أفكار وآراء

حتى لا تنفجر الألغام في «شرق المتوسط»!!

07 سبتمبر 2020
07 سبتمبر 2020

د. عبدالحميد الموافي -

في ظل هذا الغليان، وتعدد الألغام القابلة للانفجار في شرق البحر المتوسط، حاول حلف شمال الأطلنطي، الذي تنتمي إلى عضويته كل من تركيا واليونان، تهدئة الوضع، وحملهما على الدخول في محادثات لتجنب مخاطر الاحتكاك والحوادث غير المقصودة، كخطوة لتخفيف احتمالات حدوث خطأ يمكن أن يؤدي إلى مواجهات لا يرغبها أحد.

بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى وقوع الانفجار المروع في ميناء بيروت في الثالث من أغسطس الماضي، وهو ما تقوم جهات التحقيق اللبنانية بالتحقيق فيه بمعاونة خبرات فرنسية وأمريكية، فإنه يمكن القول إن انفجار هذا اللغم الضخم - 2750 كيلوجراما من نترات الأمونيوم – يمكن ألا يكون آخر انفجار لأحد الألغام الكثيرة، والتي طفا بعضها على سطح مياه شرق البحر المتوسط في الأسابيع الأخيرة، ليس فقط بعد اكتشاف الجيش اللبناني قبل أيام لوجود أربعة أطنان من مادة نترات الأمونيوم في موقع ميناء بيروت، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة حول وجود هذه الكمية، ولماذا كانت بعيدة عن الكمية الأكبر التي انفجرت، ولماذا لم تنفجر بدورها، ومن المسؤول عنها وعن وجودها في المكان الذي تم اكتشافها فيه، ولكن أيضًا لأن الألغام الأخرى هي ألغام شديدة الانفجار، خاصة بفعل تأثيرها والنتائج العسكرية والسياسية التي يمكن أن تترتب على انفجار أي منها، سواء على مستوى منطقة شرق البحر المتوسط بوجه خاص، أو على مستوى الشرق الأوسط وجنوب أوروبا بوجه عام، وذلك نظرًا لأن منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والتي تمتد من السواحل الشرقية للبحر المتوسط مرورا بجزيرة قبرص ووصولًا إلى جزيرتي كريت ومالطة، والتي يحدها شمالا تركيا واليونان وإيطاليا، وجنوبا مصر وليبيا، وشرقا سوريا ولبنان وإسرائيل وفلسطين، تشهد أكبر حشود عسكرية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ويزيد من خطر تلك الحشود أنها تنتمي لدول تتعارض مواقفها، وتتقاطع مصالحها، ويميل بعضها على الأقل إلى اتباع سياسات لفرض النفوذ، عبر سياسات ومواقف حافة الهاوية، أو ما يمكن تسميته دبلوماسية البوارج الحربية التي تلامس بعضها بالفعل قبل أيام في حادث كان يمكن أن يتطور إلى ما لا يحمد عقباه.

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هو إلى أين تتجه التطورات الجارية الآن في شرق المتوسط، وهل الحرب، أو الصدام العسكري حتمي بين الأطراف المتنازعة؟ أم أنه يمكن تجاوز هذا الاحتمال وإفساح المجال أمام مفاوضات يمكن أن تصل إلى توافق بين مصالح الأطراف المعنية بشكل أو بآخر؟ على أي حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: إنه في الوقت الذي يمثل فيه البحر الأبيض المتوسط أهمية استراتيجية بالغة، بالنسبة لكل الدول الواقعة عليه، الدول الأوروبية شمالا والدول العربية وإسرائيل جنوبا وشرقا، باعتباره ممرا تجاريا، وشريانا يربط مصالح الدول الأوروبية والعربية سياسيا واستراتيجيا منذ قرون، فإن اكتشاف احتياطيات الغاز الكبيرة في مواقع مختلفة فيه قد أضاف سببا حيويا آخر لأهميته من ناحية، وحرك دوافع ومصالح أطراف عدة واقعة عليه بحثا عن مصالحها، حتى ولو صاحب ذلك إيقاظا لخلافات ومنازعات سابقة حول الحدود، وهو أمر مفهوم في إطار بحث كل طرف عن مصالحه، بشرط الالتزام بقواعد القانون الدولي وتجنب التلويح بالقوة أو استخدامها، لخطورة ما يترتب علي ذلك من نتائج مباشرة وغير مباشرة.

وإذا كانت إسرائيل قد بدأت إنتاج الغاز من حقل «لافاثيان»، وبدأت مصر إنتاج الغاز من حقل «ظهر»، وتسعى لبنان إلى تخطيط حدودها البحرية مع إسرائيل تمهيدًا للتنقيب عن الغاز في مياهها الإقليمية، فإن مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا ولبنان شكلت منظمة الدول المنتجة للغاز عام 2018 ومقرها القاهرة، وذلك من أجل رعاية مصالحها وتعزيز تعاونها بما في ذلك ما يتصل بمد خط أنابيب غاز من إسرائيل إلى أوروبا، وبين قبرص ومصر، هذا فضلًا عن التعاون المصري الإيطالي في هذا المجال. وبينما وجدت تركيا نفسها خارج هذا التجمع للدول المنتجة للغاز في البحر المتوسط، خاصة أن علاقاتها مع أكثر من دولة من دوله تشهد خلافات وتوترات مختلفة على مدى السنوات الأخيرة، فإنها عمدت إلى فرض وجودها، وبشكل عملي واضح وملموس، ليس فقط من خلال الدعوة إلى إشراكها في تجمع الدول المنتجة للغاز في البحر المتوسط والتأكيد على أنه لن يتم تنفيذ أي مشروعات لخطوط أنابيب بدون مشاركة تركيا فيها، ولكنها عمدت أيضا إلى القيام بعمليات تنقيب عن الغاز في المناطق المحيطة بقبرص وحول بعض الجزر القريبة منها، وإرسال سفن التنقيب والمسح الزلزالي مصحوبة ببوارج وسفن عسكرية لحمايتها. يضاف إلى ذلك أن تركيا توصلت إلى اتفاقية مع حكومة فايز السراج المعترف بها دوليا في ليبيا لتحديد الحدود البحرية والجرف القاري بين تركيا وليبيا في 27/ 11/ 2019، وهو ما أثار اعتراض اليونان ومصر وقبرص، وكان من نتائجه توصل مصر واليونان إلى اتفاق لتحديد الحدود البحرية بين الدولتين في البحر المتوسط في 6/ 8/ 2020، وهو ما اعترضت عليه تركيا، وبذلك تداخلت الاعتبارات السياسية وصراعات المصالح في ليبيا مع مصالح التنقيب عن الغاز ومحاولة تأمينها بالنسبة للأطراف المختلفة، وساعد على زيادة التوتر الخلافات المعروفة بين تركيا واليونان حول الحدود والجزر في بحر إيجه منذ عقود من ناحية، وبين تركيا ومصر في ليبيا وغيرها من ناحية ثانية، وكذلك بين تركيا وقبرص، منذ سيطرة تركيا على شمال قبرص عام 1974 تحت ما سمى جمهورية قبرص التركية، التي لم يعترف بها سوى تركيا من ناحية ثالثة.

جدير بالذكر أن تركيا في سعيها إلى فرض نفسها في مجال التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، ومن منطلق شعورها بالقوة الذاتية والتفوق العسكري مقارنة مع اليونان، اعتمدت على إظهار قوتها العسكرية والتلويح بقدرتها على حماية سفن التنقيب والمسح الزلزالي التابعة لها، والتي تعمل في مناطق تعتبرها اليونان تابعة لها، في حين تعتبرها تركيا تابعة لها أو تابعة لشمال قبرص - قبرص التركية - وزاد من التوتر قيام أطراف عدة بتنفيذ مناورات عسكرية في شرق البحر المتوسط، وهو ما حدث بين إيطاليا واليونان وقبرص وفرنسا، وبين مصر وفرنسا، ومصر واليونان وقبرص، وبين تركيا وأمريكا، إلى جانب مناورات تركية واسعة هذه الأيام بين تركيا وشمال قبرص التركية، كما تحركت سفن عسكرية وحاملة طائرات فرنسية - الحاملة شارل ديجول - إلى شرق البحر المتوسط، مما أثار انتقاد تركيا لباريس وتحذيرها من إشغال حرب يمكن أن تؤدي إلى «زوال» من يشعلها.

ثانيا: في ظل هذا الغليان، وتعدد الألغام القابلة للانفجار في شرق البحر المتوسط، حاول حلف شمال الأطلنطي، الذي تنتمي إلى عضويته كل من تركيا واليونان، تهدئة الوضع، وحملهما على الدخول في محادثات لتجنب مخاطر الاحتكاك والحوادث غير المقصودة، كخطوة لتخفيف احتمالات حدوث خطأ يمكن أن يؤدي إلى مواجهات لا يرغبها أحد، وفي حين وافقت تركيا فإن اليونان اشترطت للدخول في مفاوضات مع أنقرة أن تسحب تركيا سفن التنقيب عن الغاز التي تعمل في مواقع تعتبرها اليونان جزءًا من الجرف القاري لها.

ومن جانب آخر مال الاتحاد الأوروبي، الذي تنتمي إليه اليونان وقبرص، إلى تأييد موقف اليونان ودعمها من خلال إجراء مناورات فرنسية معها، والتلويح بفرض عقوبات على تركيا في حالة الضرورة، وهو ما انتقدته تركيا متهمة الاتحاد الأوروبي بالانحياز إلى اليونان، وقد حاول وزير خارجية ألمانيا التدخل لتخفيف التوتر، والدعوة إلى مفاوضات على أساس قواعد القانون الدولي ومراعاة مصالح كل الأطراف.

وبالرغم من إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أيام عن اكتشاف كبير للغاز في البحر الأسود، وأن هناك احتمالات كبيرة لمزيد من الاكتشافات، إلا أن أنقرة مددت فترة عمليات التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط إلى 12 سبتمبر الجاري، بعد أن كان من المقرر أن تنتهي في 2 سبتمبر، وهو ما اعتبرته اليونان استفزازا تركيا، خاصة أن أنقرة أكدت على تمسكها بحقوقها. على أي حال فإن الجزر الواقعة في بحر إيجه وبين اليونان وتركيا تشكل أساس المشكلة، خاصة بعد أن أقرت معاهدة لوزان، التي تم التوصل إليها عام 1923 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، ضم الكثير من تلك الجزر إلى الأراضي اليونانية، وهو ما قلص في الواقع من الحدود البحرية لتركيا عمليا، لأن بعض الجزر لا يبعد عن الشواطئ التركية سوى أميال قليلة. ومن هنا اعترضت تركيا على قيام اليونان بمد حدود مياهها الإقليمية من 6 أميال إلى 12 ميلا بحريا. ومع الوضع في الاعتبار أن تركيا تعتبر نفسها قوة إقليمية كبيرة، وتسعى إلى القيام بدور ملموس في شؤون المنطقة، فضلًا عن أنها تشعر بتفوقها العسكري، فإنها تسعى لحماية مصالحها فيما يتصل بالتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط بكل السبل الممكنة، ومن المرجح أن تأكيدها على موقفها الراهن، والتلويح بإمكانية اللجوء إلى القوة، هو بمثابة تمهيد لمطالبتها بإعادة النظر في اتفاقية لوزان التي تنتهي عام 2023 - أي بعد مائة عام من توقيعها - وإرساء قواعد جديدة يمكن أن تحقق لها مكاسب أكبر في مجال التنقيب عن الغاز.

وإذا كان ذلك سيتوقف بالضرورة على موقف اليونان، الرافض للتمدد التركي على حسابها، خاصة وأنها تشعر بتأييد الاتحاد الأوروبي لها، وتسعى إلى كسب أكبر تأييد دولي لموقفها، فإن هذا لا يعني أن الطريق مسدود.

ولعل ما يجعل الطريق مفتوحًا أمام التوصل إلى توافق بين تركيا واليونان، هو أن الجانبين لا يريدان حربا بينهما، وأن الحشد العسكري المتبادل هو لمجرد تعزيز المواقف وإظهار الجدية في التمسك بالحقوق، غير أن مائدة المفاوضات يكون لها منطقها في العادة.

وإذا كانت تركيا قد أكدت على رغبتها في حل المشكلة بالحوار، سواء مع اليونان أو مع الأطراف المعنية الأخرى، واشترطت اليونان سحب سفن التنقيب التركية عن الغاز أولا، فإن السير في طريق التفاوض يتطلب دعما أمريكيا وأوروبيا ومن جانب حلف الأطلنطي وروسيا أيضا حتى يتم نزع فتيل الألغام القابلة للانفجار وهو ما نأمل التوصل إليه في الفترة القادمة، ولعل ذلك يكون مقدمة للحل السلمي في ليبيا وسوريا كذلك.