أفكار وآراء

التعليم طريق النجاح لبناء دولة عصرية قوية البنيان

05 سبتمبر 2020
05 سبتمبر 2020

د. عبدالعاطي محمد -

إنه أفضل استثمار، ذلك الذي يتم في البشر عبر التعليم، خصوصا عندما تتوافر مقومات النجاح كما سبق التوضيح، لأن النتيجة هي إيجاد مجتمع ناهض وصالح ومتسامح ومنفتح على العصر وواثق من نفسه في مواجهة التحديات.

شد الانتباه إصدار جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - في وقت مبكر من حكمه توجيهات سامية للحكومة الجديدة بإعطاء أولوية للتعليم خلال السنوات المقبلة، تماما مثلما فعل الراحل العظيم جلالة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- وقت أن تسلم الحكم عام 1970، في بلد كان آنذاك يفتقر لأبسط مقدرات التعليم الأساسية، فإذا به يسرع بإحداث نقلة عصرية كبرى في التعليم يشهد بها القاصي والداني. فما أشبه الليلة بالبارحة، حيث التأكيد مجددا على وضوح الرؤية العمانية في تحقيق النهضة من خلال الاستمرارية على النهج والتنفيذ، بين ما تم بناؤه من نهضة حديثة في زمن قياسي، وما يجرى تنفيذه من خطط للتنمية وفقا لرؤية أو وثيقة عمان 2040.

الدلائل والقرائن على ذلك تتحدث عن نفسها من حيث الواقع الحي، وتشهد بها كبريات المؤسسات الدولية المختصة وليس فقط المؤشرات الرسمية العمانية. ورحلة السباق العماني نحو اعتماد العلم مقوما أساسيا للنهضة منذ بداياتها الأولى، رحلة مضيئة ومشرفة، ويطول شرح مراحلها وتطوراتها. ولكن ما يتعين الوقوف عنده كثيرا للتدبر واستخلاص الدروس ليس فقط للشعب العماني الذي أضحى مجتمعا شابا إلى حد كبير بحكم الزمن، وإنما لغيره من الشعوب التي واجهت مصاعب وتحديات التنمية وعزمت على تخطيها، هو وضوح الرؤية مبكرا لأهمية التعليم من ناحية، والالتزام الحكومي والشعبي بتفعيل متطلبات النهوض به من ناحية أخرى. وأهمية هذا تتكشف من خلال وضع التجربة في إطارها التاريخي. فمن المؤكد أن الاهتمام بالتعليم هو من بديهيات أي تجربة في العالم وبالأخص في منطقتنا العربية للانتقال من التخلف إلى التقدم. ومن يعود إلى كل أدبيات التطور الوطني لمختلف شعوب المنطقة منذ نحو مائتي عام تقريبا يلمس بوضوح قاطع صرخات المصلحين للاهتمام بالتعليم. ولكن دروس التاريخ تقول إنه لا يكفي أن تصرخ مطالبا بهذا الهدف، وإنما يتعين أن تكون صادقا في هذه الرغبة بمعنى أن يكون لديك وعي وإدراك حقيقي بأهميتها، حيث لا تتعرض للتشويش من جانب أفكار أخرى، وأن تنقل الرغبة إلى واقع، وليس أي واقع، وإنما مدروس جيدا ويتم تحقيقه عبر خطط محكمة، فلا مجال للخطأ أو الشعارات الزائفة، وإنما العمل الصادق والاستمرارية في النجاح خطوة تلو الأخرى. وارتباطا بتوضيح المصداقية في التوجه العماني نحو التعليم يمكن القول بأنه تطور منذ نحو خمسين عاما وفق أربعة محددات، هي:

أولا الارتقاء بالإنسان العماني ليكون مصدرا لدوران عجلة التنمية، وليس من المبالغة القول إن عمان عرفت التنمية البشرية قبل أن تطالب بها المؤسسات الدولية المختصة، ومن يراجع خطب جلالة الراحل السلطان قابوس يتأكد تماما من الحرص على أن يكون الإنسان العماني هو غاية التنمية.

ثانيا تم ربط تطور التعليم باحتياجات البلاد والشعب العماني وفق كل مرحلة زمنية، فلم يكن هناك قفز إلى المجهول أو حرق للمراحل، وإنما توظيف التعليم لخدمة متطلبات كل مرحلة تنموية. فلم يكن التعليم رفاهية أو زهو بتبني أحدث ما يصل إليه العالم المتقدم في حد ذاته، وإنما كان مرتبطا بسوق العمل ومتطلبات البناء في كل المجالات. مرحلة تلو مرحلة.

ثالثا الكفاءة المؤسسية والإدارية بمعنى إيجاد منظومة قادرة على تحقيق معدلات عالية من النجاح على طريق التنفيذ.

أما المحدد الرابع فقد تركز في الحفاظ على الشخصية العمانية الحضارية فلم يكن المطلوب فقط الحصول على تعليم عصري جيد يرتقي بالمواطن اجتماعيا ويدفع عجلة الاقتصاد إلى الأمام، وإنما أيضا إيجاد تعليم يستفيد من التراث الحضاري العماني ويعزز مقومات الشخصية العمانية. وإلى يومنا هذا يفخر المواطن العماني بقيمه الاجتماعية والدينية والثقافية المتوارثة على مدى الزمن حتى لو وصل إلى أحدث ما وصل إليه العلم على مستوى العالم.

وفي هذا الإطار، ووفقا للمسيرة الناجحة على مدى العقود الماضية، قد يثور تساؤل مشروع عن جدوى إعادة التأكيد على أن يحظى التعليم بأولوية في المسيرة الوطنية خلال السنوات المقبلة. ولكن يزول اللبس سريعا إذا ما عدنا لنفس القاعدة القديمة في تقويم مسيرة التعليم، ألا وهي ظروف كل مرحلة تاريخية من مراحل التطور الوطني. فالزمن المعاصر ليس لعمان وحدها، وإنما لبقية العالم، هو زمن التطلعات الشعبية الكبرى، والمصاعب والتحديات الكبرى أيضا، والثورة العلمية غير المسبوقة خصوصا فيما يتعلق بالتكنولوجيا الرقمية. وبناء عليه يحظى التعليم بأولوية التأكيد على أهميته بالنظر إلى كونه محور النجاح في التفاعل الإيجابي مع هذه التطورات المعاصرة.

وبداية وقبل الشروع في تفسير أسباب الاهتمام المتجدد بالتعليم، فإن استهلال جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- لعهده بتوجيه الأنظار إلى هذا الموضوع تحديدا والذي كان من أولويات جلالة السلطان قابوس، يعني الكثير والكثير كرسالة للشعب العماني. رسالة تقول: لقد وضعنا أيدينا في السابق على مصدر النجاح، وعلينا أن نتمسك بنفس المصدر، وإن القيمة المضافة -إن جاز التعبير- من وراء التشديد على استمرار منح الأولوية للتعليم، تتمثل في توحيد الرؤى المستقبلية، وتعزيز الثقة في مسيرة التنمية برغم كل المصاعب، وإضافة طاقة معنوية إيجابية جديدة عند الإنسان العماني ليواصل الهمة ويحافظ على شخصيته في زمن المتغيرات الكبرى والمفاجئة.

ومع أهمية هذا الاعتبار، إلا أن هناك من المستجدات الموضوعية على صعيد تطور الأمم والمجتمعات، ما يجعل التعليم يتصدر الأولويات الوطنية، فسباق الحصول على مقومات القوة في الزمن المعاصر يتركز حول ما يتم تحصيله من علم حديث في كل المجالات. نعم هناك مقومات معروفة للقوة، ناعمة كانت أم صلبة سواء ما يتعلق بأدوات الإنتاج التقليدية أو الطاقة والثروات الطبيعية الأخرى أو ما يتعلق بالسلاح أو مظاهر القوة العسكرية.. ألخ، ولكن زماننا أصبح يعرف ما يسمى بإنتاج المعرفة، أو الإبداع في إيجاد أفكار تفتح الطريق إلى، ليس فقط تطوير المنتجات المختلفة بشكل أفضل، وإنما أيضا خلق منتجات جديدة تماما. وقد ساهمت التكنولوجيا الرقمية في ترسيخ هذا المسمى حتى بات من يصممون البرامج الإلكترونية ومن يبدعون في ريادة الأعمال (الإبداع في خلق الفرص) في مقدمة قوى الإنتاج، ولعل واحدا من عوامل النجاح المذهل للصين هو السبق في الاعتماد على ما تتيحه التكنولوجيا الرقمية من أفكار. كما ساهمت العولمة في أن تجعل هذه التكنولوجيا موضع تنافس حاد بين مختلف الأمم.

وبالنسبة لعمان فإن رؤية 2040 تضفي أهمية خاصة على عامل التعليم، فمن يتأمل محاورها يلمس إلى أي حد يصبح التعليم عنصرا مهما في كل محور، ولذلك فقد جاءت التوجيهات السامية من جلالة السلطان هيثم بن طارق لإعطاء أولوية للتعليم متفقة مع هذه الرؤية. ودون الدخول في التفاصيل، لأنها باتت معروفة لدى كل العمانيين، فإن هذه الرؤية تجمع بين أربعة محاور هي: الإنسان والمجتمع، والاقتصاد والتنمية، والحوكمة والأداء المؤسسي، والبيئة المستدامة. فبالتعليم يكون الإنسان مبدعا، أي منتجا للأفكار، وبه يمكن تعزيز التنافسية فيرتقي الاقتصاد، ويمكن من خلاله تفعيل الحوكمة بشكل أفضل لأن القوى العاملة في دولاب الإدارة ستستعمل مخرجات التكنولوجيا الرقمية وتتضاءل الأخطاء. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الرؤية 2040 قد تحددت ليس فقط من خلال المختصين ولكن أيضا وفق حوار مجتمعي خلاق، بما يكفل لها فرص النجاح مهما واجهت من صعوبات، وهو أمر متوقع بالنظر إلى تسارع المخاطر واتساعها وامتدادها عبر الحدود.

ومن الواضح أن فرص النجاح قائمة للاعتماد على التعليم كقاطرة تنهض بالتنمية البشرية وتعزز الأوضاع الاقتصادية وترتقي بمستويات المعيشة مما يعني حراكا اجتماعيا إيجابيا. والفرص تتركز في تبني القيادة لهذا التوجه ووجود رؤية علمية لها سند من التأييد والفهم الشعبي، بالإضافة إلى الرصيد الوطني من الخبرة منذ بدايات النهضة المباركة. كما أن التوجه القديم الجديد يأتي ضمن تغيير في هيكلة الإدارة، لكي تخدم المنظومة بكاملها متطلبات التنمية، فما يحدث في التعليم مرتبط بما يحدث من تطوير جديد في هياكل الإدارة الحكومية التي باتت تستفيد من ثمار التنمية البشرية التي تحققت على مدى السنوات الماضية. ومن المنطقي أن تعمل الدولة على توفير البيئة السياسية الخارجية التي تخدم التنمية، ولذلك تم التأكيد مجددا على ثوابت السياسة الخارجية العمانية التي سارت عليها منذ فجر النهضة. فبتلك السياسة تحقق الأمن والاستقرار للبلاد وتجنبت مفاجآت ونوازل الأزمات التي باتت تضرب البنيان العربي في أكثر من اتجاه ومكان.

إنه أفضل استثمار، ذلك الذي يتم في البشر عبر التعليم، خصوصا عندما تتوافر مقومات النجاح كما سبق التوضيح، لأن النتيجة هي إيجاد مجتمع ناهض وصالح ومتسامح ومنفتح على العصر وواثق من نفسه في مواجهة التحديات، مجتمع تتوافر له عناصر القوة الناعمة والصلبة. والملفت أن التجربة العمانية تجرى في ثقة بالنفس، وفي هدوء ودون صخب أو ضجيج، وليس من المبالغة القول إن ذلك كان وسيظل واحدا من عوامل النجاح الفريدة.