أفكار وآراء

لماذا اللغة العربية هي الحل ومربط الفرس؟

19 أغسطس 2020
19 أغسطس 2020

عبد الله العليان -

الاستمساك باللغة العربية يعد تجديدًا للهوية، والنظرة العامة للفكر الذي نصوغ فيه رؤيتنا للكون والحب والحياة، فلو فصلنا هذه اللغة عن واقعنا، واستجلبنا لغة أجنبية، سنجد أنفسنا في انفصام نفسي واضطراب فكري وارتباك في الفهم مع الكثير من التناقضات، وهذه مسألة جوهرية.

منذ عدة سنوات مضت طرحت من خلال بعض المقالات، وبعض التعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي، عن أهمية وضرورة أن يتم تطبيق اللغة العربية في كل التخصصات، كأحد أهم الحلول لفرض التعمين، في كل القطاعات العامة والخاصة في بلادنا، وأقصد بالعامة، أن الكثير من المؤسسات والشركات الحكومية، أو التي بها شراكة من الدولة، بهذه المؤسسات والهيئات، لا تزال اللغة الأجنبية هي المطبقة في بعض المؤسسات والهيئات للأسف ومن عقود، مع أنه لا توجد ضرورة ملحة تستدعي تطبيقها، ذلك أن اللغة العربية تستطيع وبسهولة إدارة هذه الوظائف، وهذا مما أعاق بلا شك توظيف الكثير من العمانيين في بعض هذه القطاعات، لا سيما في القطاع الخاص، وهذه ظاهرة بلا شك لافتة ومن الضروري مراجعتها، حتى أن الفرص لا تتاح إلا لمن يجيد اللغة الأجنبية، وهذا عذر غير مقبول بتاتًا، ومعضلة، وعقبة أمام تطبيق التعمين، وما زلنا أمام هذه المعضلة منذ عدة عقود! وحل هذه الإشكالية يسهم في إيجاد فرص لعشرات الآلاف من الشباب المؤهل، من مخرجات الجامعات والكليات العامة والخاصة، ولذلك من المهم أن تكون اللغة العربية، هي وسيلة التعامل، فاللغة العربية لغة علم وحضارة وتقنية، وليس صحيحًا أبدًا أن الإتقان في الأعمال بصورة عامة، لا يمكن أن يتحقق إلا بلغة أجنبية. وهذه إشكالية تحتاج إلى رؤية مغايرة، لما يعتقده البعض من أثر اللغة الأجنبية ومكانتها إلى آخره، وهذا في الواقع ليس صحيحًا وتكذبه التجربة العملية لهذه اللغة في تجارب ووقائع شتى، وعندما تعّرف العرب في العصر الأول الإسلامي، على العلوم والفلسفة من اليونان، وبقية الأمم السابقة، لم يأخذوا اللغة منهم، لكنهم تعرفوا عليها وترجموا ما يريدون ترجمته، وصاغوا وكتبوا واخترعوا علومًا جديدةً من هذه الثقافات، وكلها تمت باللغة العربية وليس باللغة الأجنبية، أو كما يفعل بعض الكتّاب العرب، الذين يكتبون بالأجنبية، ثم يتم الترجمة لهم إلى العربية!!

وهذه بلاء وهزيمة فكرية ونظرة عقلية سقيمة، فليس هناك ما يحد من دور العربية في أن تضطلع بالدور نفسه مثل أية لغة أخرى، وقد كانت هذه اللغة، هي التي بُنيت عليها الحضارة العربية /‏ الإسلامية، في شتى العلوم البحتة، وكذلك العلوم الإنسانية.

ولذلك فالاستمساك باللغة العربية يعد تجديدًا للهوية، والنظرة العامة للفكر الذي نصوغ فيه رؤيتنا للكون والحب والحياة، فلو فصلنا هذه اللغة عن واقعنا، واستجلبنا لغة أجنبية، سنجد أنفسنا في انفصام نفسي واضطراب فكري وارتباك في الفهم مع الكثير من التناقضات، وهذه مسألة جوهرية.

فمنذ قرون كانت اللغة العبرية لغة ميتة وليست لغةً حيةً، عدا التحدث بها كلغة عامة بين الأفراد بصورة محدودة، وأصبحت الآن في إسرائيل، لغة العلم والمعرفة في الجامعات والمعاهد العليا، وقد سبق أن أشرت إلى قضية اللغة العبرية في مقالات سابقة كتوضيح لهذه القضية، وقلت: مع أن علماء اليهود في العصر العباسي وما بعده من العصور العربية الإسلامية، كانوا يكتبون ويؤلفون كتبهم باللغة العربية، ويذكر المفكر العربي د. عزمي بشارة في إحدى الندوات في بلد عربي، أنني «زرت كل مناطق عاصمة الكيان الإسرائيلي (تل أبيب)، ولم أجد مدرسة خاصة تدرس اللغة الإنجليزية، أو أي لغة أجنبية، كل المدارس باللغة العبرية، فالعبرية لغة اندثرت منذ قرون، تم إحياؤها من جديد، مع أنها كانت لغة ميتة، وكان اليهود في العصور الوسطى وما بعدها، وفي فترة الحضارة الإسلامية، كانوا يكتبون باللغة العربية، لا باللغة العبرية».

وهذا الأمر يعطي الدليل أن اللغات هي وعاء للاستقبال، عندما يكون هناك حراك فكري وعلمي للإبداع، ومن ثَم فأي لغة تستطيع التفاعل، مع ما يطرأ على الأمة من تحرك للتقدم والتطور، فالعجز ليس في اللغة، لكن فيمن يستعملها، وهكذا.. فالأمم لا يمكن أن تنهض إلا من خلال ثقافتها وفكرها ورصيدها من التراث الحي عبر التاريخ من خبرات وتراكم معارف وغيرها من الطرق التي تدفع إلى النهوض.

وبعض من أبناء الأمة العربية للأسف، من يتنكر للغته، ويعتبرها غير صالحة للعلم أو المعرفة أو للإبداع، وأعرف نصوصًا من بعض هؤلاء، بل إن بعضهم عندما تغربوا، أو أصابهم الغزو الفكري بإصابات بالغة، قالوا: إن تخلفنا كان بسبب اللغة العربية !! وكل هذا ربما نتيجة الاعتقاد عندهم، أن الغرب تقدم بسبب أن لغته لغة العلم؟ وهذا فهم ساذج لقضية اللغة، فكل لغة من اللغات، هي وعاء للمعرفة بغض النظر من تكون هذه؟ ومن أي شعب؟ ومن أي ثقافة من الثقافات؟ ولغتنا العربية، عندما أقام الإسلام الحضارة العربية /‏ الإسلامية، قبل حضارة الغرب بعدة قرون، فان الغربيين، أخذوا منهج العلم وأساسياته من العرب والمسلمين وباعترافهم، لكنهم تركوا اللغة العربية والقيم والتقاليد، وأخذوا المنهج وأساليب تطبيقه، لكن بعضًا من أبناء جلدتنا، أراد منا أن نذوب في الغرب، مثل الصابون!

وهذه نظرة تحتاج إلى وعي باللغات وأثرها في الفكر، واللغة العربية لغة علم وفكر وفلسفة وفن وغيرها مما يتعايش معه الإنسان في حياته منذ الطفولة، ويرى الباحث الجزائري عمار بوحوش أن اللغة العربية: «تحيا بالاستعمال، ولا تحيا في بطون الكتب، كما أن الأمر لا يحتاج إلى رياء أو نفاق. فالشيء المعروف عالميًا أن الإنسان يستطيع أن يستوعب بلغته الأم أضعاف ما يستوعبه باللغة الأجنبية مهما كانت درجة إتقانه لهذه اللغة. وإذا تمكن الشباب العربي من إتقان لغته واستعمالها فإنه يستطيع أن يبدع ويشارك في إثراء الحضارة الإنسانية بركبها المتقدم».

والذي أود أن أصل إليه بعدما شرحت أهمية وضرورة اللغة العربية في المعاملات الإدارية والمالية، هو أن التأخر في تطبيق التعمين في الكثير من المؤسسات والشركات، سببه غياب التعريب ومحدوديته في التطبيق، في غالبية هذه المؤسسات والشركات، وقد طرحت وأشرت للكثير مما هو مطبق في هذا القطاع، كما شرحت في السطور الأولى إلى ما كتبته منذ سنوات، عن غياب التعريب وآثاره، وهذا مما أسهم في تراجع عمل الشباب العماني في هذه القطاعات، عدا بعض الوظائف البسيطة وليست بتلك الوظائف المهمة في هذا القطاع، والشباب العماني أيضًا يستطيع أن يقوم بكل هذه التخصصات، حتى ربما التي تحتاجها لغة أجنبية، والتجربة ماثلة في قطاع المصارف، وكيف استطاع العمانيون أن يؤدوا العمل فيها بكفاءة وقدرة، وعندما نقارن بين الأعمال في المصارف، وبين العمل في القطاعات الأهلية المختلفة، نجد أن قطاع المصارف أدق وأصعب من الكثير من هذه الأخيرة، وهذا يعطي الدليل على استطاعة الكفاءات العمانية أن تدور عملها في كل المؤسسات.

صحيح أن غالبية الشركات الحكومية، وبعض الشركات والمؤسسات الخاصة، أعطت المجال الواسع للتعمين بصورة جيدة، لكن من المهم تطبيق التعريب في كل هذه الشركات والهيئات والمؤسسات بصورة كاملة، عدا بعض الأعمال الفنية أو التي تتطلب لغة أجنبية، وهذه مما يقوم به أيضًا عمانيون وبجدارة، والمخرجات بحمد الله متوفرة في كل التخصصات، وقدرتهم على تلبية كل متطلبات ومجالات هذه الوظائف في القطاعين العام والخاص.

ومع كتابة مقالي يوم ـ الثلاثاء ـ وظهور القرارات الوزارية، والدمج والتعديل، والتغيير الوزاري، أشعر بسعادة غامرة، بتحقيق الكثير مما كنا نريده من قضية التعمين، ومن تسريعه في هذه القطاعات المذكورة، ومهما يكن فإن ابن البلد هو أحق، بل وأقدر على تأدية ما من شأنه الإخلاص والتفاني في وطنه، ولذلك من الضروري إعطاء اللغة مجالها الرحب في تطبيق كل المعاملات، وعلينا أن نرفع لغتنا، ونعطيها المكانة اللائقة، وهذا موجود في كل دول العالم، أن تفرض اللغة الرسمية، وعلى الوافد الأجنبي أن يتعلم اللغة الوطنية، وليس العكس، أن يتعلم ابن الوطن اللغة الأجنبية، ليكون متساويًا مع الوافد!

فاشتراط اللغة الأجنبية ـ كما نراها في بعض الصحف ـ تحتاج إلى مراجعة جدية، بان تكون العربية هي الأساس، في تطبيق كل الوظائف، في كل القطاعات، عدا بعض الوظائف الفنية الخاصة، فهذا من الممكن أن يتم الاستثناء فيه، والكثير من التخصصات، من الكفاءات العمانية، تستطيع أن تقوم بهذه الوظائف في هذه اللغة أيضا.. وهذا ما نتمنى أن يجد طريقه للتنفيذ.