أفكار وآراء

كيف فقدت السلطة الفلسطينية الوسيط الأمريكي؟!

22 أغسطس 2020
22 أغسطس 2020

د. عبدالعاطي محمد -

وجد الطرف الفلسطيني نفسه أمام أسلوب وإدارة فنية لم تحدث من قبل من جانب أي رئيس أمريكي سابق، حيث النزعة الشخصية في إدارة القضايا الكبرى والجموح والتسرع في اتخاذ القرار والتخلي عن المبادئ في سبيل تحقيق المنفعة المباشرة.

مرت العلاقات بين السلطة الفلسطينية والجانب الأمريكي بمشاهد مختلفة ما بين الاتفاق والاختلاف فيما يتعلق بعملية السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ولكنها ظلت متماسكة ولو في الحد الأدنى من تقارب الرؤى والمواقف، إلى أن جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض قبل نحو أربع سنوات حيث تعرضت لما يشبه القطيعة من الجانبين. وبوقوع القطيعة فقدت السلطة الفلسطينية الوسيط الدولي الأكثر تأثيرا على إسرائيل مما أدخل عملية السلام في نفق مجهول، خاصة وأن السلطة لم تنجح في كسب وسيط دولي مختلف له نفس تأثير الضغط على إسرائيل.

العلاقة من الأصل لم تكن مبشرة بالكثير من الآمال المنتظرة من الجانب الأمريكي لا من الجانب الفلسطيني ولا من الجانب العربي، لأسباب يدركها الكافة ممن عاشوا وتابعوا نضال الشعب الفلسطيني من أجل الحصول على حقوقه المشروعة منذ 1948، ليس فقط نظرا لما يؤكده التاريخ من دور مهم وحاسم للولايات المتحدة في قيام الدولة العبرية، وأهمية هذه الدولة في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وإنما أيضا بالنظر إلى دور اللوبي اليهودي القوي في صياغة السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط برغم محدودية عدد هذا اللوبي مقارنة بالأقليات الأخرى في الساحة الأمريكية. وكان من الطبيعي والمفهوم لدى كل المعنيين بالقضية الفلسطينية أن تتجه العلاقة إلى العداء لا الصداقة أو حتى التفاهم والتقارب النسبي. ويحفل تراث العلاقة بعد قيام دولة إسرائيل بالعديد من الشواهد من الأحداث التي جسدت رفض وعدائية المواقف الفلسطينية للسياسة الأمريكية سواء تجاه إسرائيل أو القضية الفلسطينية ككل، وصلت إلى حد استهداف المصالح الأمريكية من جانب بعض الفصائل الفلسطينية، وعلى الجانب الآخر ناصبت عديد الإدارات الأمريكية العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية ولم تعترف بها على مدى زمني طويل كحركة تحرر وطني وممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني. وتسببت هذه الحالة من العداء المتبادل في تعقيد الصراع العربي الإسرائيلي ثم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى أن جرى فيما بعد تفكيكها وإحداث انفراجة فيها غيرت خريطة الصراع وأسلوب تسويته.

لنا أن نتذكر أن الخطاب الشهير لياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والعشرين في 13 نوفمبر 1974 لم يكن ليتحقق إلا بدعوة قوية من جانب الجمعية العامة آنذاك بوصفه قائدا لحركة تحرر وطني. وآنذاك لم تقبل واشنطن رسميا وقوفه أمام وفود دول العالم وخضعت لضغط الجمعية العامة. وما كان لهذا الضغط أن يؤتى ثماره لولا القرار الجماعي العربي بقمة الرباط في 30 أكتوبر من العام نفسه الذي بايع منظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني وبفضل قرارات حركة عدم الانحياز واتساع الاعتراف الدولي بالمنظمة. ومن المهم الإشارة إلى أن المنظمة آنذاك بدأت في إحداث تغيير في إستراتيجيتها بالتأكيد على أنها تريد إقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء يتم تحريره وليس على كل التراب الفلسطيني فيما سمى بالبرنامج المرحلي. ولولا هذه التطورات ما انصاعت واشنطن عمليا بالسماح لعرفات بدخول نيويورك. وفي ذلك الخطاب الشهير قال عرفات: «جئت إليكم أحمل في يدى غصن الزيتون وفي اليد الأخرى بندقية الثائر فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدى»، في إشارة إلى تفضيله حلا سلميا للصراع مع إسرائيل. ولكن عندما حانت ساعة الاختبار لم تجد الولايات المتحدة الدليل الذي يجعلها تطمئن بأن هناك تغيرا قد حدث في الموقف الفلسطيني يفتح الباب لتغيير موقفها من منظمة التحرير وقضية السلام مع إسرائيل. فالمعروف أنه بعد أن قام السادات بزيارة القدس الشهيرة في نوفمبر 1977 دعا بعد 25 يوما إلى عقد مؤتمر لكافة الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية قبل الذهاب إلى مؤتمر جنيف الذي كان يهدف إلى وضع الخطوط الأساسية لسلام عادل وشامل في المنطقة. وبالفعل عقد المؤتمر في فندق ميناهاوس بالجيزة في 15 ديسمبر 1977 وتمت دعوة كل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وإسرائيل والأردن ولبنان وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. إلا أن من حضر هم الأمم المتحدة والولايات المتحدة وإسرائيل فقط. أي رفضت المنظمة الحضور لأنها اعتبرت زيارة القدس حلا منفردا ورفضت التوجه المصري جملة وتفصيلا، وعلى العكس من ذلك راحت تشن حملة شديدة على النظام المصري وبينما كان المؤتمر منعقدا كان الاجتماع قائما بين عرفات وصدام والقذافي فيما شكل ما سمى آنذاك جبهة الرفض وراحوا يدينون ما جرى في مينا هاوس ويرفضون التوجه إلى الحل السلمي مع إسرائيل.

والرسالة التي فهمتها الولايات المتحدة من هذا الموقف الفلسطيني هي أنه لا جدوى من تغيير حالة العداء في العلاقة من جانبها تجاه الطرف الفلسطيني. وتعزز هذا التصور مع تصاعد نشاط الفصائل الفلسطينية المسلح انطلاقا من قواعدها في لبنان إلى أن وقع غزو إسرائيل للبنان عام 1982 تحت دعوى وقف التهديدات الفلسطينية خصوصا مع تكثيف التواجد الفلسطيني المسلح في الجنوب. وبالفعل دفعت إسرائيل بقوات تفوق ما حاربت به في سيناء سابقا واجتاحت القوات الإسرائيلية بيروت وتم كل هذا بضوء أخضر صريح من جانب إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان آنذاك. وأحدث الغزو خسائر ضخمة للبنان ولكن النتيجة الأبرز كانت خروج المنظمة من لبنان تماما ولجوئها إلى تونس. بعدها أعلنت المنظمة بوضوح قاطع أنها تختار الكفاح السلمي بدلا من العمل المسلح داخل أو خارج إسرائيل وظهر ذلك في الدورة التاسعة عشرة في الجزائر 1988. وآنذاك اضطرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبعد عدة سنوات من الجدل بين حلفاء المنظمة وحلفاء إسرائيل، إلى نقل اجتماعها إلى مقر المنظمة الدولية بجنيف في ديسمبر 1988 حتى يتمكن عرفات من إلقاء خطاب له آنذاك بدعوة منها أيضا، وذلك لتتجنب رفض الولايات المتحدة منح تأشيرة الدخول للزعيم الفلسطيني. وفي ذلك الخطاب شدد عرفات مجددا على حرص الفلسطينيين على حل سلمى للصراع وطالب المجتمع الدولي بأن يعطى المزيد من الاهتمام للقضية الفلسطينية من منطلق الحرص على أمن وسلام العالم أجمع. ووقتها قال كلمة شهيرة له أيضا جاء فيها: «الحرب تندلع من فلسطين والسلام أيضا».

وبعد ذلك بثلاث سنوات تغير الحال إلى حد كبير بعقد مؤتمر مدريد للسلام 1991 في إدارة جورج بوش الأب، حيث ذاب الجليد نسبيا بين الجانبين الفلسطيني والأمريكي باعتراف الأخير بأن المنظمة هي التي تمثل الشعب الفلسطيني وضعا في الاعتبار التحول الذي حدث في إستراتيجية المنظمة. ولكنه ظل اعترافا ناقصا لأن الجانب الفلسطيني المشارك كان ضمن الوفد الأردني ومن شخصيات ليست لها تاريخ من الكفاح المسلح وإن كانت بموافقة من المنظمة. وبفعل المؤتمر تحقق لعرفات ما كان يحلم به وهو أن يضع قدمًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة ونشأت السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا. وبعد ذلك بعامين جاءت اتفاقات أوسلو الشهيرة بين السلطة وإسرائيل. وبناء على هذه التطورات انتقلت العلاقة بين الجانبين الفلسطيني ممثلا في السلطة الفلسطينية والجانب الأمريكي ممثلا في كل الإدارات من بوش الأب إلى أوباما مرورا بكلينتون من العداء إلى التعاون بطعم الصداقة! وأصبحت الولايات المتحدة وسيطا مقبولا من الجميع، وكثيرا ما كان المفاوض الفلسطيني عبر كل مراحل التفاوض وما أكثرها يصف الجانب الأمريكي بالوسيط النزيه ويعول عليه كثيرا في الضغط على الجانب الإسرائيلي. وبرغم كل الانتكاسات التي شهدتها جهود التسوية السلمية، ظل الجانب الفلسطيني متمسكا بالأمل في الوسيط الأمريكي. وكانت مصادر الثقة من الجانب الفلسطيني متمثلة في أمرين مهمين هما تقدير الجانب الأمريكي للطرف الفلسطيني سواء في شخص القيادة أو فريق التفاوض وشفافية موقف هذا الجانب فيما يتعلق بمسارات التفاوض في كل المراحل أو المحاولات. وما يقصد بالشفافية هنا هو الوضوح وليس المباغتة حتى لو كان ما يتم عرضه على الجانب الفلسطيني لا يرضيه، وكذلك صراحة الجانب الأمريكي في تحميل إسرائيل مسؤولية الفشل كلما وقع برغم المعروف من صداقة حميمة تجمع بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي.

ولكن الأمر اختلف تماما على مدى السنوات الأربع تقريبا من حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حيث انقلب الجانب الأمريكي كلية على الجانب الفلسطيني وليس بسبب التعسف من حكومات نتانياهو المختلفة. فالتعسف والتهرب من التزامات أي حل سلمى أمر مفهوم أو معروف ومتوقع دوما من جانب إسرائيل واختلافات المواقف نسبية بين حكومة وأخرى. ولكن الجانب الأمريكي حتى عهد أوباما لم يقصر في جهده لإحلال السلام وفقا للمسار المتفق عليه منذ مؤتمر مدريد. وأقر جون كيري وزير خارجية أوباما في آخر عهده بأنه بذل أقصى ما في وسعه ولكن حكومة نتانياهو لم تقبل مساعيه. ولم ينزعج الطرف الفلسطيني من تعثر جهود كيري ولم يوجه له اتهاما بالتقصير أو يفتعل أزمة مع الرئيس أوباما وإدارته. إلا أن المشهد مختلف تماما منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض. فقد وجد الطرف الفلسطيني نفسه أمام أسلوب وإدارة فنية لم تحدث من قبل من جانب أي رئيس أمريكي سابق، حيث النزعة الشخصية في إدارة القضايا الكبرى والجموح والتسرع في اتخاذ القرار والتخلي عن المبادئ في سبيل تحقيق المنفعة المباشرة. وما أن دخل البيت الأبيض حتى أغلق السفارة الفلسطينية في واشنطن عقابا للطرف الفلسطيني على شكواه ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية! كما قام بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وطرح ما يسمى بصفقة القرن دون أي حوار مع الطرف الفلسطيني. أي أن إدارة ترامب تخلت عن أسلوب الإدارات السابقة ولم تعر تقديرا للطرف الفلسطيني بل استبعدته وأرادت إملاء كل ما تراه عليه دون مناقشة. ولم ينجح الطرف الفلسطيني في التكيف مع طريقة هذه الإدارة ولم يوجد بديلا للوسيط الأمريكي الذي لم يعد نزيها!.