أفكار وآراء

توترات بحر الصين الجنوبي واحتمالات المواجهة الصينية الأمريكية

05 سبتمبر 2020
05 سبتمبر 2020

د.صلاح أبونار -

خلال الشهور الأخيرة بدا بحر الصين الجنوبي مسرحا لتوترات عسكرية، تنذر باحتمال انفجار صراعات عسكرية بين الصين والولايات المتحدة. في مايو تسربت معلومات أكدتها مصادر تايوانية عسكرية، تفيد تجهيز الصين لإجراء مناورات في أغسطس للتدريب على استعادة جزر براتاس الصينية من السيطرة التايوانية. وفي الأول من يوليو دخلت حاملتان أمريكيتان للطائرات مياه البحر، وعلى مدى خمسة أيام أجريتا تدريباتهما. وفي 13 يوليو نشر جورج بومبيو تصريحا مطولا، بدا كأنه تحذيراً موجها للصين من أي خطوات تتخذها لتحقيق مطالبها تجاه معالم البحر. وفي 30 يوليو ردت الصين بمناورات برية وجوية في مياه البحر. فما الذي يحدث في البحر الجنوبي؟ وهل ما نراه يشكل مقدمات لتحول الصراع الاقتصادي لصراع عسكري أم إنها توترات عابرة يديرها الطرفان بحرص، لأنهما يدركان التكلفة الباهظة لتحولها إلى صراعات عسكرية؟

يشكل التوتر الصيني الأمريكي أحد تجليات التوترات الدائرة بين قوى حوض البحر الإقليمية. جرت وقائع التوترات الأساسية حول جزر باراسيل في ركنه الشمالي الغربي، وسبراتلى في ركنه الجنوبي الشرقي وبراتاس في شماله، ومعالم أخرى أهمها شعب ميسشيف المرجانية وحاجز سكاربورج الصخري وهضبة ريد البحرية. وحتى نهاية الحرب الثانية، لم تمتلك أي من الدول الشاطئية المنخرطة في منازعاته (الصين وفيتنام والفلبين وتايوان وماليزيا)، وجودا بشريا أو عسكريا في أي منها. أطلقت الصين عام 1946 الحركة الإقليمية للسيطرة عليها، مع احتلال حكومة الكومينتانج بعض معالم سبراتلى. وفي أوائل 1947 احتلت جزيرة وودي في باراسيل. وفي العام نفسه أعلن الكومينتانج خريطة الإحدى عشرة شرطة، والتي أصبحت عام 1954 تسمى خريطة التسع شرطات. احتوت الخريطة إحدى عشرة شرطة منفصلة، تتواصل في شكل حرف يو لتشمل 90% من مساحة البحر. ووفقا للدعاوى الصينية تعتبر المعالم السابقة والمعالم المحاطة بالشرطات، ملكية صينية بمقتضى «الحقوق التاريخية». وسوف ترد فيتنام وفرنسا المحتلة على التوسع الصيني، عبر الاستيلاء على جزيرة باتل في باراسيل، ومع هزيمة الكومنتانج اضطرت قواته للتخلي عن الجزر السابقة.

ولم يشهد عقدا الخمسينات والستينات تطورات تذكر في المشهد الصراعي. ولكن من بداية السبعينات تشكلت متغيرات جديدة، أطلقت معها صراعات إقليمية، وصلت لذروتها في العقد الجاري. ما هي تلك المتغيرات؟

يتعلق المتغير الأول بالطاقة الأحفورية. في 1969 وبعد مسح أجري في عامي 68-1969، وجدت لجنة الأمم المتحدة للشرق الأقصى مؤشرات نفطية قوية في المياه الواقعة بين تايوان واليابان، وهكذا بدأ الاهتمام النفطي المكثف بالبحر. وفي مارس 1976 اكتشفت الفلبين أول حقولها النفطية وبدأت إنتاجه عام 1979. وبمرور الأعوام اتسعت دائرة الدولة الإقليمية الباحثة عن النفط. وشهد عام 2012 تطوراً هاماً، ففيه أصبحت الصين أكبر مستهلك عالمي للطاقة وثاني أكبر مستورد للنفط، وفي عام 2017 أصبحت أكبر مستوردي النفط. وبالتوازي مع نهضة دول شرق آسيا الاقتصادية تصاعد طلبها النفطي. وفقا لإحصائيات 2018 شكلت نصف قائمة أكبر 10 مستوردين للنفط الخام، حيث كانت الصين الأولى بنسبة 19.7%، والهند الثالثة بنسبة9.8%، وكوريا الرابعة بنسبة6.4%، واليابان الخامسة بنسبة6.4%، وتايلاند العاشرة 2.3%. ورفع هذا وتيرة الصراع الإقليمي على مياه البحر. وهكذا دارت أبرز التوترات والصدامات العسكرية حول محاولة دولة البحث عن النفط في منطقة تعتبرها دولة مجاورة جزءًا من منطقتها الاقتصادية. وهو حال الاشتباك العسكري الصيني- الفيتنامي في مارس 1988 حول شعب جونسون المرجانية في سبراتلى، والاحتكاك الفلبيني- الصيني حول هضبة ريد البحرية عام 2011 في سبراتلى، والصدام العسكري الصيني- الفيتنامي مايو 2014 في باراسيل، والاحتكاك الصيني- الفيتنامي في المنطقة الفيتنامية الاقتصادية بالقرب من مواقع استكشاف نفطي. وفي كل الحالات كانت الصين المبادر بخلق المشكلة وغالبا المنتهك لحقوق الآخرين.

ويتعلق المتغير الثاني بتطورات الاستراتيجية الصينية. أحتل تحديث القوات المسلحة المكانة الرابعة في تحديثات دينج شياو بينج الأربعة 1978. وسيتشكل التحديث العسكري تحت تأثير استقراء خبرات معاصرة، من الأداء العسكري الصيني السيئ في الحرب مع فيتنام 1979، مرورا بانهيار الكتلة الاشتراكية 1991 بما كشفه من قصور عسكري، وحتى خبرات التدخل الأمريكي في حرب العراق الأولى وبروز التكنولوجيا الحديثة فيها. وسيلعب الوعي بالتحول في مصادر التهديد الاستراتيجي دورا مماثلا. مع اختفاء التهديد السوفييتي البري تقدم التهديد الأمريكي ليحتل المركز، ليفرض تحولات على الرؤية الاستراتيجية الصينية، أهمها دور القوة البحرية. وفيما بين 2000- 2016 ارتفعت ميزانية الجيش الصيني بمعدل 10% سنويا. وأسفر رفع الميزانية، وإعادة التنظيم، وتطوير البحث العلمي، وتحديث الصناعات العسكرية، عن ظهور جيش جديد. وفقا لتقديرات 2020 لجلوبال فاير باور تعتبر الصين ثالث قوه عسكرية بعد أمريكا وروسيا. وفي هذا السياق قفز عدد قطعها البحرية المقاتلة، من 110 عام 2000 إلى 360 عام 2020 لتصبح القوة الثانية. وتشكلت استراتيجية الصين تجاه البحر في هذا السياق. تستهدف الاستراتيجية موازنة الوجود الأمريكي في شرق آسيا والباسيفيكي. وتحويل البحر الجنوبي إلى عمق استراتيجي للصين. وضمان أمنه كمصدر للطاقة، قدرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية عام 2013 أن احتياطياته المؤكدة تبلغ 11 بليون برميل نفط و190 تريليون قدم غاز مكعب. احتياطيات محدودة قياسا على مناطق أخرى، ولكن الاحتياطيات الأحفورية تمتلك تغيرية عالية، ويمنحنا غاز شرق المتوسط برهانا. وأخيراً ضمان أمنه كممر بحري تجتازه 40 % من تجارتها الخارجية و70% من تجارة العالم. وهكذا تشكلت ممارسات الصين العسكرية داخل البحر، من احتلال لجزر وحواجز صخرية وشعب مرجانية متنازع عليها، مروراً بتشكيل جزر صناعية وتوسيع مساحة جزر طبيعية وبناء منشآت عسكرية عليها، وانتهاء بالانتهاكات المتكررة لمياه الدول المجاورة ومناطقها الاقتصادية، بما خلقته من صدامات عسكرية محدودة وبما فرضته من توترات سياسية.

وسنجد المتغير الثالث والأخير في انتقال ثقل السياسة الخارجية الأمريكية صوب شرق آسيا. في 17 نوفمبر 2011 أطلق أوباما هذا الانتقال، ولكن انتقاله لن يتخذ شكلا صراعيا. ومع ترامب ستشهد السياسة الخارجية تحولات عميقة، من الموقف تجاه التحالف الأطلسي، إلى التنصل من التزامات أمريكا التعاهدية، إلى إدارة التحالفات بمنطق المشاريع الاقتصادية، إلى تفكيك مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي. وفي هذا السياق أصبحت الصين العدو الرئيسي، وهكذا اكتسب انتقال أوباما بعداً صراعيا حادا. تمنحنا استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2017 قراءة عابرة للتحول تجاه الصين، وسنجد قراءة مفصلة في تقرير مجلس الأمن القومي عن الصين مايو 2020، تعيد إنتاج ما يروجه ترامب بلغة استراتيجية. وأطلق هذا عمليه صراعية، نجد تجلياتها الصينية في وثيقة وزارة الدفاع: «دفاع الصين الوطني في العصر الجديد»، يوليو 2019. وهكذا تأسس وضع صراعي متصاعد، سنجد مؤشراته الأمريكية في ارتفاع عدد مناورات «عمليات حرية الملاحة» داخله من مناورتين عام 2016 إلى سبع في 2019، كما تخبرنا الوثيقة الصينية عن كثافة الانتشار الصيني البحري الذي وصل إلى 4600 سفينه ودورية بحرية أمنية.

هل من شأن المتغيرات السابقة أن تفجر صراعاً مسلحاً بين واشنطون وبكين في البحر الجنوبي؟ تغرينا العاصفة الأمريكية المعادية للصين، وكثافة وجود الخصمين البحري وتماس خطوطهما، أن نجيب بنعم. لكننا نتصور أن هذا الاحتمال إن تحقق، سيتخذ شكل معركة محدودة مثل اشتباك بين طائرتين، يتولد عبر ظرف عابر فرضته احتكاكات قهرية. ولا نرجح مواجهة عسكرية واسعة وممتدة ومخططة. لماذا؟ نفترض وجود مسارين لهذا الاحتمال. أول عبر انفجار صراع مسلح واسع وعنيف بين الصين وإحدى الدول المتشاطئة يقود إلى مشاركة أمريكية، بفعل تداعيات الموقف أو استدعاء التزام دفاعي أمريكي. ولا نرجح هذا المسار. وفقا لخبرة الاشتباكات الماضية، تمارس الصين قدرا عاليا من الانضباط في تطلعات هيمنتها الإقليمية، ولا تأخذ بجدية دعاويها بشأن الحقوق التاريخية، ولا تتمادى في الصراع المسلح حال انفجاره. ووفقا لذات الخبرة لا يميل خصومها للتمادي في الصراع، من واقع الخلل الواسع في توازن القوى، ووجود وسائل أخرى ناجحة لشكم التطلعات الصينية مثل القضاء الدولي كما فعلت الفلبين. يصعب تصور رهان طرف إقليمي على استدعاء أمريكا عسكريا، في ظل السيولة السياسية الأمريكية الراهنة، والتخلخل الواضح في علاقاتها مع حلفائها الآسيويين الكبار. ويبدو لنا المسار الأكثر ترجيحا هو صدام عسكري صيني- أمريكي مباشر. يواجه هذا المسار عوائق تحد كثيرا من احتماليته. المؤكد أن الصين لا تحبذه، لأنها تعرف تكلفته السياسية العالية، ولأنها تدرك احتمالات الخسارة، وتفضل المواجهة السياسية والاقتصادية، وتراهن على توظيف حالة الرفض الدولي للسياسات الأمريكية الجديدة. وتبدو واشنطون أكثر ميلا لهذا الخيار، ولكن ليس مرجحا انسياقها إليه إلا بفعل استفزاز صيني. يشير استقراء سياساتها تجاه الصين، إلى تفضيلها لسياسات الحرب الباردة تجاه الاتحاد السوفييتي، أي تجنب المواجهات العسكرية، وانتهاج الحصار الاقتصادي والتكنولوجي، والاستدراج لسباق تسلح منهك اقتصاديا. كما يشير لصعوبة بناء إجماع داخلي حول الخيار العسكري أو بناء تحالفات إقليمية مساندة. ولكن الأخطر وعيها أن تلك الحرب لكي تؤتى ثمارها السياسية يجب أن تكون واسعة وممتدة نسبيا، وهو خيار سيصيب الاقتصاد العالمي بخسائر باهظة، تجعله خياراً اضطرارياً.