أفكار وآراء

وقود «الترامبية» لم يَنفَد بعد

31 أغسطس 2020
31 أغسطس 2020

ديفيد إجنيشس- واشنطن بوست -

ترجمة قاسم مكي -

كَسَا الجمهوريون غضبهم بثياب أزهى وأجمل في مؤتمر نهاية هذا العام. فالمتحدثون من السيدة الأولى ميلانيا ترامب إلى نائب الرئيس بينس حاولوا جعل الحزب الجمهوري يبدو مثل حزب يدعو للتصافي والتسامح. لكن في مركز الحزب الجمهوري الشعبوي لم تنطفئ بعد كُرَة الغضب البرتقالي البراق. إنها (كرة) دونالد ترامب الجريح والغاضب والذي يَعِد الرجال ذوي البشرة البيضاء بجعل «أمريكا عظيمة مرة أخرى».

ربما أن انتخابات هذا العام، كما يقول لنا كلا الجانبين الجمهوري والديمقراطي، أهم انتخابات نشهدها في حياتنا. لكن نادرا ما يُذكر السبب بطريقة مباشرة. لماذا؟

لأن ذلك يعني إقرارا بالفشل الوطني. فأمريكا تتفكك في صيف 2020. وروابط التماسك الاجتماعي تنحل وتتفتت إلى حَدِّ أن العصابات المسلحة من اليسار واليمين تتظاهر في الشوارع.

وإذا كان (المرشح الرئاسي الديمقراطي) جو بايدن وكمالا هاريس (المرشحة الديموقراطية لمنصب نائب الرئيس) يريدان ألا يكونا هما فقط الفائزَين بالانتخابات القادمة ولكن أيضا الناس الذين يريدون استعادة تماسكنا الاجتماعي سيكون لزاما عليهما معالجة جذور الفوضى. ذلك يعني إدانة عنف الشرطة الذي استثار مظاهرات «حياة السُّود مُهمَّة». ولكنه أيضا يعني إدانة عنف المحتجين الذين يؤيدون هذه القضية بالحجارة والتخريب وكذلك الجماعات اليمينية المسلحة التي تدعي أنها تدعم الشرطة.

بدا أن بايدن حقق هذا الموقف المتوازن يوم الأربعاء 25 أغسطس. فقد وَاسَىَ والِدَي جاكوب بليك، ضحية نيران الشرطة في مدينة كينوشا بولاية وسكونسن الأمريكية. ثم حذر في شريط فيديو على تويتر من أن «إحراق البيوت ليس احتجاجا. إنه عنف لا لزوم له... ذلك خطأ.»

كيف بدا بلدٌ طيب مثل أمريكا في الانتقال إلى مثل هذا السوء؟

ذلك موضوع فيلم وثائقي بعنوان «النجوم والفتنة» للكاتب والمخرج ديفيد سميك والذي أُوصِي بمشاهدته قبل الانتخابات. (يشرح الفيلم الكيفية التي جعلت بها جائحةُ الكراهية والانقسام أمريكا بلا حول ولا قوة. ويرى أن إعادة اكتشافها لعاطفة التراحم والتوادد ستدفع بها الأمام- المترجم).

عندما يحاول المؤرخون فهم ما حدث للولايات المتحدة في السنين الأخيرة سيدرسون العوامل التي أفرخت تشنجات غضب «ترامب». ربما أن التغير الديموجرافي الأكثر لفتا للانتباه في الأعوام التي سبقت انتخابه يتمثل في التدهور الكارثي لصحة ودخل وتماسك الرجال ذوي البشرة البيضاء من غير الحاصلين على شهادات جامعية. صوتت هذه الفئة لترامب بنسبة 64% في انتخابات 2016 مما جعلها واحدة من أكبر كُتَل ناخبيه، بحسب مركز الأبحاث «بيو».

أفضل رصد لهذا الانهيار» الأبيض» يتمثل في كتاب «وفيَّات اليأس ومستقبل الرأسمالية» الصادر هذا العام ومن تأليف الاقتصاديَّين آن كيس وآنجوس ديتون. فالوفيات الناتجة من الإفراط في تناول جرعات المخدرات وحالات التسمم الأخرى والانتحار والأمراض المرتبطة بالكحول (والتي جمعها الكاتبان معا تحت مسمى وفيات أو أموات اليأس) وسط ذوي البشرة البيضاء في الفئة العمرية 45 إلى 54 عاما تضاعفت ثلاث مرات في الفترة من 1990 إلى 2017».

والرجال من الأمريكيين البيض خصوصا يموتون في وقت مبكر وتتقلص أعداد زيجاتهم ويفقدون وظائفهم وكرامتهم. وأعداد المنتحرين في أوساطهم صادمة. ونسبة احتمال قتلهم أنفسهم (انتحارهم) ضِعف هذه النسبة لدى المجموعات العرقية الأخرى باستثناء الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر)، وفقا لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها. وحوالي 70% من كل حالات الانتحار عام 2018 سُجِّلت في أوساطهم.

نحن نعرف النصف الآخر للحكاية. وهو فقدان الدخل والاحترام بالنسبة للرجال ذوي البشرة البيضاء من الطبقة العاملة. لقد خسر غير الحاصلين على شهادة جامعية من هذه الفئة حوالي 13% من القوة الشرائية لدخلهم الوسطى (بين أعلى وأقل دخل) في الفترة 1979 - 2017 فيما ارتفع نصيب الفرد من الدخل القومي في ذات الفترة بنسبة 85%، بحسب الكاتبَين كيس وديتون.

بعبارة لا تُنسَى، وصف جيه دي فانس في كتابه «مَرثِيَة التَّخلف» الصادر عام 2016 نتيجةً هذا السقوط الاقتصادي والاجتماعي الذي لا كابح له بأنها «إحساس بأنك ليست لديك سيطرة تُذكَر على حياتك. واستعدادك على لَوم كلِّ أحدٍ آخر إلا نفسك».

كان الأوروبيون في القرن التاسع عشر يخشون من أن تفكك الحياة الديمقراطية الحديثة قد ينتج عنه نفس هذا التحلل الاجتماعي بالضبط. واعتقد عالم الاجتماع الفرنسي الرائد إميل دوركهايم أن معدلات الانتحار المتزايدة تدلل في جزء منها على ما أسماه «أنومي» أو الإحساس بانحلال الروابط المجتمعية (انعدام كل ما يقيد الفرد اجتماعيا) واليأس. ووجد في دراسته الشهيرة «الانتحار» أن هذا النوع من إيذاء النفس أقل حدوثا في أثناء فترات الوحدة الوطنية ويزداد عندما يمزق التغيرُ السريع المجتمع.

تمثل التحدى الذي يواجه الديمقراطية الأمريكية دائما في أننا نفرِط في الاحتفاء بالاستقلال إلى حد إنهاك حياتنا الجماعية.

كتب الفرنسي أليكس دُو تُوكفيل الذي دَرَسَنَا في ثلاثينات القرن الماضي أن عبادة الفرد الأمريكية تقترب جدا من الأنانية الفظة. أي من نزعة «أنا أوَّلا» التي كثيرا ما نراها اليوم.

يرى دو توكفيل أن»الفردانية في البداية تضعف فضيلة الحياة العامة لكنها في الأجل الطويل تهاجم وتدمر كل الفضائل الأخرى وتتحول إلى أنانية بحتة. وتلك خصيصة حذّر من أنها «تهدِّد بذرة كل فضيلة.»

الديمقراطية الحرة التي تحتفي بالفردانية هي هديتنا الأمريكية العظيمة. لكنها أيضا تفسر لنا لماذا نحن في حاجة ماسة بهذا القدر إلى قادة جيدين كي نتماسك ونتجنب السقوط في هاوية التفتت الاجتماعي.