أفكار وآراء

بناء مؤسسي و«ثقة مطلقة» لتحقيق طموحات «عمان 2040»

24 أغسطس 2020
24 أغسطس 2020

د. عبدالحميد الموافي -

إذا كان العمل والأداء الوطني في الدولة -أي دولة- يرتكز في العادة على رؤية قيادية تتحدد في إطارها الأولويات، وخطوط ومجالات العمل والأهداف والطموحات الوطنية المراد تحقيقها، ويتحقق هذا الأداء، عمليا عبر سلسلة من الخطوات والإجراءات التنفيذية والعملية، لتسخير الإمكانات الوطنية المتاحة، بشرية ومادية وجغرافية، مباشرة وغير مباشرة، ودفعها إلى طريق التحقق العملي من خلال خطط وبرامج تنموية مدروسة ومحددة النطاقات والأهداف والمدى الزمني أيضا.

فإنه يمكن القول بأن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - قد وفّر في الواقع هذين العنصرين بالغَي الأهمية، الرؤية والإجراءات، للانطلاق إلى المرحلة الثانية من النهضة العمانية الحديثة، بفكر واضح ومنظم، وبقوة وثقة تعتمد على الكوادر العمانية الشابة، المؤهلة والمتخصصة والقادرة أيضا على العطاء غير المحدود من أجل الوطن والمواطن خلال الفترة القادمة.

وبالرغم من أن الفترة التي تمتد منذ تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم مقاليد السلطة في 11 يناير الماضي، حتى الآن، تظل فترة محدودة، إلا أن جلالته قد حدد معالم الطريق، وحدد مرتكزات وسبل العمل، وذلك من خلال الخطاب الذي ألقاه جلالته في الثاني والعشرين من فبراير الماضي من ناحية، ومجموعة المراسيم السلطانية، التي صدرت خلال الأشهر الأخيرة، والتي توجتها المراسيم الثمانية والعشرين التي صدرت في الثامن عشر من أغسطس الجاري، وذلك حتى الآن على الأقل.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: إنه مع الوضع في الاعتبار أن المرحلة الثانية من النهضة العمانية الحديثة بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - ترتكز على ما تحقق من منجزات في مختلف المجالات خلال تولي جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- مقاليد الحكم خلال الخمسين عاما الماضية، وأنها تبني عليها وتسعى إلى مزيد من التطوير والتحديث، فإنه من المهم والضروري إدراك حقيقة أن فترة حكم السلطان الراحل -طيب الله ثراه- تظل مرحلة خاصة بذاتها، بحكم ظروفها وتحدياتها وقيادتها وتضحياتها أيضا، وأن المرحلة الثانية للنهضة العمانية الحديثة، وإن كانت تمثل حلقة من حلقات التطور العماني، ترتبط بالضرورة بما سبقها وتبني عليه، إلا أنها تظل أيضا وفي النهاية حلقة مميزة وذات طبيعة خاصة بها بحكم ظروفها ومتطلباتها ومعطيات المرحلة الاجتماعية والسياسية التي تنطلق منها، وهو ما يبلوره ويحدده جلالة السلطان هيثم بن طارق، ويتضح عبر الرؤية والإجراءات التي يحددها ويتخذها جلالته، وبينما تواصل الدولة العمانية سياساتها ومواقفها، في مختلف المجالات، وحيال مختلف التطورات، خليجية وإقليميه ودولية، فإنه من أهم سمات السياسة العمانية أنها لا تعرف الانكسار، ولا القفز المفاجئ، ولا المساومات أو الاستجابة للضغوط، سلبية كانت أو إيجابية، لأنها تعمل وتنطلق من مبادئ واضحة ومحددة ومعلنة وثابتة أيضا، ولا يعني ذلك أن السياسة العمانية سياسة أستاتيكية أو خشبية، ولكنها سياسة تتسم بالوضوح والمرونة والقدرة على التكيف مع مختلف التطورات، في إطار ثوابتها المعروفة، وهو ما ظهر في العديد من المواقف خلال العقود والسنوات الماضية وحتى الآن.

وفي هذا الإطار فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - أعزه الله - أشار في خطابه في الثاني والعشرين من فبراير الماضي إلى جوانب محددة تشكل دليلًا وإطارًا للعمل الوطني في هذه المرحلة ولعل من أبرزها ما يلي: عرف العالم عمان عبر تاريخها العريق والمشرف، «كيانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال، على إعلاء رايتها وتحرص على أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغايات سامية»، تبني ولا تهدم وتقرب ولا تباعد «وهذا ما سنحرص على استمراره معكم وبكم لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية» «إننا ماضون بعون الله على طريق البناء والتنمية، نواصل مسيرة النهضة المباركة، كما أراد لها السلطان الراحل -رحمه الله، مستشعرين حجم الأمانة وعظمتها، مؤكدين على أن تظل عمان الغاية الأسمى في كل ما نقدم عليه، وكل ما نسعى لتحقيقه، داعين كافة أبناء الوطن دون استثناء إلى صون مكتسبات النهضة المباركة والمشاركة الفاعلة في إكمال المسيرة الظافرة». «إن الشباب هم ثروة الأمم وموردها الذي لا ينضب وسواعدها التي تبني، هم حاضر الأمة ومستقبلها، وسوف نحرص على الاستماع إليهم وتلمس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم ولا شك أنها ستجد العناية التي تستحقها». «إن الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي سوف يكون في سلّم أولوياتنا الوطنية، وسنمده بكافة أسباب التمكين باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المقبلة».

أشار جلالته إلى الرؤية المستقبلية «عمان 2040» وتوجهاتها وطموحاتها العظيمة لمستقبل أكثر ازدهارا، وإلى أهمية تحقيق التوازن المالي وتعزيز التنويع الاقتصادي واستدامة الاقتصاد الوطني وأهمية قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خاصة المشروعات القائمة على الابتكار والذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة وتدريب الشباب، وكذلك وضع إطار وطني شامل للتشغيل باعتباره ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد الوطني وتبني نظم وسياسات عمل جديدة.

أكد جلالته العزم على توفير الأسباب الداعمة لتحقيق أهدافنا المستقبلية، وذلك «باتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة وتطوير أداء الشركات الحكومية وتطوير آليات صنع القرار الحكومي».

ثانيا: إنه من الواضح أن فترة الأشهر الستة الماضية، بين الخطاب السامي وبين المراسيم الثمانية والعشرين، كانت فترة عمل مكثفة ومتواصلة، على كل المستويات، وهو ما جسدته المراسيم السامية، التي تم من خلالها إعادة تشكيل مجلس الوزراء، بما في ذلك دمج وزارات وإنشاء وزارات جديدة، وإلغاء مجالس متخصصة وهيئات عامة وإنشاء أخرى، وعلى نحو يخفف من الترهل الإداري، ويعزز القدرة على العمل والأداء. وبرغم زيادة المسؤوليات بوجه عام بالنسبة لمختلف الوزارات والهيئات، إلا أن الاستعانة بالشباب والمسؤولين من ذوي الخبرة والكفاءة من الكوادر الوطنية ذات التأهيل الرفيع، يبعث على التفاؤل والثقة في القدرة على تحقيق الأهداف الوطنية والطموحات التي يتطلع إليها جلالته والمواطن العماني على امتداد هذه الأرض الطيبة.

جدير بالذكر أنه في الوقت الذي جاءت فيه المراسيم السلطانية الثمانية والعشرين، وما سبقها من مراسيم سلطانية أيضا لتدفع إلى السير نحو تحقيق ما حدده جلالته من ملامح في المجالات المختلفة، وفق رؤيته السامية، فإن من أهم السمات التي تميز خطوات إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، أنها تتسم ليس فقط بالدقة والوضوح، ولكن بالشمول والتكامل أيضا، وهو ما يعبّر عن وضوح الرؤية التي تحكم هذه العملية، والجهد الكبير الذي بذل خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما سمح في الواقع بدرجة عالية من الانسجام والسلاسة في توزيع الاختصاصات والمهام بين الوزارات والهيئات المختلفة، برغم عمليات الانتقال التي حدثت لقطاعات ووزارات عدة، ومما يدل على ذلك أن الاختصاصات كانت جاهزة ومحددة عند صدور المراسيم بالنسبة لمعظم الوزارات والهيئات العامة، وهو أمر له إيجابياته العديدة.

من جانب آخر فإنه في حين تكفلت المراسيم والخطوات التي تم اتخاذها بالدفع بعدد من الشباب إلى أعلى مستويات العمل التنفيذي في الدولة، وفي مجالات عدة، وهو ما يعبر عن الثقة السامية في قيمة وفعالية وكفاءة الكوادر البشرية العمانية، وقيمة السياسات التي تم اتباعها في العقود الماضية، في مجال التعليم والتأهيل والتدريب، فإن من أبرز السمات المميزة لهذه الإجراءات والخطوات أيضًا أنها تعزز وتعمق البناء المؤسسي للدولة، وذلك من خلال تحديد المهام والاختصاصات للوزارات ولأصحاب المعالي الوزراء كذلك، ومن ثم إنهاء ما فرضته المرحلة الأولى للبناء والتنمية الوطنية بالنسبة للمهام والاختصاصات التي اضطلع بها جلالة السلطان الراحل بحكم ظروف تلك الفترة وتحدياتها. وعلى ذلك فإن الوزارات والوزراء، في المرحلة الجديدة للتنمية الوطنية بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، يمارسون مهامهم واختصاصاتهم كاملة ومسؤولياتهم الفردية والتضامنية أمام جلالة السلطان وفق القانون، وحسبما يتضمنه النظام الأساسي للدولة من أسس في هذا المجال.

وبينما تتهيأ وتتوفر كل المعطيات الضرورية للانطلاق بخطى واثقة ومتتابعة نحو تحقيق طموحات الرؤية المستقبلية «عمان 2040» بمشاركة المرأة العمانية وكل شرائح المجتمع، فإن جلالته أعرب عن «اليقين التام والثقة المطلقة» في قدرات أبناء الوطن على التعامل مع مقتضيات هذه المرجلة والمراحل التالية لها، «بما يتطلبه الأمر من بصيرة نافذة وحكمة بالغة وإصرار راسخ وتضحيات جليلة» تقوم على النزاهة وإعلاء المصلحة الوطنية، وهى ثقة غالية وفي محلها الصحيح أيضا.