أفكار وآراء

جدل الصور الذهــــنية!

26 أغسطس 2020
26 أغسطس 2020

محمد جميل أحمد -

انطباعات الصور الذهنية التي غالباً ما تعلق في عقولنا عبر خيالات أو تصورات يسقط الفرد منا عليها هواجسه أو أمنياته أو غيرها من المشاعر حيال شخص ما، أو حدثٍ، أو ذكرى ما، هي عندما لا نتحقق منها، غالباً، ليست سوى مزيج مركب خاضع لضغط مشاعر معينة في زمن معين، وغالباً ما يكون التحقق والتثبت من الحقائق في تلك التصورات عند الإحساس بها أمراً غير مفكر فيه.

لطالما يحاول الفرد أن يسقط رغباته وتصوراته بمجرد الهيئة التي يراها في شخص ما من سمته الخارجي دون تفكير في حقيقة هذا الشخص مثلاً. ولهذا كثيراً ما تصدق المقولة الشهيرة «المظاهر خدَّاعة».

صورنا الذهنية التي نؤسسها تخضع أيضاً لطبيعة اعتقادنا، سواء أكان اعتقاداً دينياً أم غير ديني، كما تخضع للمقولات العامة التي يعممها المجتمع فتصبح بمثابة الحقيقة، أو للتجارب الشخصية في ذاكراتنا كذلك.

إن قوة الصورة الذهنية تكمن في أن انطباعيتها حاكمة كما لو أنها غريزة، ويحتاج المرء إلى الكثير لكي يتخلص من سطوة انطباعيتها.

خطورة الصور الذهنية أنها غالباً ما تؤسس عليها أفعال وتصرفات ومواقف تعكس طبيعة الإيمان بها من ناحية، وطبيعة التشدد أو الترخص في ذلك الإيمان من ناحية ثانية، وكذلك طبيعة الحكم الذي نصدره بموجبها، بغض النظر إذا ما كان ذلك الحكم حكم قيمة أم حكم واقع!

بطبيعة الحال المعاني مجردة، وهي لا تتجسد إلا من خلال ذوات البشر وأفعالهم، ومتى ما تصورنا معاني ما على أنها سيئة سيكون أي تجسيد لها في تصرف أي شخص هو التكييف الذي يسوغ لنا الحكم عليها. لكن إذا كانت المعاني ذاتها قابلة للتأويل على أكثر من وجه بحسب عمق المعرفة أو سطحية الأيديولوجيا هنا سنجد أن حكمنا من تجسيد المعنى في شخص ما سيتلون بحسب انطباعاتنا المتأتية من المعرفة أو من الأيديولوجيا أو من المزيج المضلل الذي ينعكس من خلالهما.

الحكم على المعاني هنا ليس مطلقاً أي ليس الأمر متصلاً بفكرة السفسطة أو الجدل المتعدد في وجوه التأويل إلى ما لانهاية أو إلى حدود هرمسية، وإنما الأمر متصل بفكرة التحقق المعرفي القائم، في جزء منه كذلك، على معنى الضمير إلى جانب المعرفة.

ففي المعاني الدينية المتصلة بالأوامر والنواهي عبر نصوص هي أصلاً نصوص تمت صياغتها بمجاز عالٍ ومحكم، قد يكون للتشدد الناشئ من فكرة تعظيم الدين أصلاً دور كبير في تغيير المعاني وتلوين الحقائق بصور بعيدة عن الحقيقة عند التحقق. ذلك أن المجاز حين ينعكس في القول المتصل بتصرف الأفراد في النصوص الدينية يضمر طبقات كثيرة من المعاني، منها ما هو ظاهر ومنها ما ليس كذلك، بحيث قد يتعذر على المرء الذي يميل إلى التشدد إدراك حكم الواقع من النص لا حكم القيمة منه فقط.

فحين يطلق فرد متشدد حكماً سلبياً على شخص ما حال تلبسه بمعنى كالطرب المتجسد رقصاً في فعل ذلك الشخص، مثلاً، غالباً ما تتداعى إلى عقل المتشدد صور ذهنية مؤاتية لطبيعة تصوراته الأقرب إلى إدراكه من حيث كونه متشدداً. وهنا سنجد اعتبار حمولة القيمة السالبة مثلاً حين يسقطها الشخص المتشدد على من يفعل فعل الرقص تكون أكثر التصاقاً بالطابع الطهوري الذي تمثله تهيؤاته بحيث يلجأ ذلك الفرد المتشدد إلى إسقاط ضروري لمطلق معنى الرقص السالب على مطلق فعل الشخص، وفي هذه اللحظة فإن ما يراه الفرد المتشدد في الراقص لا يعكس دلالةً قابلة للتأويل الحسن في معنى الرقص وأحواله، أي في الطبقات المتصلة بحكم الواقع، وإنما يسقط عليه معنى واحداً كلياً وسالباً للرقص، أي معنى متصلاً بحكم القيمة في تصوره السالب للرقص.

ومن هنا تتسلل معاني أخرى في ذهن الفرد المتشدد متأتية من طبيعة الإسقاط، ولا علاقة لها بمطلق فعل الرقص حال انعكاسه في حركة الشخص المعين.

لكل ذلك، لا يمكننا تحرير الصور الذهنية لذواتنا عن الآخرين، لتكون أكثر قرباً من الحقيقة والبراءة، إلا بالمعرفة وصحوة الضمير، الأمر الذي سيزيح عن عقولنا وضمائرنا كثيراً من التمثيلات المضللة والمؤرقة لذواتنا حين تستكين لذلك المزيج المضلل من الصور الذهنية والانطباعية الضارة أياً كان مصدرها!