أفكار وآراء

حقوق الإنسان «بمضامينها».. هل تبحث عن هوية؟

06 سبتمبر 2020
06 سبتمبر 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

في تصوري الشخصي أن معززات حقوق الإنسان في مجملها لا يجب أن تخضع لمتغيرات مجتمعية، كما هو الحال في الثقافة والاقتصاد والسياسة، لأن ازدهار كل هذه العناوين قائم على تحقق مشروع حقوق الإنسان، وليس العكس، وتصدع الحقوق معناه تصدع كل هذه المعززات البنائية الموكول إليها خدمة المجتمع.

عندما يكون الحديث عن «حقوق الإنسان» فإن الحديث يذهب إلى العدالة، وإلى الحرية، وإلى المساواة، فهذه كلها مشاريع إنسانية بحتة، يطالب بها الإنسان، ويخل بأمانة تحققها الإنسان نفسه، ويدخل في معترك الصدام لأجلها الإنسان مع الإنسان، ربما لأن الفهم النسبي لها هو الذي يوجد هذه المساحة الفضفاضة لحقيقة وجودها على أرض الواقع، مع أنها ليست مسميات تبحث لها عن هوية فهويتها إنسانية مطلقة؛ وإن شوه صورتها الإنسان نفسه، ولا هي حديثة العهد في علاقتها بالإنسان، حيث ينادي بها مع أول صرخة له - فرحة وشعورا - حيث لحظة خروجه من بطن أمه، ومن يطالب بها لا يغرد خارج السرب فالعلاقة بها علاقة عضوية؛ حيث تمثل مصيره ومنتهاه، ولذلك تأتي المطالبة بها لتوقظ الأذهان بأن هذا المشروع الإنساني «متموضع» عند مستوى القناعات، وهذا لا يكفي الإيمان بأهميتها؛ بمعنى إن تحققت القناعات أو الإيمان بأهميتها فإنها سوف تجد طريقها إلى التحقق، وإن كان الأمر عكس ذلك تماما، فإنها تظل على تموضعها، إلى أن تأتي مرحلة زمنية أخرى تكون فيها المطالبة بتحققها أمرا لا محيص عنه، وواقعا لا يحتمل بغير تحققها، ومن هنا تكتسب «حقوق الإنسان» هذا البعد الموضوعي والمصيري من الاهتمام، ومن بذل الغالي إذا اقتضى الأمر ذلك، فالواقع لا يقبل بغير وجودها، فهي المساحة الآمنة للبقاء، والرضا، والتقدم، والتعاون، والتكاتف، وتجاوز المظان الخاصة التي تعرقل مشروعها النهضوي الممتد.

ورغم تجربة الإنسان الطويلة في البحث والمطالبة عن «الحرية والمساواة والعدالة» وتخبطه وارتباكاته في تطبيقها على أرض الواقع، إلا أنه حتى اليوم المتحقق له من عمر التمكين الواعي لحقيقة هذه العناوين كلها لا يزال دون الطموح، ولا يعبر إطلاقا عن تجربة متجذرة وأصيلة في شأن هذه الحقوق كلها، ولا تزال المسألة محط جدل موضوعي، وليس اختلاف مفاهيم فقط، ويأتي الإيمان بالتطبيق في مقدمة هذا الجدل، ونتيجة لهذه الرؤية الضبابية في شأنها فهناك من يحاول أن يبحث لها عن هوية: إما اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو سياسية، ومع ذلك تذوب هذه الهويات كلها عندما تصطدم بالمصلحة الخاصة، سواء من يتبنى هذه المصلحة فرد، أو جماعة، أو مؤسسة، أو نظام سياسي بأكمله، وهذا ما يؤسف له حقا، وفي كل هذه المناخات يضع الإنسان شروطا محددة لتحقيقها، وقد تكون قاسية وغير يسيرة، يذهب ضحية رفضها أرواح وممتلكات، ودول، وشعوب، وكل التجارب الإنسانية التي مرت بهذا النفق لا تفصح عن رؤية تكون أقرب إلى الاطمئنان بتغيير الحال، بل تؤكد أن «حقوق الإنسان» ستبقى حلما بعيد المنال، وبمثل ما دفعت الإنسانية من أثمان غالية، ستدفع أكثر، لأن الإنسان بوعيه القاصر، لا يزال يراوح مكانه بين الإيمان بأهمية هذه الحقوق، وضرورة تحققها على أرض الواقع، وبين غض الطرف عنها في مواقف الضعف التي يمر بها.

وهل هناك علاقة طردية بين تحقيق الأمن الاجتماعي، وتحقيق مجموعته الداعمة من «الحرية والمساواة والعدالة»؟

سؤال لا يزال يدور بين أروقة الساسة؛ في أغلب الأحيان؛ لأن الإنسان العادي، تعنيه النتيجة النهائية، والمحصلة الموضوعية من مختلف هذه المسميات، أو العناوين كلها، ولذلك؛ وفي أغلب الأحيان، فالإنسان العادي عندما يصل إلى حالة من اليأس يكتفي بالمتحقق البيولوجي لإشباع رغباته الأولى، لا أكثر، ومن هنا يجدها البعض فرصة للتنظير بالقول: إن البحث الصرف عن «الحرية والمساواة والعدالة» هو نوع من الترف، أو من الرغبات التي تتجاوز الحاجيات الأساسية والضرورية للحياة»، وهذا التقييم غير سليم، ولا يعبر عن منجز معرفي أو واع، وينظر إليه بنوع من الاستخفاف، فحقوق الإنسان في مجملها هي مطالب أساسية وجوهرية للحياة الآمنة، ولا يمكن الوقوف دون تحققها على أرض الواقع، لأنها المتنفس المهم للبقاء والحياة، وشعور الإنسان بالرضا، والإحساس بالاطمئنان.

والحقيقة أن هناك علاقة عضوية شديدة التماس، والتكامل بين الأمن الاجتماعي، وتحقق «حقوق الإنسان» والأنظمة السياسية الفاعلة في المشهد الاجتماعي يقينا لا تتجاوز هذه الحقيقة، ولذلك تعمل على مسارين مهمين في ذات الاتجاه؛ الأول: المسار التنموي بكل مفرداته، وإشباع هذه المسار بما يغني الأفراد عن التفكير في أي نقص فيه، والمسار الثاني هو تحقق مفردات هذه الحقوق المختلفة، والعمل الجاد على توظيفها التوظيف الصحيح، ولا تترك أية مثلبة أو ثغرة من شأنها أن تقوّض مجموعة الجهود الفاعلة في تحققها، مع الحرص على تجفيف منابع تأجيجها هنا أو هناك، وإعمال التشريع بصورة واضحة، فالتشريع هو الحارس الأمين لكل الاستحقاقات المعززة لحياة الإنسان، فهو الموكول إليه تحقيق العدالة والحرية والمساواة.

هناك من يطرح فكرة أن إشباع الحاجيات البيولوجية عند الإنسان ما يكفي في إقناعه عن المطالبة بكثير من هذه الحقوق، ولذلك تسعى بعض الأنظمة؛ المتسلطة على وجه الخصوص؛ لإسكات شعوبها بشيء من هذه الحاجيات البيولوجية، حيث يشعر الفرد عندها بـ»المنة» ولذلك تعد المطالبة من قبل الفرد بشيء خارج عن هذه الحاجيات البيولوجية خروجا عن الطاعة، مع أن الحاجيات البيولوجية ليست حقوقا بالمعنى الذي تقره الشرعة الدولية في تعريفاتها المعتمدة، ويبدو أن هناك خلطا بين الحقوق والواجبات، وهذه إشكالية معرفية معني المنهج الدراسي بتوضيحها أكثر، حتى لا تختلط المفاهيم ببعضها، لأنه وعلى امتداد التجربة الإنسانية والتي عشنا جزءا منها ولا نزال بفضل الله لم يشفع إشباع الحاجيات البيولوجية للإنسان عن المطالبة بتحقيق «الحرية والمساواة والعدالة» وإلا لما قامت الثورات، ولما أزهقت الأرواح، ولما احتلت الدول، ولما دفعت الإنسانية ثمنا باهظا لأجل تحقيقها.

لا شك أن توظيف «حقوق الإنسان» في كل مفاصل الحياة اليومية، تمثل حتمية لا تحتاج كثيرا إلى نقاشات، ومطالبات، ومع ذلك لا ينزلها الناس المنزلة المباركة في التوظيف سواء على المستوى الخاص «الفرد» أو على المستوى العام «المؤسسة» ومن هنا تأتي الضرورة إلى إنشاء مؤسسات تفرض شروطها الصعبة لتحقيقها على الفرد وعلى المؤسسة، وهذا أمر غريب حقا، ولا يستساغ، ويعبر عن مغالطة موضوعية في حقيقة الوعي بأهمية هذه الحقوق لدى هذا الإنسان نفسه، ولذلك تضج الحياة العامة من ممارسات وسلوكيات الإنسان الفرد التي تذهب إلى الظلم، وأكل الحقوق، والتعدي المفرط على الآخر، بدون أسباب جوهرية، وهذه كلها ممارسات تتناقض تناقضا تاما مع مفهوم حقوق الإنسان، فهل تٌجيّر هذه المسألة إلى وقوعها في مستنقع الخاص من حيث تحقيق مكاسب فردية مطلقة فقط، ولا يهم بعد ذلك ما يصاحبه من تداعيات لا تراعى هذه الحقوق؟ وفي حالة التسليم بهذه الصورة، هل هناك من مسوّغ آخر يتيح للإنسان صناعة حريته بنفسه؟ وما مدى سقف هذه الحرية التي يجب أن يستشعرها الفرد ليظل المحتوى المعنوي قادر على إقناع الفرد أنه يتمتع بحرية كاملة؟ مع أن الحرية الفردية، حالة مشكوك في أمرها، فمظان النفس تذهب بعيدا، وتتجاوز حقوق الآخرين، استسهالا لتوظيف الحرية الشخصية، فالقاعدة الاجتماعية تقول: «تنتهي حريتك؛ عندما تبدأ حرية الآخرين» وهذه الحدود هي ذات الحقوق لا فرق في المعنى.

وأختم هنا بسؤال أخير وهو إلى أي حد تخضع «الحرية والمساواة والعدالة» إلى متغيرات، كما هو الحال في متغيرات المجتمع والثقافة والسياسة والاقتصاد؟

في تصوري الشخصي أن معززات حقوق الإنسان في مجملها لا يجب أن تخضع لمتغيرات مجتمعية، كما هو الحال في الثقافة والاقتصاد والسياسة، لأن ازدهار كل هذه العناوين قائم على تحقق مشروع حقوق الإنسان، وليس العكس، وتصدع الحقوق معناه تصدع كل هذه المعززات البنائية الموكول إليها خدمة المجتمع، وما نراه على الواقع مما آلت إليه الأحوال في كثير من الدول، هو ما تعاني منه هذه الحقوق من سوء تطبيقها وتوظيفها التوظيف السيئ، ولذلك تظل «علكة» تلوكها الألسنة ليل نهار، وربما تصبح عند شعوب أخرى كالأسطورة المتخيلة فقط، وليس لها أثرا على واقع الناس.