ahmed
ahmed
أعمدة

نوافذ .. اغتيال للبراءة

25 أغسطس 2020
25 أغسطس 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

كنت أستمع لإحدى الإذاعات الناطقة باللغة العربية، وكان الحديث عن دولة تشهد حراكًا جماهيريًا لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية فيها، ومن خلال البرنامج أذيع صوت لطفلة تنادي بضرورة تحقيق مطالب شعبية ملحة، وكان تعليق قارئ الخبر أو التقرير: «عندما يصل مستوى العلاقة بين السياسي والطفولة بهذا المستوى من الإلحاح، والوضوح، والقنوط، فإن المسألة كبيرة جدا، لم يعد يحتملها حتى الأطفال» -بتصرف- هذه صورة من الصور التي توضع فيها الطفولة أمام فوهات المدافع، وأجندات السياسيين، ومشاريع الـ«كبار» حيث تمتحن فيها الطفولة في براءتها، وفي حياديتها، وفي شفافيتها، وفي حقيقتها، فهذه المباهج النفسية كلها لا تملكها إلا الطفولة، وما عدا ذلك فيمكن أن يقبل التأويل، والتهويل، والنزق، والشطط، والتلاسن، وفي المقابل كل هؤلاء أصحاب الأجندات لا يكترثون لهذه التفاصيل المهمة لحياة الطفولة، ولا تشرع النظرة، عندهم، أفقها البعيد، إلا لخيارات المكاسب، والمغانم، ولا غير ذلك.

لكم قست الظروف كثيرا على هذه الفئة من البشر في كل بقاع العالم، فلا تزال الطفولة تتلقى المأزق الناشئ بين طفولتها وصفاقة الكبار المتحجرة أفئدتهم، هؤلاء الكبار الذي يجرون الطفولة إلى كثير من المواقف في خنادقهم المظلمة، التي ترتكب فيها الحماقات، والشقاوات، والمآسي، بينما الطفولة لا تحتمل كل هذا، فهي خلقت للطفولة في مراحلها البكر، ولا تزال كذلك إلى مبلغ العمر عتيا، ولذلك نشاهد كل يوم هذا الاجترار التعاطفي الـ «مصنوع» بغية تعظيم المكاسب السياسية لا أكثر، فالناس يتعاطفون بشدة مع الأطفال، ويرون فيهم أنفسهم، ولذلك ترتبك المشاعر، وترتعد الفرائص، وتذوب النفوس أسى مع أي منظر يكون للطفل فيه موضع قدم، فالطفولة ورود يفوح شذاها لتعطر الأجواء، ولا يقبل للطفولة أكثر من ذلك، وبالتالي متى ما وضعت في موقف غير ما تستحسنه الفطرة، فتلك ضربة قاسية للضمير الإنساني، وتلك مأساة بحجم الكون، وتلك مثلبة كبرى فيما يسمى بـ«حقوق الطفل» وحقوق الإنسان، المهدرة أصلا.

لا مساس بالطفولة في ميادينها، ولا اقتراب من الطفولة في ملاعبها ولهوها، وجدها وهزلها، فهي لا تقبل المساومة مهما كانت الأسباب، والدواعي، ولا يمكن أن تتخذ معبرا لتجيير المسافات، والصفقات، وتوظيف الأحقاد والضغائن عبر براءاتها الشفافة التي تستظل بالود، وتستحم بالعفوية، وتتموضع على امتداد فطرتها الأولى.

كم تكون الصور مؤذية إلى حد القرف عندما نرى في الأعمال الدرامية مواقف تهان فيها الطفولة، وتهتك عرض براءتها، وتسيل دماؤها، وتدمع أعينها، وإن كانت المشاهد، حينها، هي تمثيل، ومخاتلة للواقع الحقيقي، إلا أنها تذهب سريعا فتخاطب فينا تلك الحمولة الوجدانية التي تنزل الطفولة منزلتها المباركة بلا نقاش، وعلى امتداد الأزمان، لا خيار في ذلك بين مشهد حقيقي صلف، وبين مشهد تمثيلي مجفف من منابعه الحقيقية، يراد به استعطاف المشاعر من قبل المشاهد، فالطفولة هي الطفولة، والبراءة هي البراءة، لا تقبل المساومة بأي حال من الأحوال.

لذلك تتدفق المآقي غزيرة، وتحفر على صفحات الوجوه أخاديد عندما تنقل لنا شاشات التلفزة أطفال المخيمات، ومناطق الحروب، على امتداد العالم وهي تمتحن في طفولتها، حيث جنون الكبار، وحيث غطرسة الحمقى والجهال، وحيث صفقات السلاح، وشراء الذمم، وبيع الضمائر، حيث السياسات المتسلطة والمارقة التي تصوغ مشروعاتها التدميرية في الغرف المغلقة، وحيث يدفع ثمن ذلك كله أطفال في عمر الزهور، لا حول لهم ولا قوة، وتبقى مشكلتهم فقط أنهم ولدوا في أزمان المآسي، وأصبحوا جزءا من الخرائط السياسية والاقتصادية، وغيرها الكثير، فعلى أي ثمن، من الطفولة والبراءة، تراهنون أيها الساسة؟ (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ).