الثقافة

لسنا في خندق واحد

26 أغسطس 2020
26 أغسطس 2020

ليلى العلمي

ترجمة: أحمد شافعي

ستة أشهر فقط مضت على فبراير، لكنه ينتمي إلى عصر آخر. أيامها كنت لم أزل أفكر أنه برغم اختلاف المصالح الشخصية، والقيم الأخلاقية، والولاءات للجماعات المختلفة، تبقى الولايات المتحدة مجتمعا ديمقراطيا. أتذكر أنني كنت في زيارة لكلية أمهرست للمشاركة في حوار عام مع الروائية سوزان كوهي حول فن السرد. وبعد الفعالية قمنا بتوقيع الكتب، وتصافحنا مع الحضور، وذهبنا لتناول العشاء مع المضيفين في مطعم مزدحم. وفي اليوم التالي قمت بجولة في الحرم الجامعي وانتهيت إلى متجر الكتب المحلي حيث أخذت أمسك بدرزينة من الروايات المختلفة وأتركها قبل أن أستقر على إحداها. لم تكن عبارات مثل "العدوى الرذاذية" و"التلوث السطحي" قد دخلت بعد قاموسي اليومي.

في ذلك الوقت، لم تكن الولايات المتحدة قد توصلت إلا إلى عشرات قليلة من حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد، وأغلبها كان له علاقة بالتفشي الذي حدث في سفينة "الأميرة الماسية" السياحية التي كانت قد رست في يوكوهاما باليابان. وبرغم أن المرض كان صعب العلاج، فقد كانت الإجراءات الوقائية المقترحة من علماء الأمراض ـ كغسل المرء يديه بالصابون وتغطيته فمه عند السعال ـ إجراءات يسيرة. تصورت أن كوفيد 19 ـ شأن سارس من قبله ـ سوف يستوجب نطاقا من الإجراءات الفيدرالية، من بينها حجر المسافرين القادمين من بلاد متأثرة. فلم يبد لي أن الاحتواء ممكن وحسب، بل بدا أنه المرجح.

في رحلة الرجوع إلى لوس أنجلوس، أضاءت شاشة هاتفي بإشعارات خبرية تفيد بأن حاكم واشنطن قد أعلن حالة الطوارئ بعد وفاة رجل في سياتل بفيروس كورونا، اعتُقد أنه الضحية الأولى لكوفيد 19 في الولايات المتحدة. وحتى في ذلك الحين، لم أتنبه. وسواء أكان السبب ثقة في غير محلها في مراكز السيطرة على الأمراض أم إيمانا بالعقد الاجتماعي، فقد عجزت عن تخيل أن تكون حالة وفاة واحدة نذيرا بوباء.

كان مستحيلا أن يدوم الإنكار طويلا. أصدرت مراكز السيطرة على المرض اختبارات معيبة جعلت من المستحيل على الولايات أن تشخص المرضى وتعزلهم، ثم استغرق تصحيح هذه المشكلة أسابيع. بعثت إدارة الصحة والخدمات الإنسانية العاملين دون معدات وقائية أو تدريب على التعامل مع العدوى لإخلاء ووهان بالصين من الأمريكيين المصابين. وسمحت إدارة الأمن الوطني للمسافرين بالسفر إلى وداخل البلد دون قيود وقائية أو بقليل منها. وزعم الرئيس أن الفيروس "خدعة"، وأنه "تحت السيطرة"، وأنه سوف يختفي في نهاية المطاف "مثل معجزة". وواحدة إثر واحدة، تجاهلت المؤسسات الأمريكية مسؤولياتها عن السيطرة على الفيروس أو نبذتها.

وضاعف التفكك أو انعدام الكفاءة من حالة التقصير في أداء الواجب. وأصدر الخبراء في "قوة عمل البيت الأبيض لفيروس كورنا" إرشادات التباعد الاجتماعي، ليقول الرئيس إن بالإمكان التخفيف منها بحلول عيد الفصح. أثنى مسؤولو الصحة العامة الأمريكيين عن ارتداء الكمامات، ثم ناقضوا أنفسهم في الثالث من ابريل عندما بلغ عدد الوفيات على المستوى الوطني 5374 حالة. والعلماء بطبيعة الحال يغيرون من توصياتهم بناء على البيانات التجريبية، ولكن تناقض الرسائل الموجهة من المسؤولين المنتخبين دمرت جهود الاحتواء بلا أمل في إصلاحها.

ولما تُركت الولايات والمقاطعات والمدن لإدارة الأزمة منفردة، فقد اتخذت قرارات سافرة الاختلاف حول مدى أمن العمل في المكتب أو الذهاب إلى المدرسة أو التردد على المطاعم أو التنقل بوسائل المواصلات العامة أو حضور الفعاليات الدينية أو التصويت في الانتخابات. كان يمكن في ربيع 2020 الغريب أن يسوق المرء سيارته لما لا يزيد عن خمسين ميلا في أي اتجاه داخل الولايات المتحدة ليصادف ألوانا متباينة من الواقع: ففي واقع يتاح للناس أن يتجمعوا في حشود ضخمة، وفي واقع يقتصر التجمع على خمسين شخصا، وفي واقع يمنع التجمع بالمرة. تصرفت كل ولاية ومقاطعة ومدينة وكأن نجاتها مستقلة تماما عن نجاة الآخرين.

لقد أبدى جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي" بعض التشكك في قدرة الأمم الكبيرة على الحكم الرشيد. فذهب إلى أن ذلك يقتضي تراتبية في الإدارات، فترفع كل إدارة تقاريرها إلى الإدارة التي تعلوها، مثقلة الشعب بضرائب إضافية وغير تاركة له "تقريبا أي عائدات عامة متاحة لحالات الطوارئ". وزاد على ذلك أن القوانين والجمارك سوف تختلف من مقاطعة إلى مقاطعة مما "يثير سوء الفهم والارتباك" ويضعف في النهاية الرابط الاجتماعي بين أبناء الشعب.

روسو نفسه ولد في دولة صغيرة ـ هي جمهورية جينيف ـ ولكن هذه المعلومة وحدها لا تفسر عدم ثقته [في البلاد الضخمة]. فقد أقر بأن للبلاد الضخمة بعض المنافع ـ كالمزيد من القدرة على الوقوف في وجه الهجمات الخارجية مثلا ـ لكنه بصفة عامة كان يشعر أن الحكم الرشيد يصبح "أصعب على المسافات الشائعة" وأن الانقسام بين الإدارات المركزية والإقليمية المختلفة يميل إلى أن "يمتص كل الانتباه السياسي" فلا يبقى وقت "لدرس سعادة الناس".

تبدو هذه الآراء موائمة بصفة خاصة للحظة الحالية. فلقد واجهت الولايات المتحدة حالات طوارئ كثيرة، بين فيضانات وأعاصير وحرائق ضخمة، وبرغم أنها لم تحسن التعامل معها في جميع الحالات، فقد نجت منها جميعا. ولكن الوباء مختلف. فلم تصادف الأمة على مدار قرن من الزمن أزمة صحية تهدد حياة هذا العدد الغفير من المواطنين وتضع الروابط التي تجعل منهم شعبا واحدا موضع الاختبار.

*

الأمر الذي كان واضحا بدرجة نسبية منذ البداية هو أن فترة حضانة فيروس كورونا هي ما بين يومين وأربعة عشر يوما. بعد أن طبقت لوس آنجلوس الحجر، كنت أنظر في تقويمي كل صباح، وأعد 14 يوما، وأستنتج أن أسرتي آمنة من ذلك العشاء في المطعم أو تلك الليلة في السينما. كل عطسة موضع شك، وكل سعال سبب ذعر. وكل ما أراد الناس أن يتكلموا عنه هو متى يأمنون "الرجوع إلى الوضع الطبيعي".

وكان "الوضع الطبيعي" يعني أمة ذات نظام رعاية صحية شديد التعقيد، يوفر مستويات مختلفة من الرعاية الخاصة أو العامة بحسب الوظيفة والعمر والدخل. كان "الوضع الطبيعي" يعني وجود 2.3 مليون شخص في السجون بلا فرصة تذكر في التباعد الجسدي أو السلامة الصحية الملائمة. كان "الوضع الطبيعي" يعني أن مستعمرات السكان الأصليين الضخمة لم تزل تعاني ضعف شبكة المياه الجارية وقلة الأسرَّة في المستشفيات. كان "الوضع الطبيعي" يعني أوضاع عمل أرغمت عددا متزايدا من الأمريكيين على العمل في وظيفتين أو ثلاث لمجرد تلبية الاحتياجات الأساسية. والوباء هو الذي كشف هذه الأوضاع المختلة وفاقمها، وأرغم الأمة كوحدة واحدة على الانتباه إليها.

نحن الآن نعلم أن الفيروس انتشر بسرعة في الأحياء الفقيرة حيث يزداد احتمال إقامة السكان في بيوت تضم عديدا من الأجيال، وعملهم في وظائف لا غنى عنها في أثناء تطبيق أوامر البقاء في البيوت، وعدم حصولهم على القدر الكافي من الرعاية الصحية والإجازات المرضية مدفوعة الأجر. أصبحت السجون أرضا خصبة لعناقيد هائلة الأحجام من المصابين، وكذلك مؤسسات رعاية كبار السن. كما تأثرت مستعمرات السكان الأصليين بصفة خاصة. فقد وقعت وفيات بسبب كوفيد 19 في "أمة نفاجو" ـ على سبيل المثال ـ أكثر مما وقعت في خمس عشرة ولاية أخرى، وتظهر البيانات المجموعة على المستوى الوطني نمطا عرقيا واضحا في الإصابات والوفيات، حيث ارتفعت معدلات الإصابة بالمرض بين الأمريكيين من أصول أسبانية ولاتينية أكثر منها بين البيض، وارتفعت الوفيات بين الأمريكيين الأفارقة عنها بين البيض.

لعل التعامل مع هذه التفاوتات كان ليزيد الأمة قوة ويجعلها أقدر على التعامل مع الوباء، لكن حتى في ظل التوثيق الواضح لعدم تناسب تأثير الفيروس على الضعفاء من السكان، لم يبد أن ثمة إرادة سياسية للتعامل مع المشكلة. كثيرا ما منع على السجناء الإفراج المبكر. وقيل لقبائل السكان الأصليين إنه لا يمكن تقليل المرور إلى مستعمراتهم. والعمال الذين لا غنى عن وظائفهم عملوا لنوبات مضاعفة مرتين وثلاثا بلا معدات وقائية. فليس مدهشا بالمرة أن ارتفعت أعداد الحالات المؤكدة والوفيات ارتفاعات صاروخية فوصلت إلى ثلاثة وستين ألفا بحلول الأول من مايو. وبات المصابون يعالجون معزولين، وإن فشل علاجهم يموتون معزولين، وتقام لهم جنازات صغيرة محدودة. وفي حين احتجب فقدان الأرواح عن الأنظار، كان فقدان أنماط الحياة جاريا أمام أعين الجميع. فقد نتج عن إغلاق جميع أنواع الأعمال خلال فترة تطبيق أوامر البقاء في البيوت فقدان مفاجئ لنحو 40000000 وظيفة. في فلوريدا وميشيجن وبنسلفانيا، سجل الكثيرون أنفسهم عاطلين عن العمل لدرجة أن انهار نظام الكمبيوتر. وامتدت بطول أميال الصفوف أمام بنوك الطعام في مدن ثرية مثل لوس أنجلوس ونيويورك. وقرابة ثلث البيوت في الولايات المتحدة عجزت عن دفع إيجار البيت أو قسط الرهن العقاري. وتسيطر الأزمة الاقتصادية على تغطيات الصفحات الأولى مزيحة الخسائر البشرية إلى أقسام أخرى.

كثيرا ما كنت أسمع الأمريكيين يقولون إنهم راغبون في أن يدار بلدهم إدارة مشروع اقتصادي. وفي واقع الأمر كان ذلك من أشيع الحجج الداعمة لدونالد ترامب. ونتيجة ذلك المنطق واضحة لنا بالفعل. فمن لديهم المال قادرون على البقاء في البيوت آمنين، مشاهدين برامج التليفزيون ومطورين مهاراتهم في الخبز، أما أصحاب الدخول المحدودة فعليهم أن يعملوا مخاطرين بالإصابة بالعدوى أو البقاء في البيوت منتظرين الطرد. وانتظار أن يقوم النواب المنتخبون باتخاذ قرارات بناء على المنفعة العامة ـ مثلما تخيل روسو ـ يبدو مثيرا للضحك. فبدلا من ذلك يبدو أن المصالح الشخصية هي القوة الدافعة الرئيسية وراء خطط إعادة الفتح، وهذه إشارة إلى أن الرابط الاجتماعي قد هزل.

والمزعج بالقدر نفسه أن بعض الأمريكيين يعاملون نصائح الصحة العامة ـ بالحرص على التباعد الجسدي، وارتداء الأقنعة، واجتناب التجمعات مع غير الأهل المقيمين في بيت واحد ـ وكأنها أعباء على الحريات الشخصية. فقد حدث ذات صباح في أواخر مايو بينما أنتظر لعبور تقاطع في سانتا مونيكا أن رأيت شيخا يوبخ شابة لعدم ارتدائها الكمامة. ألقت عليه الشابة نظرة ساخطة وقالت "إذا كنت خائفا إلى هذا الحد من الإصابة بكوفيد 19 فالزم بيتك". لم تكن فظاظة ردها وحسب هي التي صعقتني بل إظهارها أنها لا تبالي بصحة الأكثر تعرضا منها للخطر، وبإمكانية رجوع أبنائنا إلى المدارس عما قريب. قلت يا إلهي، نحن في هذا الأمر لسنا في خندق واحد. العقد الاجتماعي ينفصم.

*

كيف يكون شكل الحزن حينما يصل عدد الموتى إلى 100000؟ سارع القادة المنتخبون بالاتجاه إلى الاستعارات الحربية. قيل إن الأطباء والممرضات "أبطال" و"مقاتلون" وإنهم "في الصفوف الأمامية" يقاتلون "عدوا خفيا". وذكرت التقارير أن كوفيد 19 حصد من أرواح الأمريكيين أكثر مما حصدت حربا كوريا وفييتنام مجتمعتين. لكن حتى تلك المعلومة المقبضة لم تستطع أن تهز المزاج الوطني، الذي كان مشغولا بالنسيان. في إجازة "يوم الذكرى" راجت عبر وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلات مصورة لحشود من الناس يحتفلون في الحانات والمطاعم عند بحيرة أوزاركس أو يركبون الأمواج وينعمون بحمامات الشمس على شواطئ فلوريدا.

في الوقت نفسه، قضى ترامب أياما يقاتل الصحافة وشركات التواصل الاجتماعي التي اعتبرها منحازة ضده. وأقر الكونجرس ترليونات الدولارات لصناديق التحفيز التي ضخ أغلبها للشركات، وهي التي تلقت قبل ثلاث سنوات فقط أكبر تخفيض ضريبي في التاريخ. وفي مواجهة عجوزات الموازنة، حذر حكام الولايات والعمد من تخفيضات كارثية من شأنها التأثير على المدارس والمستشفيات والمكتبات والحدائق وغيرها من الخدمات المجتمعية. حتى أن إريك جارسيتي عمدة لوس أنجلوس وصف ميزانية المدينة القادمة بأنها "وثيقة آلامنا".

لكن من الذي يتعرض للآلام؟ برغم استعمال العمدة لصيغة الجمع، لم يقع الألم على الجميع. فشرطة لوس أنجلوس ـ المعروفة على المستوى الوطني بكيفية تعاملها مع تمرد واطس وضرب رودني كينج وانتفاضة لوس أنجلوس 1992 ـ تتلقى أكثر من ثلاثة بلايين دولار سنويا، فيتقزم بالقياس إليها ما تنفقه الولاية على الصحة والتعليم والحدائق والمكتبات والخدمات المجتمعية وينطبق مثل ذلك التفاوت بحذافيره على كثير من إدارات الشرطة في طول الولايات المتحدة وعرضها.

اللحظة التي جعلت الأمة تنتبه إلى الألم هي لحظة اغتيال جورج فلويد في مينيبوليس. فلويد، الرجل الأسود البالغ من العمر 46 عاما، اشترى سجائر من متجر صغير في مساء الخامس والعشرين من مايو، ودفع ثمنها عشرين دولارا شكَّ البائع أنها مزيفة. وبعد أن وصلت الشرطة، قيدوا فلويد واقتادوه إلى الرصيف، حيث وضع الضابط ديرك تشوفين ركبته على عنقه. ومن يسمع صوت فلويد يتبين فيه مدى الألم الذي شعر به. قال للشرطة ست عشرة مرة إنه لا يستطيع أن يتنفس، ونادى على أمه طالبا المساعدة، وتوسل إليهم ألا يقتلوه. غير أنه على مدار ثماني دقائق وست وأربعين ثانية ظل تشوفين يضع ركبته حيث كانت، واضعا يده ببساطة في جيبه الأيسر وهو يتكلم مع بقية الضباط. وشاهد ملايين الناس في أثناء الحظر ذلك القتل من خلال فيديو مصور بهاتف محمول.

ما لم تشاهده عين هو أن فلويد كانت قد ثبتت إصابته بكوفيد 19. ففي يونيو، كشفت مسحة تالية للتشريح أن الفيروس كان حاضرا في الجثة في وقت القتل. وإذن فقد خذلته الحكومة مرتين: مرة حين لم تستطع أن تحول دون إصابته بالعدوى ومرة حين أرسلت إليه مسلحا عذبه حتى الموت. قد يكون كوفيد 19 جديدا، وغير مسبوق، لكن قتل جورج فلويد مسبوق بلا أدنى شك. فقد كان جزءا من نمط عنف الدولة ضد السود والملونين، وهو نمط ما لوباء، حتى الوباء، أن يؤخره أو يعوقه. في اليوم التالي للقتل، اندلعت المظاهرات في مينيسوتا، ثم انتشرت إلى الولايات الخمسين كلها. وهذا مؤشر على أن ألم العنصرية بات أخيرا، وبعد طول انتظار، أمرا يفوق الاحتمال.

الألم إشارة، كذلك قالت لي طبيبتي ذات مرة وهي توبخني على احتمالي بعض الأعراض لقوت طويل للغاية قبل التحقق من الإصابة. لا ينبغي تجاهل الألم. في ثنايا استعراضي صفحة التواصل الاجتماعي الخاصة بي في يونيو، كان كل ما أراه هو الألم. في بفالو، ضربت الشرطة متظاهرا مسنًّا على رأسه فأصابته بشرخ في جمجمته. في إنديانوبوليس، شدوا امرأة وضربوها حينما قاومتهم. في لوس آنجلس، أطلقوا الرصاص المطاطي في وجه رجل مشرد على كرسي متحرك. في كولمبوس، ضربوا بالهراوات متظاهرا معاقا وخلعوا ساقيه الصناعيتين. في لويسفيل، قتلوا بالرصاص شخصا عابرا. كانت القسوة حاضرة في موجات لا نهاية لها.

ولم يتعامل أحد مع الألم، فتفاقم. وفيما أكتب هذا، تم استدعاء القوات الفدرالية إلى بورتلاند بشيكاغو ومدن أخرى كبيرة. تجاوزت أعداد الوفيات من الأمريكيين مئة وخمسين ألفا. كاليفورنيا التي تسرعت بإعادة فتح كثير من الأنشطة رجعت مرة أخرى إلى الحظر. كل من أعرفهم يتقبلون ببطء حقيقة أن أغلب المدارس والكليات والجامعات لن تعيد فتح أبوابها في هذا الخريف.

*

ما مظاهر الحكم الرشيد؟ في عام 1762، ذهب روسو إلى أنه في حين تكثر المعايير الذاتية لتقييم ما إذا كان شعب من الشعوب محكوما حكما رشيدا أم سيئا، فثمة معيار واحد موضوعي حقا: ذلك هو "حماية رفاهية" الشعب. كتب أنه متى تساوت بقية الأشياء الأخرى، فإن الحكومة التي "يتنامى الشعب ويتكاثر" في ظلها هي أفضل الحكومات، والتي "يتضاءل الشعب ويتبدد" في ظلها هي الأسوأ.

في ظل هذا المعيار، لا شك في أن الولايات المتحدة تسقط. بعد ستة أشهر من الوباء، يواصل الرئيس معاملة الفيروس باعتباره مسؤولية شخصية، ويغير حكام الولايات خططهم كل أسبوع، وتحولت شؤون الصحة العامة ـ من قبيل ارتداء الأقنعة ـ إلى شجارات حزبية. وبدلا من أن تكون الولايات المتحدة أمة، فإنها تتحول إلى كيان من ثلاثمئة مليون فرد يتقاسمون أرضا واحدة وينقسمون على مصالح شخصية عدة.

في الخريف القادم، ينتظر منا نحن الناس العاديين أن نعلم أبناءنا، وأن ندفع ـ سواء أكانت لنا وظائف أم لم تكن ـ تكاليف السكن والطعام والرعاية الصحية. ومن يستطيعون تدبر تكاليف ذلك كله بوسعهم أن يعيشوا آمنين، ومن لا يستطيعون فسوف يكون لزاما عليهم أن يتحملوا خطر العدوى والموت. وما لم تحترم الحكومة والمواطنون التزاماتهم بالعقد الاجتماعي، فإن الملاط الذي يربط حجارة الأمة ببعضها بعضا سوف يذوب، وإلى الأبد.

*ليلى علمي روائية أمريكية من أصل مغربي

**نشرت المقالة في لوس أنجلوس رفيو أوف بوكس في 10 أغسطس