وتحت الردود عليها في الرواية نفسها، بل في السطور التالية للقذف.

في العدد التالي أشار بلال فضل إلى أن المعركة ليست موضوعية حقًّا، ولا شيء في الرواية يؤكد ما قيل من اتهامات حتى لو اختلف معها كعمل فني. تلف الأيام وأجد نفسي في حلقة مع المذيعة الشهيرة نجوى إبراهيم ومعي هالة البدري وشيخ من تلك الجمعية. كنا نناقش في البرنامج مسألة البوي فريند والزواج في أوروبا وأمريكا. أهم ما جرى أني لاحظت أن مع ذلك الشيخ مسدسًا صغيرًا يخرجه وقت الراحة يمسحه ويضعه في جيبه. كنت مندهشًا بدخوله به إلى مدينة الإعلام. سألته «لماذا تحمل المسدس معك هنا؟» قال «لا أحد يضمن الأحوال.. قد يسيطر المسيحيون على الحكم ونحن هنا». هكذا قال لي والله، وأدركت إلى أي مستنقع وصلنا. بالمناسبة بعد حل الجمعية هذا الشيخ ومَن معه كانوا أيضًا وراء معركة رواية (وليمة لأعشاب البحر) مع محمد عباس الذي كتب مقالًا صارخًا في جريدة الشعب، والدكتور أحمد عمر هاشم الذي خطب في طلبة الأزهر يشجعهم على الخروج في المظاهرات. لقد عرفت بعد ذلك أنهم تقريبًا -أعضاء الجمعية المحلولة- غادروا مصر إلى الكويت.

ما الذي أكتبه الآن؟ كيف ابتعدت عن الأيام الحلوة؟ الحقيقة أن هذه أيضًا كانت رغم أي شيء أيامًا حلوةً بنهاياتها غير المتوقعة، وبإدراكي أن خلف هذه المعارك أشياء أخرى غير ما يبدو، وبيقيني أن عددًا من كتاب الستينيات لا يريدون أصلًا وجودي في الحياة. ليس لأني هاجمتهم مرة أو مرتين وتندرت على السور الذي بنوه لا يدخل منه أحد بينما يجتمع فيه الكاتب والمديوكر -نصف الموهوب- والأقل أيضًا. ليس لذلك لأني لم أستمر فيه وكانت وراءه الاندفاعة الإسكندرانية، ولا لأني قلت إن الرواية سبعينية، فلقد أوضحت أنه في السبعينات حدثت تغيرات كثيرة في المجتمع تحتاج تأملًا أكبر فجاءت الرواية، لكن لأن بعضهم فهم الأمر أني أنفيهم. لم يفكر أحد أن مقالًا أو مقالين أو ثلاثة من شخص ليس له سلطة بعضهم في الصحافة ولا الدولة لن يؤثر في شيء، ولا أن مَن أسموهم جيل السبعينيات معي لا يقيمون معارك معهم ويعيشون في حالهم. لقد قال لي محمد المخزنجي يومًا وهو مبتسم «أنت شاغبتهم كتير»، قلت له «يا أخي قافلين الدنيا كإن مصر ماجبتش غيرهم»، وذكَّرته بالمازني حين قال يومًا: إن هجومه هو والعقاد وعبدالرحمن شكري على أحمد شوقي وحافظ إبراهيم لم يكن يخلو من رغبة لفتح الطريق لهم. الطريق الذي كان مغلقًا بأحمد شوقي وحافظ إبراهيم! توقفت تمامًا عن الحديث عنهم بعد هاتين المرتين أو الثلاثة، عامي 1992 تقريبًا، لكنهم لم ينسوها رغم أنهم بدأوا الحصار لي ولغيري مبكرًا.