أعمدة

لحظة كورونا كاذبة

25 أغسطس 2020
25 أغسطس 2020

عادل محمود -

من مفردات الطفولة في القرية «ذاكرة التين» الحسية الخالدة. كنا ننتظر شهر أغسطس لكي ينضج التين، تلك الثمرة الخضراء التي تشبه فماً صغيراً ينز منه نقطة عسل دالة على كنز الثمرة المملوءة بحلاوة الأيام السعيدة.

اليوم... أقصد أمس الأول، تناولت عددا من حبّات هذه الأعجوبة من شجرة أولاد العم، وشربت من النبع القديم تلك الجرعات باليد. ومشيت على الطريق القديم إلى الكرم المليء بالتين من كل الألوان، وتأملت العصافير، وهي تنقر حصتها. وجلست تحت شجرة الدلب التي يثير غبارها الرغبة بالعطاس، وفي ظلالها تبدو الطفولة والكهولة معا كشخصين جلسا يتذكران مرور الزمن، وعبور الرغبات.

عدت إلى البيت مليئا بنفس التكوينات التي كانت مصدر غبطة الإنسان وهو يقطف الحياة من شجرة، ويعيد الانتباه إلى أفراح لم تعد موجودة، في زمن الحرب، وزمن الوباء. والانتباه أيضا، إلى بطولة البقاء حسيا في زمن الشجرة.

فجأة اضطربت أمعائي، ومغص فتّاك يتحرك في أحشائي. ولم أعرف ما الذي عليّ أن أفعل... فتقيأت، في أسوأ تشنجات جعلتني أوشك على الاختناق. كان شيئا يشبه السم الأصفر يخرج مندفعا من فمي. وكنت وحدي. فانتابني، إحساس فظيع بأنها النهاية، وحين حدقت في المرآة وجدت وجها لم يكن لي وعينين حمراوين، وتعرّقت حتى تبللت. ثم تمددت على الأريكة لأموت في وضعية الموت هادئا.

عدد قليل من الأشخاص فكرت بهم. عدد قليل من القرارات أردت أن أكتبها، فيما يشبه الوصايا لأسرتي، وتأكدت أنني لم أعد أملك الوقت الكافي لأفعل أو أكتب أي شيء. ولم يخطر لي أن أكتب إحدى مفردات الوداع.

أمسكت القلم، الذي كنت أكتب به روايتي الجديدة، وحاولت استدراج أول ما ينبغي قوله. ولكنني لم أستطع أن أكتب حرفاً واحداً.

أغمضت عيني، فدارت الدنيا كلها حول غيبوبتي. انطفأت ومضيت.

حين أفقت. حاولت الجلوس. استعنت بروحي العنيدة، التي كنت واثقاً بنجدتها، فنهضت إلى المرآة. أحزنني طلب النجدة المستتر في وجهي، وكمية الخذلان في العينين. وتأملت الشحوب بوصفه علامةً على وقوف الموت في نسيج الحياة بين خصل الشعر الأبيض. يريدني أن أتوسل البقاء قليلاً، لأبني شكل نهايتي... لكي يؤجل سوقي إلى خدمة الآخرة.

ابتسمت. بدا لي أنها الطريقة المجانية الوحيدة ليكون فيها الأعزل شجاعاً. ثم حاولت ابتسامة ثانية... فوجدتني حياً بوجه تعود إليه ذاكرته الحمراء وانتباهه الأبيض. وغريزة بقائه.

بعد أن عدت إلى الحياة... فكرت بالكورونا، التي أستخفُ بها طوال الوقت، واصفا إياها بأنها أردأ قنبلة جرثومية اخترعها قادة عصر الاستياء من ازدياد عدد سكان الكرة الأرضية... فذهبت إلى «غوغل» لأذاكر الأعراض، فلم أجد من بين الأعراض «التقيؤ» بسبب عسل التين العظيم الرحيم البريء الشهي... فهدأت أكثر. وأمسكت دفتر الرواية، وقرأت آخر أسطري التي كتبتها، والتي فيها: «لا تخف من الموت بل من الحياة الناقصة»... وكتبت... يجب ألا يكسر الموت قلمي، بفظاظة استيائه من العدد الهائل لسكان الكرة الأرضية، ويجب أن يتركني حتى أنجز السطر الأخير من الرواية. فلربما وجدت فيها ما يفسّر لماذا الحياة لها كل هؤلاء الأعداء.