أفكار وآراء

قبائلية الحداثة الســياسية!

19 أغسطس 2020
19 أغسطس 2020

محمد جميل أحمد -

ظلت الحداثة السياسية هي الأكثر استعصاءً على تمثلها من طرف النخب في العالم العربي، ولاسيما من خلال المنظومات السياسية الحديثة كالأحزاب التي لم تختبر حتى اليوم طريقًا سياسيًا قادرًا على إنجاز هويتها الفلسفية المتصلة بوعي فكرة الدولة والمواطنة.

الأمر في تقديرنا هو جزء من تمثيلات الحداثة وممارستها عبر محتوى منظومات تقليدية لا يمكن أن تعكس نموذجًا مختلفًا للتعبير السياسي الذي تعكسه فكرة الدولة. فالأحزاب الإسلامية بطبيعة الحال تعكس رؤيتها تصورات إطلاقية متعالية على الدولة الوطنية ناهيك عن فكرة الحزب وفلسفته التي تتمثل في أنه جزء من المجتمع ومن الدولة محكوم بالسقف الوطني لمرجعيتها.

وإذا كانت الأحزاب هي جزء من تنظيمات العمل العام التي يوظفها وعي طبقي في قضايا السياسة؛ وعي طبقي ناشئ من حيث مكونات المجتمع وبنياته الطبقية الحديثة في تشكلها من الانتظام المدني للشعب عبر الوظائف والتخصصات، بما يجعلها قادرة على رؤية المطالب الموضوعية بطريقة عابرة لجماعات ما قبل الدولة القومية كالطوائف والقبائل؛ فإن ضعف التكوينات الطبقية وهشاشتها وحتى غياب شرطها المتصل بوعي الدولة هو الذي لا يزال يعيد إنتاج التعاطي العقيم مع فكرة الحزب على نحو لا يعكس أي إدراك موضوعي لمعناه وفلسفته.

هكذا سنجد أن القبائلية، (وليست القبلية ولا القبيلة) هي المحتوى المتخفي وراء قناع الانتظام المدني الشكلي لتعبيرات الأحزاب السياسية في المنطقة العربية عمومًا. والحال أن مخرجات لا تكاد تعكس أي معنى لجدوى وفعالية فكرة الأحزاب لا تزال هي الشواهد الحقيقية لنتائج العمل السياسي.

إن لبوس القبائلية في ممارسات الأحزاب العربية كان نتيجة لتلك الفكرة التي ترى في الحداثة تطبيقًا آليًا دون التمعن في الجدوى الدقيقة لمفهوم الحداثة السياسية كحزمة مترابطة ولا تنفك عن فلسفة الدولة ومفهوم المواطنة وغيره من المفاهيم السياسية التي تشكل منظومة وعي الحداثة.

بيد أن الانحدار الذي كانت تشهده المنطقة العربية في ارتدادتها عن الحداثة، كشف عن طبيعة أخرى يمكن أن تلعبها القبائلية في الشأن العام، وذلك عندما ظن البعض أن في إحياء نظام الإدارة الأهلية ما يمكن أن يكون مفيدًا في مقاربة الشأن العام، ولم يدرِ أولئك أن أي استعادة للقبائلية استيهامًا على أن لها علاقة بالقبيلة إنما هي محض وهم، ويبعث لمسخ خطير له قدرة غير عادية على تدمير علاقات الانتظام المدني الحديث في المجتمع والدولة.

فقد كان واضحًا أن التمثيلات الشكلانية للحداثة السياسية عبر الأقنعة القديمة ستفضي في النهاية إلى عطب أساسي نتيجة لفساد أصل المقاربة، ليرتد بتلك التمثيلات إلى تقليد قديم هو القبيلة ظنًا منه أن القبائلية هي استعادة حديثة للقبيلة، لاسيما في ظل ردود فعل العولمة على الجماعات الثقافية في بلدان العالم الثالث، أي في جعلها أكثر تحصنًا بجذورها خوفًا من الذوبان، إلى جانب التأثيرات السلبية لفلسفة ما بعد الحداثة في إعادة الاعتبار لكل البنى التقليدية للمجتمعات خارج المركزية الأوروبية. فكانت النتيجة استيلاد مسخ القبائلية في بعض البلدان بما عكس أتعس أشكال الرهانات السياسوية في تعبيرها المأزوم عن السياسة، عبر التوحش والإقصاء والبدائية والعصبية التي تعاملت بها القبائلية مع كل ما لا يشبهها؛ أي مع الاختلاف والتعدد، مع المواطنة والفردية، مع المدينة والهوية، مع النادي والمسرح والسينما، مع الميادين والساحات.

المفارقة؛ أن الاستعادة المتوهمة للقبائلية في هذا الزمن الحديث هي مسخ غريب لا تشبه ما قد يظنه البعض تقليدًا حديثًا لنظام القبيلة القديم، حيث كانت القبائلية طريقة وحيدة في تعبيرات البشر حين كانت حياتهم خالية من نظام الدولة في الاجتماع السياسي والاندماج الذي يخلقه التعدد في فضاء المدينة، والشراكة التي تتمثل في المواطنة، والوحدة التي تتجلى في هويتهم القومية/‏ الشعب.

لقد كان التعرف على ثمار الدولة الحديثة ونعمتها أمرًا مدركًا من طرف الأجيال المخضرمة التي شهدت ولادة الدولة العربية الحديثة وتنظيماتها في المنطقة فيما عاشت، في الوقت ذاته، طرفًا من بقايا حياة ما قبل الدولة الحديثة.

إن نظم الإدراك المتوحشة لتنظيم العلاقات في القبائلية سيفضي بما تبقى من الاجتماع السياسي في بعض الدول العربية إلى هاوية سحيقة من التناحر والفتن والاحتراب؛ وهو بالفعل ظهر في بعض الدول العربية.