أفكار وآراء

الأمن القومي العربي من منظور العمل المشترك

13 سبتمبر 2020
13 سبتمبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

إنه في هذا الزمان لم يعد بإمكان دولة ما درء الخطر عن نفسها بتحركات مستقلة فردية مهما توافرت لها عناصر القوة، لأن أي أزمة أصبحت متعددة المصادر والأطراف، ومن ثم لا يمكن المواجهة بشكل منفرد، خصوصا أن الإطار العام الذي تندرج فيه أزمات اليوم لدى الجميع أيا كان حجمه وقوته يبدأ وينتهى باعتبارات الأمن القومي.

لنا أن نتخذ العبرة من تعامل أوروبا مع مخاطر الأمن القومي التي تواجه أعضاءها فرادى أو جماعات، وذلك بإدراك أنه مهما تعاظمت الخلافات، فإن هناك في النهاية مرجعية يتم الاستناد إليها هي اللجوء إلى الموقف الجماعي الذي يمنع وصول هذه الخلافات إلى حد المواجهات العسكرية ويحفظ الأمن القومي للجميع. ومع أن هذه القاعدة تبدو بديهية ومنطقية بالنسبة للتجمعات والتكتلات السياسية الدولية ذات العوامل المشتركة، إلا أن التجارب تشير إلى قاعدة كهذه ليس من السهل توافرها على أرض الواقع، وإنما تأتي نتيجة خبرة طويلة في التعامل مع الأزمات الصعبة، بما يجعل العمل الجماعي الأوروبي يتسم بالمرونة واللجوء دائما للحوار والتوافق، إدراكا لأهمية هذا الأسلوب في تحقيق الأمن القومي على المستويين الوطني والقاري.

وبرغم ما بين الحال العربي والأوروبي مقارنة الحال العربي بالحال الأوروبي من تباينات جوهرية مفهومة ومعروفة للكل ولا تحتاج إلى تفاصيل إلا أنها تعد ضرورية طالما لا يزال النظام السياسي العربي يتحدث عن الاستفادة من تجارب الآخرين، خاصة مع تشابه بنود الأجندة الخاصة بالأمن القومي عند الطرفين سواء من حيث الأزمات أو مسارات الحل هنا أو هناك.

والمقارنة لها رسالة لصانع القرار العربي مؤداها أنه يتعين بحكم الضرورة على الأقل أن تستفيد الأطراف العربية من واقع التعامل الأوروبي مع نوعية الخلافات التي تؤدي إلى اندلاع المواجهات العسكرية فإذا بالجانب الأوروبي يعمل بصبر شديد على وأدها أو تحجيمها ضمن موقف جماعي أو شبه جماعي على أقل تقدير حرصا منه على اعتبارات الأمن القومي ليس فقط لمن بينهما خصومة ما وإنما للقارة كلها.

ما يعزز ذلك، وعبر المقارنة، نجد أن هناك مشهدين متشابهين موضوعيا وإن اختلفا شكليا بالطبع، وفي كليهما نجد الأمن القومي حاضرا بقوة من ناحية، والموقف الجماعي مهما للغاية في التعامل مع مستجدات هذا الأمن من ناحية أخرى. ولأن هذا الموقف حاضر أو فاعل على الجانب الأوروبي يبدو المشهد هناك مطمئنا، بينما لأنه غائب أو ضعيف على الجانب العربي، تبدو التداعيات الخطيرة المحيطة بالأمن القومي العربي قائمة في أكثر من مكان.

ومن هنا تتأتى أهمية اليقظة العربية الضرورية لتفعيل العمل الجماعي أخذا للعبرة المفيدة من تعامل أوروبا مع المخاطر والتحديات التي تهدد الأمن القومي. ولا ننسى أن أوروبا تتشارك مع عالمنا العربي مياه البحر الأبيض المتوسط، من ثم فإن ما يجرى فيه وحول شاطئيه يعني الطرفين جدا مما يحتم ضرورة الاستفادة المتبادلة من تجارب الطرفين للحفاظ على أمنهما القومي، وتحديدا من خلال آليات العمل الجماعي.

لقد ظهرت مشكلات ساخنة عديدة في المشهد الأوروبي طوال العام الحالي وقبله كانت تنذر بأن الأمن القومي الأوروبي على حافة الخطر. وتم تجاوزها من حيث تحجيمها ضمن الجهود الدبلوماسية أو على الأقل لم يتم السماح بأن تهدم المعبد على من فيه!. ومنها على سبيل المثال لا الحصر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتغير السياسة الأمريكية فيما يتعلق بوجود القوات الأمريكية على أرض القارة العجوز، والارتباك في مواجهة جائحة الكورونا إلى حد إثارة الجفوة في العلاقات بين دول الاتحاد على خلفية عدم التعاون في مواجهة الفيروس الفتاك.

ولكن الأسابيع الأخيرة وقعت أحداث من النوع الثقيل الذي لا يعرف سوى لغة الحرب تمثلت في الخلاف الحاد بين بعض أعضائها من ناحية وتركيا من ناحية أخرى. والبعض الآخر منها كان ولا يزال متعلقا بالأوضاع في ليبيا بعد أن تدخلت أنقرة في الصراع القائم هناك بين الغرب والشرق الليبيين مما أزعج دولا أوروبية مهمة مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا ودفعهم إلى التحرك سريعا لإيجاد حل سلمي يحقق الأمن والاستقرار. والبعض الثالث يتعلق بالصراع على البحث عن الغاز بين تركيا من ناحية وكل من اليونان وقبرص من ناحية أخرى الذي وصل إلى حد التهديد المتبادل بالحرب بين هذه الأطراف.

ومع أن الوقائع الثلاث على درجة عالية من الأهمية والخطورة لأنها ترتبط باعتبارات الأمن القومي للجميع، إلا أن ثالث الوقائع المتعلق بالصراع على الغاز كان على درجة أكبر من السخونة حيث وصل إلى حد اندلاع الحرب، ولذلك تجلت فيه فاعلية الموقف الجماعي والخبرة في إيجاد آليات سلمية لتجاوز الأزمة، بغض النظر عما تؤول إليه من نتائج أي النجاح في الحوار أو الفشل. ومن الصحيح أن تركيا ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي بينما كل من اليونان وقبرص أعضاء فيه، إلا أنهم جميعا أعضاء في حلف الناتو، الأمر الذي دفع الحلف إلى التحرك ضمن الغطاء الأوروبي، وليس الاعتماد فقط على الجهود الدبلوماسية من خلال الاتحاد الأوروبي. وما كان هذا ليتم لولا وجود منظومة سياسية ما وفرتها جهود القارة الجماعية لضمان سلامها واستقرارها، منظومة تمد ذراع العمل الجماعي لمساحة أوسع تم توفيرها من خلال آلية أخرى هي حلف الناتو.

ولا شك أن القارة الأوروبية لها ظروفها وأسبابها التي تعكر من وقت إلى آخر العلاقات بين أعضائها، ومن ثم لها معاركها وآلياتها ومؤسساتها التي يمكن من خلالها السيطرة على مسار الأحداث بما لا يؤدي إلى انفجارها، وبالمقابل لعالمنا العربي ظروفه وأسبابه وآلياته ومؤسساته، بما يعني أن تقدير الموقف بالنسبة لكل ما يستجد هنا وهناك من أزمات مختلف. ولكن ما يجعل التشابك في أجندة المخاطر قائما بين الطرفين هذه المرة أن قضايا الأمن القومي باتت تحتل المرتبة الأولى في اهتمامات الطرفين وإن اختلفت شكلا وموضوعا، حيث بات كل من الطرفين مسكونا بهاجس التهديدات الأمنية لأمنه القومي. ولم تصعد الاهتمامات الأمنية إلى صدر الأجندة السياسية اليومية للطرفين إلا نتيجة استمرار الأزمات القائمة في الشرق الأوسط وما أكثرها على مدى السنوات العشر الأخيرة وما تفرع منها بانتشار الإرهاب وجماعات العنف المختلفة، وتصاعد النزعات القومية الانفصالية وجماعات اليمين المتطرف والمحاولات المستمرة لزعزعة استقرار الشرق الأوسط والتي لم تتوقف من اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي وفشل جهود السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأخيرا ظهور النزعة التركية لاستعادة تاريخ الإمبراطورية العثمانية. وكلها للأسف خلقت حالة عامة لدى الطرفين العربي والأوروبي بالقلق على الأمن القومي لكل منهما. وعندما تصل الأمور إلى الاستغراق في مواجهة الهم الأمني، فإن مصير القضايا الحياتية المعتادة للناس يصبح شديد الارتباط بما تحتمه اعتبارات تحقيق الأمن القومي، ومن أبرزها السباق لامتلاك ما يمكن من السلاح من ناحية، واستنفار القوات العسكرية للتدخل في أي أزمة من ناحية أخرى. ووسط هذا المناخ لا يكون مفاجئا فتح ملفات كانت مغلقة تتعلق بالتفوق الاقتصادي باعتباره واحدا من أهم مصادر الحصول على القوة الصلبة إن جاز التعبير، وطالما هناك مناخ عام يسمح بالوصول إلى أوجه الخلاف بين أي من دول المنطقتين إلى حد استخدام القوة العسكرية، فإنه لا غرابة أن ينفجر الصراع على الغاز بين تركيا من ناحية وكل من قبرص واليونان من ناحية أخرى.

المشهد بهذا التوصيف يحمل صورا مشتركة تجمع ما بين الحالين العربي والأوروبي، وهذا ما دفع إلى المقارنة بينهما ليس على سبيل التسجيل للوقائع، وإنما بهدف استخلاص الجانب العربي العبرة مما يتعامل به الجانب الأوروبي في هكذا تحديات. وأول دروس العبرة أنه في هذا الزمان لم يعد بإمكان دولة ما درء الخطر عن نفسها بتحركات مستقلة فردية مهما توافرت لها عناصر القوة، لأن أي أزمة أصبحت متعددة المصادر والأطراف، ومن ثم لا يمكن المواجهة بشكل منفرد، خصوصا أن الإطار العام الذي تندرج فيه أزمات اليوم لدى الجميع أيا كان حجمه وقوته يبدأ وينتهى باعتبارات الأمن القومي. وببساطة شديدة لا يمكن فصل العوامل العسكرية عن الاقتصادية عن السياسية والأمنية. وبات التهديد يضرب أبواب الأوضاع الداخلية قبل أن يكون متصلا فقط بالعلاقات الخارجية. وأما ثاني دروس العبرة فهو التباين الواضح في إصرار الجانب الأوروبي على أن يناقش قضايا الأمن القومي لكل عضو وللجماعة الأوروبية ككل ضمن منظومة العمل الجماعي التي ترسخت على مدى الزمن، بينما هناك قصور لا يمكن إخفاؤه على الجانب العربي، مع أن آلياته قائمة وهناك نصوص ووثائق واتفاقيات قبلها هذا الجانب منذ 1945 كلها تفترض ضرورة العمل العربي المشترك في مواجهة كل التحديات وفي المقدمة منها تهديد الأمن القومى للعرب أفرادا أو جماعات. وعلى الفور يثور التساؤل المشروع: ما الذي يعوق هذا العمل الجماعي؟ والإجابة الأولية أنه قد تحقق بقوة على الجانب الغربي لأن هناك تجربة حياة معيشية فرضتها على الشعوب الأوروبية بعد حربين عالميتين، بينما لم يتوفر للتجربة العربية هذا العامل لأسباب لا يتسع المجال لشرحها. وبرغم ذلك فإن هناك عاملا مختلفا يعمل لصالح استعادة العمل الجماعي العربي، يتمثل في حجم التحديات الضخم التي تهدد الأمن القومي العربي وتشارك المصير الواحد مهما كانت المسافة بعيدة بين ما يمكن تسميته بالشخصية الفرعية وتلك القومية على الصعيد العربي. الدول كفرادى لا تستطيع أن تعمل وحدها لتحقيق أهدافها الوطنية ولا أن تحمي أمنها القومي، ومهما جاءت الخلافات العربية من كوارث، فإن العمل الجماعي يبقى قدرا في رقاب الجميع، وقد يتعثر بعض الشيء لأسباب طارئة، ولكنه أبدا لن يموت ليبقى طوقا للنجاة.