أفكار وآراء

الزيارات المكثفة لبيروت .. تضامن أم مصالح؟!

17 أغسطس 2020
17 أغسطس 2020

د. عبدالحميد الموافي -

ليس من المبالغة في شيء القول بأن لبنان الشقيق، يمر في هذه الفترة بظروف بالغة الدقة والتعقيد، دولةً وشعبًا ومواطنًا، بعد أن تكالبت عليه الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والفشل الحكومي في التعامل معها، والآثار التي تحدثها جائحة كورونا، وتفجير ميناء بيروت وما يصاحبه من نتائج، ثم إعلان المحكمة الخاصة بمحاكمة قتلة رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الأسبق لأحكامها بشأن المتهمين في تلك الجريمة، التي كانت بمثابة علامة فارقة في تطور لبنان السياسي وفي صراع القوى السياسية اللبنانية مع بعضها البعض، وهو الصراع الذي يتواصل، الذي سيتفاقم على الأرجح خلال الفترة القادمة، لأسباب واعتبارات عدة، لبنانية وإقليمية ودولية، سياسية واقتصادية واجتماعية أيضا.

ومع الوضع في الاعتبار أن الظلال والغيوم التي تركتها سحابة انفجار ميناء بيروت يوم الرابع من أغسطس الجاري، لا تزال تخيّم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا أيضًا، على الأوضاع اللبنانية والمسارات التي يمكن أن تسير فيها التطورات في لبنان الشقيق، فإنه ليس مصادفة أبدًا أن يشهد لبنان تقاطرًا مستمرًا لزيارات رفيعة المستوى من مسؤولين سياسيين كبار جاؤوا ويجيئون إلى بيروت، من العديد من الدول العربية وغير العربية، وذلك منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إليها عقب الانفجار، وحتى الآن. وبعد إن كانت بيروت لا تكاد تشهد زيارة لمسؤول خارجي على امتداد أشهر عدة، فإن كثيرين من ممثلي الدول الشقيقة والصديقة للبنان يريدون، خلال هذه الأيام، أن يذهبوا إلى بيروت، وحبذا لو تمكنوا من زيارة ميناء بيروت وموقع الانفجار، أو التقطت لهم صورا بجانب شحنات الإغاثة القادمة من دولهم، بغض النظر عن حالة الألم والإرهاق والمشكلات التي يمر بها لبنان منذ جريمة التفجير.

ولعل السؤال الذي يفرض نفسه في الواقع هو هل هذه الزيارات من أجل إظهار التضامن مع لبنان الشقيق، الدولة والشعب والمجتمع والمواطن، أم أن هناك في العادة دوافع وأسباب أخرى لتلك الأطراف، كل على حدة؟

على أي حال فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: إن لبنان المنكوب كله، وليست بيروت وحدها، حاول جاهدًا لملمة جراحه، وحاول أيضًا إظهار قدر غير قليل من التماسك المؤسسي والاجتماعي، وهو أمر بالغ الأهمية في الحقيقة، نظرًا لأن حدوث فراغ سياسي، أو مؤسسي في لبنان، على مستوى الحكومة، أو المؤسسات الأخرى هو أمر بالغ الضرر لواقع وحاضر ومستقبل لبنان، الدولة والمجتمع والشعب والمواطن كذلك، لأن هذا الفراغ، الذي تدفع إليه بعض الأطراف للأسف، ستترتب عليه بالضرورة نتائج تسلم لبنان إلى المجهول، عبر حالة فوضى، يمكن أن تعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989) وفي ظروف هي أسوأ الآن بدون أي مبالغة.

وإذا كان حسان دياب، رئيس الحكومة اللبنانية قد أعلن استقالتها رسميًا، وأكد استعداده للاستمرار في تحمل المسؤولية -كحكومة تصريف أعمال لمدة شهرين- أي حتى أوائل أكتوبر القادم لتشكيل حكومة جديدة - فإن هذه الحكومة تواجه في الواقع عقبات ومشكلات عديدة، ليس أقلها حالة انعدام الثقة الجماهيرية في قدرتها على تحمل الأعباء في هذه الفترة، والشكوك حول قدرتها على الإدارة الصحيحة للأمور بما في ذلك التحقيقات في حادث تفجير ميناء بيروت، ولكن أيضًا تراكم المشكلات أمامها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ولوجستيًا، بالنظر لضخامة الآثار التي أحدثها تفجير ميناء بيروت والعدد الكبير للمتضررين اللبنانيين من جراء الانفجار، هذا فضلًا عن استقالة عدد من وزرائها بشكل منفرد قبل الإعلان عن استقالة الحكومة رسميًا. وإذا وضعنا في الاعتبار ما أشار إليه رئيس الوزراء اللبناني في بيان إعلانه استقالة الحكومة حول اكتشافه أن الفساد في لبنان «أكبر من قدرات الدولة اللبنانية»، وليس الحكومة فقط، وأن هناك أطرافًا لبنانيةً مؤثرةً حاولت عرقلة الحكومة، «لخوفها منها» حسبما قال، فإن هذا الوضع يحتاج إلى الكثير من المساعدات للحكومة وللبنان الدولة والشعب أيضا، وفي أي جانب، يمكن أن يمد يد المساعدة بإخلاص وتجرد وصدق لتضميد جراح لبنان، ولكن هل السياسة تعرف ذلك؟ وإلى أي مدى؟ إذا رجحنا حسن النوايا وانحزنا إلى مشاعر التعاطف مع لبنان الشقيق؟

على أي حال فإنه إذا كان الشباب اللبناني قد أظهر استجابة ورغبة وقدرة على التفاعل مع حادث التفجير ومحاولة الارتفاع على جراحه والتخفيف عن آلاف الأسر المتضررة ولو بشكل جزئي، إلى جانب الدعوة للقيام بإصلاحات حقيقية، فإن مجلس النواب اللبناني أظهر بدوره قدرة على الإمساك بزمام المبادرة، بحكم مسؤولياته التشريعية، وذلك برغم استقالة عدد محدود من نوابه -نواب حزب الكتائب الخمسة ونائبين آخرين- حيث قبل استقالة من تقدم منهم رسميًا بطلب استقالة، وعلى ذلك فإن دور مجلس النواب، الذي طالب بالإسراع في تشكيل حكومة لبنانية جديدة، سيكون له ثقله في الأسابيع والأشهر والفترة القادمة، ولعله يتمكن من الحفاظ على مؤسسات الدولة اللبنانية، حتى لو تم تغيير بعضها، بما في ذلك مجلس النواب ذاته، عبر انتخابات، تفاديًا للوقوع في هوة الفراغ السياسي الخطر والمهدد لاستقرار لبنان الشقيق.

ثانيًا: إنه إذا كانت طبيعة وحيوية الشخصية اللبنانية، وإقبالها على الحياة، وقدرتها على النهوض من كبواتها، تساعد الشعب والمجتمع اللبناني على النهوض واستيعاب ما حدث برغم آثاره المدمرة، فإن الإعلان اليوم الثامن عشر من أغسطس 2020 عن أحكام محكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري الذي اغتيل عام 2005، من شأنه أن يلقي المزيد من المشكلات على الأوضاع والخلافات والانقسامات اللبنانية، خاصة أن الشيخ حسن نصر الله زعيم حزب الله اللبناني، الذي توقع صدور أحكام ضد المتهمين من الحزب في الجريمة -أربعة متهمين- أعلن بوضوح أنه لا يعترف بالمحاكمة، ولا بأحكامها، وأنه لن يسلمها العناصر المحكوم عليها، والتي يعتقد ببراءتها. ومع أن هذا الموقف هو موقف حزب الله منذ تشكيل المحكمة، إلا أن صدور الأحكام بشكل محدد وعلى أسس قضائية من جانب المحكمة سيزيد بالضرورة من الجدل حول حزب الله ودوره المشكوك فيه في اغتيال رفيق الحريري - على الأقل من جانب بعض الأطراف اللبنانية، كما أنه سيزيد أيضًا من حالة الاستقطاب والخلافات والتوتر على الساحة اللبنانية الحبلى بعناصر اشتعال متعددة. يضاف إلى ذلك الجدل بشأن محاكمة المسؤولين، أو المتورطين في تفجير ميناء لبنان، وما إذا كان من الكافي محاكمتهم أمام القضاء اللبناني، الذي باشر بالفعل إجراءات محاكمة 25 متهمًا، أو اللجوء إلى محكمة دولية يعارضها الرئيس اللبناني ميشيل عون وحزب الله. ويعني ذلك أن لبنان يواجه في هذه الأيام مشكلات مركبة ومتقاطعة وشديدة الصعوبة كذلك، وعلى نحو غير مسبوق، وهو ما يحتاج إلى كل دعم ومساندة مخلصة من جانب أشقائه وأصدقائه.

ثالثا: إن الخبرة السياسية للبنان وتطوره وعلاقاته الإقليمية والدولية قامت منذ أربعينيات القرن الماضي على أساس مقولة إن «قوة لبنان في ضعفه» بمعنى أن ضعف لبنان وشعور مختلف الأطراف بضرورة الحفاظ عليه تجبر كل الأطراف المعنية والمتصارعة أيضا على الالتقاء عند نقطة الحفاظ على لبنان الدولة والمجتمع والحفاظ على استقراره واستمرار التوافق بين عناصره وطوائفه، وأن الإخلال بذلك لصالح أي طرف يفتح الباب لمضاعفات يدفع لبنان وكل قواه ثمنها في النهاية. وفي هذا الإطار تبلور النظام السياسي اللبناني المرتكز على التوافق الطائفي وعلى التقسيم الطائفي أيضًا للمواقع والمناصب على كل المستويات. وإذا كان هذا النظام قد حافظ، ولو نسبيا، على لبنان واستمراره، فإن مضاعفات ومشكلات عديدة ظهرت وتظهر، كما هو الحال الآن. ومن هنا فإن الحديث عن الإصلاح، والإصلاح الحقيقي والشامل، بل والمطالبة بإعادة صياغة النظام السياسي اللبناني، بكل قواه وأطرافه السياسية والطائفية، تبدو وكأنها تقدم الحل، أو تحدد الطريق إليه، غير أن الواقع هو أن الحديث سهل، أما العمل والتوصل إلى اتفاق بين القوى اللبنانية يظل أكثر صعوبة بكثير. وعلى سبيل المثال تحدث رئيس الوزراء اللبناني عن انتخابات جديدة لمجلس النواب، وعن قانون انتخابي جديد خلال شهرين، ولكن الجميع يعلم أن ذلك غير واقعي وغير ممكن.

من هنا تحديدًا فإن التقاطر السياسي من جانب مبعوثي الكثير من دول المنطقة والعالم على لبنان في هذه الأيام لا يبعث على التفاؤل ولا الارتياح، فليس الأمر فك عزلة لبنان السابقة، وليس الأمر تسجيل موقف أخوي، أو متعاطف مع لبنان في كارثة تفجير ميناء بيروت، كما قد يظن كثيرون، ولكن المسألة هي صراعات المصالح ومحاولات إثبات النفوذ، أو دعمه وتوسيعه، والدخول على عملية إعادة إعمار ميناء ومدينة بيروت، التي تحتاج مبدئيًا إلى 525 مليون دولار، كمساعدة عاجلة، بخلاف مليارات إعادة الإعمار، وبالتالي محاولة الحصول على جزء من هذه الكعكة. وإذا كان لبنان قد استطاع من قبل الحفاظ على مصالحه الوطنية، وعلى الحفاظ على توازن دقيق بين مختلف القوى الإقليمية والدولية، فهو الآن في حاجة ماسة إلى ذلك أكثر من أي وقت مضى، أما إذا حاولت قوة أو أخرى جر لبنان، أو دفعه في دروب لخدمة مصالحها الطائفية أو مخططاتها الإقليمية، فإن لبنان لن يعرف الاستقرار، وسيكون منفتحا على مضاعفات خطرة، ولعل الجميع يدرك خطر ذلك ويسهم جادًا في الحفاظ على استقرار لبنان وأمنه، ليكون لبنان كما كان من قبل، متنفسًا للمنطقة ومرآة طيبة لما تتمنى شعوب المنطقة تحقيقه من تقدم وازدهار، غير أن ما يجري على الأرض يثير المخاوف بالفعل والكثير سيتوقف على القيادات اللبنانية ذاتها في النهاية.