أفكار وآراء

الفكر العربي المعاصر.. الرؤى والمنطلقات

09 سبتمبر 2020
09 سبتمبر 2020

عبد الله العليان -

منذ عدة عقود عقدت بدولة الكويت، ندوة حملت عنوان (الفكر العربي المعاصر.. تقييم واستشراف)، نوقشت فيها العديد من القضايا الفكرية والسياسية وارتباط هذه الموضوعات المطروحة بالفكر الإسلامي، كالغلو والتطرف وغيرها من القضايا الأخرى، ومن هذه العناوين: العربي بين اسمه وحقيقته، الفكر العربي بين النظرية والتطبيق، الفكر العربي والزمن، فكر الوصاية ووصاية الفكر في الفكر العربي، أزمة الفكر الليبرالي العربي، والفكر التوفيقي واليسار والسلفية.

حضر هذه الندوة الموسعة من السلطنة، المكرم الدكتور عصام بن علي الرواس الأكاديمي والباحث في التاريخ بجامعة السلطان قابوس في ذلك الوقت.

من خلال اطلاعي على أوراق هذه الندوة ومداولاتها، والتي نشرت بمجلة عالم الفكر الكويتية، تفاجأت بأطروحات غالبية الموضوعات التي ناقشها المشاركون، الذين ناقشوا الفكر العربي المعاصر، وتقييمه واستشرافه. والواقع أن هؤلاء المشاركين في هذه الندوة، انطلقوا من رؤى وأفكار ومنطلقات، لا تمت للفكر العربي ونظرته الفكرية الثاقبة، تجاه القضايا العربية المعاصرة ومحدداتها القيمية التي تعاني منها الأمة في راهنها بصلة، وتود أن تتعرف على المشكلات العربية المعاصرة، وأهمية مناقشتها وحلها في داخل الفكر ذاته، وليس استجلاباً من خارجها، ووفق ما حددته اللجنة المشرفة على هذه الندوة.

لكن ما طرحه غالبية الكتّاب والباحثون الذين قدموا أوراقهم أنها تختلف عن الرؤية العربية في مضامينها ذات الصلة، لكن الإشكالية فيما قدمه البعض أنهم كانوا يتحدثون بالاسم عن الفكر العربي وليس في مضمونه الفكري، إنما الأفكار المطروحة في غالبية الأوراق والمحاورات بعد ذلك، كانت، إما عن الفكر الليبرالي، أو الفكر الماركسي، أو الفكر القومي وفق النظرة الغربية، وهذه من أزمات بعض النخب العربية، التي تخلت عن فكرها العربي/ الإسلامي، وذهبت تقلد الفكر الآخر الغربي، وتتبعه فيما يراه وينظر له من فلسفات وأفكار لا تعبر تعبيرا صحيحاً عن الهوية العربية وذاتيتها الفكرية القائمة الآن، أو الموروث الذي لا شك أن الأمم والثقافات كافة، لا تتخلى عن تاريخها وذخيرتها الفكرية للمراجعة والمناقشة، حول ماذا نأخذ منه وماذا ندعه، وأما ما طرحه البعض في هذه الندوة فهو يختلف، سواء في قضايا الليبرالية أو الماركسية أو القومية العنصرية التي لا تمت للعروبة والإسلام في أغلبها، وهي أفكار مستمدة من الفكر الغربي وإشكالاته وصراعاته الداخلية، وكأن «الأفكار لوحة رسم تنقل من مكان إلى الآخر» بحسب تعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي، فالفكر الليبرالي والماركسي، والقومي المستوحى من الفكر الغربي، كلها تعتبر خارج سياق الفكر العربي وارثه التاريخي والفكري، وهذه للأسف مغالطات وتجاوزات للحقائق الناصعة التي يجب النظر والاستمداد منها لكونها من الواقع العربي نفسه. وهذا الأمر حقيقة، دفع بالدكتور عصام الرواس لطلب الكلمة في هذه الندوة، فكانت كلمته منهم قوية ومدوية، حتى لم يستطع أحد الرد على تعليقه فيها، أو ربما أنهم أحسوا دقة ما قاله عن ابتعاد الندوة عن عنوانها عن مضمونها الأصلي، واتجاه المشاركين في الأوراق المقدمة، إلى منطقاتهم الإيديولوجية، لكنها اسمها ومحورها بالفكر العربي!.

ونحن لا نحاكم أفكار هؤلاء، ولا ضمائرهم فيما طرحوه في هذه الندوة وهذا حقهم في خياراتهم الفكرية، لكننا نرى أنها ابتعدت عن مسارها الصحيح في طرح الفكر العربي المعاصر، ووفق عنوانها المطروح، ويرى د. عصام الرواس في تعقيبه أن هذه الأفكار المطروحة في الندوة: «مستوردة.. ونستطيع القول إن ندوتنا هي ندوة الفكر العربي «المستورد» إذا صح التعبير، لأن الموضوعات التي نتكلم فيها كلها مذاهب مستوردة للأسف الشديد، ونسمح لأنفسنا بأن نسميها فكراً عربياً. نحن ننقل الأفكار ونروجها في هذه المنطقة لأغراض سياسية وفكرية وقتية، أو للطوارئ فقط، باستخدامها، ومن ثم نجد أنفسنا نبدلها ونستبدل جلودنا بجلود أخرى حسب الموضة الرائجة أو السائدة في العالم، فكلما تغّير مذهب ـ فكري ـ نلبس مذهباً آخر ونركب الموجة الجديدة».

والواقع أن ما قاله د. عصام الرواس، صحيح وأتفق معه في هذا الرأي، ذلك أن بعض الماركسيين واليساريين، الذين شاركوا في الندوة، انقلبوا على فكرهم السابق، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وانهيار المعسكر الاشتراكي، وأصبحوا ينظّرون ويؤيدون الفكر الرأسمالي، لكنهم يتم تسميته بـ(الليبرالي) تحاشياً لذكر الرأسمالية عدوتهم القديمة التي تتلون حسب الظروف الاقتصادية، والتحولات الفكرية! والبعض من القوميين العرب أو المحسوبين على الفكر القومي ـ الجناح اليساري ـ أصبحوا ليبراليين أيضاً، أما البعض من دعاة الفكر القومي العروبي فبقوا على فكرهم القومي، واقترب بعضهم من الإسلاميين، والقليل منهم اتجه إلى الليبرالية. ولا اعتراض على اختيار هذه الأفكار من أصحابها، وهذا حقهم ورؤيتهم الفكرية، إنما المشكلة في القفزات والتحولات الفكرية، مع التقلبات في الفلسفات والتغيرات في عصرنا الراهن، وهذا ربما يبرز ضآلة المبادئ التي يحملها هؤلاء، أو ربما مجرد حماس فكري ظهر في فترة من الزمن، ثم تغيرت الأحوال، أو بعضهم أخفوا فكرهم، في فترة المد الفكري القومي العروبي، ثم تغير الأمر، وظهر ذلك في ظهور آخر.

فبعد حرب 1948، واحتلال أجزاء من فلسطين، كان مجموعة من الشباب الذين يدرسون في الجامعة الأمريكية في بيروت، الأثر الكبير في هذه الصدمة لهذه الحرب وما جرى من احتلال، ومن بين هؤلاء اثنين من الفلسطينيين، ومن أراضي 48م، وهم د. جورج حبش، ووديع حديد، ومعهم عدد محدود من بعض الدول العربية، فأسسوا (كتائب الفداء العربي) بعد هذه الحرب، وبعد انكشاف التنظيم، وتمت مطاردتهم، اجتمعوا مرة أخرى، وأسسوا حركة القوميين العرب عام 1951، كانت قضية فلسطين، أحد أهم منطلقاتهم الفكرية، وانتشرت الحركة في العديد من البلدان العربية، وكانت شعاراتهم قومية وعروبية، ومما عزز هذه الحركة قيام ثورة يوليو في 1952 وانتشاراها بصورة كبيرة، وكان تأثير المؤرخ السوري د. قسطنطين زريق قوياً في هؤلاء الشباب، وعلى حركتهم السياسية والتنظيمية، وأصبحت تنافس حتى الحركة القومية البعثية في الستينات، خاصة بعد اقتراب حركة القوميين العرب من النظام الناصري، بعد الوحدة المصرية/ السورية في 1958، حتى أن عددا من أعضاء الحركة انتظم في التشكيل الوزاري بعد الوحدة، لكن قيادة الحركة، كما يبدو لم تنتمي للفكر القومي اقتناعاً، وإنما كانت تتحاشى ذكر انتمائهم للفكر الماركسي، أو اليساري عموماً، والتقى د. جورج حبش مرات عديدة بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ووجدوا دعماً قوياً لهم من مصر، قبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح بعد ذلك، وربما عدم إظهار فكرهم الماركسي، هو قوة التأثير القومي الناصري بالأخص، قبل حرب عام 1967.

وفي مذكرات د. جورج حبش بخط يده الذي صدرت عام 2019، والتي كانت بعنوان (صفحات من مسيرتي النضالية)، ما يؤكد الانتماء للفكر الماركسي من بدايات تأسيس الحركة، ويقول حبش بالنص وهذا ـ قبل حرب 1967: «لم نكن في ذلك الوقت نطرح شعار الاشتراكية، لأن هذا الموضوع كان يثير الجدل بين كوادرنا ورفاقنا في القاعدة الحزبية، وكان جوابنا عنه أننا نمر بمرحلة تحرر وطني، وأن هذه المرحلة تتطلب تجميع الطبقات من أجل تحقيق التحرر، ومن الخطأ إثارة موضوع الصراع الطبقي في هذه المرحلة».

وهذا يبرز أن الفكر سبق التأسيس، إنما الظروف لم تتهيأ للكشف عن هذا التوجه الفكري، كانت كتابات الحركة على لسان قياداتها، وعلى صفحات جريدة الحركة «الحرية» تحمل شعار (الالتحام بالناصرية)، وبعد نكسة 1967، انقلبت الأفكار رأساً على عقب، وأعلنت قياداتهم أن المشروع الناصري فشل ـ البرجوازي الصغير ـ، وأن الحل يكمن في تطبيق النظرية العلمية الماركسية، وعقد في بيروت 1968، مؤتمراً موسعا، حددت فيه المسار الجديد، والتي تلته، إنهاء اسم الحركة فعليا وقيام حركات تتبنى الرؤية، وأعلن جورج حبش تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واليمن الجنوبي أعلنت عام 1968 إنهاء القيادات القومية السابقة، وأعلن تبني النظرية الماركسية/ اللينينية.