أفكار وآراء

عن الدور المفترض للدولة.. انفجار بيروت نموذجا!

15 أغسطس 2020
15 أغسطس 2020

د. عبدالعاطي محمد -

جاءت بعض تفاصيل واقعة الانفجار الأليمة التي وردت في متابعات بعض وسائل الإعلام العربية، لتؤكد بما لا يضع مجالا للشك أن حالة التهاون في تفعيل قدرة الدولة على القيام بمهامها، من الممكن حقا أن تصنع كوارث إنسانية ما كان يجب أن تقع، حتى لو وصلت حالة الانقسام إلى نقطة اللاعودة.

إذا كان من مثال عن مخاطر غياب الدولة، أي دولة وفي أي مكان، فليس هناك أقوى وأوضح مما جرى في وسط بيروت، عندما وقع الانفجار الضخم في مرفأ العاصمة بكل ما سببه من خسائر بشرية ومادية. هي حقا كارثة بكل المقاييس في المقام الأول، تتحملها كل القوى السياسية اللبنانية نتيجة تعنتها في استمرار حالة الانقسام والتناحر الحزبي التي قادت بدورها إلى غياب الدولة، ومع غيابها كان منطقيا أن يقع كل ما لا تحمد عقباه. وفي تفاصيل الحدث الأليم هناك ما يدلل على أن الغياب هذه المرة، تضمن العجز عن اتخاذ قرار يمنع وقوع كارثة بهذا الحجم على مدى ست سنوات.

لم يكن التحذير من مخاطر غياب الدولة، سواء في لبنان أو غيرها من المناطق الساخنة عربيا، مجرد ترف إعلامي أو سياسي، وإنما كان اتساقا مع ما عرفته كل التجارب الإنسانية لتحقيق الأمن والاستقرار والتقدم لشعوبها. فالاختلاف سنة الحياة ومن الطبيعي أن يقع خاصة في حالة بلدان مجزأة أو مركبة مثل لبنان، ولكن هذه التجارب قدمت حلولا كثيرة لإقامة نظم سياسية جيدة تضمن التوافق دون إلغاء التباينات الثقافية والسياسية بين أعضاء المجتمعات التي من هذا النوع. ولم يكن لبنان بعيدا أو استثناء في هذه التجارب حيث نجح مؤسسوه في إقامة نظام ديمقراطي توافقي (الديمقراطية التضامنية) جعل الكثيرين ينظرون للبنان على أنها منارة الشرق في احترام الحريات والاستنارة الفكرية. ولكن هذه المنارة لم تعد تعمل منذ عدة عقود حيث انطفأت مصابيحها ولم تجد من يستعيد دورها، وضاع التوافق السياسي أو أصبح عسيرا، وبالنتيجة أصيبت السلطات الأساسية للدولة بما يشبه الشلل.

ملف النكبات طويل وتفاصيله ليست غائبة عن أحد منذ الحرب الأهلية 1974، وقد نجح اتفاق الطائف 1989 في أن يرمم مفاصل الدولة لتعود للحياة وتؤدى واجبها الوطني، ولكن الإصلاح الذي حققه لم يجد الدعم لا على المستوى الداخلي أي من جانب القوى السياسية على اختلاف توجهاتها، ولا على المستوى الخارجي أي من جانب القوى الدولية الإقليمية المنخرطة في الشأن اللبناني، فراحت هذه المفاصل تتهاوى تدريجيا تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والسياسية. وقد جرى ذلك تحت أعين الجميع على المستويين المذكورين دون أن يتحرك أحد بالمعنى الحقيقي للكلمة. فقط كان الكل يزايد على بعضه بعضا تحت شعارات الوطنية المختلفة، بينما على أرض الواقع هناك عجز في إنجاز المهام الوطنية الأساسية وتحديدا فيما يتعلق بمستوى معيشة المواطن وأمن وسيادة البلاد. وتركزت المشاكل في أعلى الهرم السياسي أي في قمة السلطة بأنواعها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية ونشأ ما يسمى بالفراغ السياسي أي غياب السلطة التي تتخذ القرارات الحيوية للبلاد. وللتذكرة عاش لبنان بلا رئيس للجمهورية لفترة من الزمن، وبلا رئيس حكومة لفترات أخرى، وبلا حكومة تستمر لوقت كاف لفترات ثلاثة. وإن كان هناك طرف مسؤول عن هذا الخلل الجسيم، فإنه القوى السياسية المتنفذة في البلاد، لأنها لم تعجز فقط عن التوافق، وإنما باشرت صراحة صورا من اللدد والمناكفات والعداءات بين بعضها البعض على العلن ودون مواربة. وليس من المفيد توجيه الاتهام لطرف بعينه، لأن توجها كهذا يؤدى إلى تعميق الجراح وزيادة إشعال الحرائق السياسية القائمة. والصحيح أن الكل مسؤول لأنه كان طرفا بشكل أو بآخر في تهاوى وجود الدولة، فإما أنه كان طرفا مباشرا أو غير مباشر أو متفرجا على مشهد لا يقبل الفرجة فقط.

حتى وقت قريب كان الشغل الشاغل في هذا البلد المنكوب، هو التفاعل مع مطالب الشارع اللبناني الذي كان قد انتفض أواخر 2019 ضد السلطة القائمة متهما ما سمى الطبقة السياسية (في إشارة إلى كل القوى السياسة ذات النفوذ والتأثير في اتخاذ القرار) بتدهور مستوى معيشة الشعب من حيث تردى الخدمات والدخول والوظائف. وعاش اللبنانيون عدة شهور في حالة من الثورة أو الانتفاضة بهدف تغيير النظام السياسي برمته. ولكن الشارع بدوره أخطأ الطريق مثلما أخطأت النخبة أو الطبقة السياسية من قبل، لأنه لم يع دروس الربيع العربي الفاشل والذي أدى إلى كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية أعادت بلاده إلى نقطة الصفر!. وخلال الهبة الشعبية اتجهت الأوضاع الاقتصادية إلى المزيد من التدهور، وانخفضت بشدة قيمة الليرة مقابل الدولار وبات الحديث عن أن لبنان يتجه إلى الإفلاس أمرا مكررا على لسان المسؤولين اللبنانيين والخبراء الدوليين.

هذه الكارثة الاقتصادية لم تزعج الطبقة السياسية اللبنانية، كما لم تتمكن الحكومة على وجه سريع من تصحيح الأوضاع بما يجعل المجتمع الدولي واثقا من تدخله لإنقاذ لبنان. وقد بدا هذا وذاك أمرا غريبا في ظل أزمة طاحنة كانت تقتضي دورا إيجابيا من هذه الطبقة. ولكن وجه الغرابة يزول إذا عدنا إلى التشخيص الأساسي لما آلت إليه الأوضاع وهو غياب الدولة أو بمعنى أوضح عجز سلطاتها عن القيام بأدوارها المعروفة أو التقليدية وليس الأمل والأحلام في أن تقوم بما هو أكثر من ذلك!

وجاءت بعض تفاصيل واقعة الانفجار الأليمة التي وردت في متابعات بعض وسائل الإعلام العربية، لتؤكد بما لا يضع مجالا للشك أن حالة التهاون في تفعيل قدرة الدولة على القيام بمهامها، من الممكن حقا أن تصنع كوارث إنسانية ما كان يجب أن تقع، حتى لو وصلت حالة الانقسام إلى نقطة اللاعودة. فالتهديد بوقوع الكارثة كان حاضرا أمام أعين المسؤولين على مدى ست سنوات مضت ولم يحدث أي تحرك لمنعه، إلى أن أصبح واقعة حقيقية. والقصة التي تابع الرأي العام العربي جانبا قليلا منها، إلى أن تتضح كل نتائج التحقيقات التي وعدت الحكومة بكشفها للرأي العام اللبناني، بدأت عام 2013 بوصول سفينة يمتلكها شخص روسي إلى مرفأ بيروت تحت وضع الاضطرار نتيجة عطب فني وكانت متجهة أساسا إلى موزمبيق. واكتشفت سلطات الجمارك بالمرفأ أن هناك شحنة ضخمة على السفينة لمواد تصنع متفجرات (نترات الأمونيوم)، فتحفظت السلطات على السفينة والطاقم وبعد خلاف مع مالك السفينة والجهة التي كانت ستستقبل الشحنة قررت السلطات إنزال الحاوية التي تحمل الشحنة وتخزينها بالمرفأ والإفراج عن الطاقم. ووفقا لما تم الكشف عنه طالبت السلطات الجهات الحكومية المعنية بضرورة نقل الشحنة خارج المرفأ في مكان آمن وذلك في أعوام 2014 و2015 و2016 و2017 ولم تجد استجابة من أحد!

وبحسابات بسيطة كان من الممكن تجنب وقوع الكارثة لو كانت هناك جهة تهتم، حيث كان بالإمكان التصرف في هذه القنبلة الموقوتة. وضمن ما أعلن طلبت سلطات المرفأ من الجيش استلام الشحنة ورد بأنه لا يحتاجها. وواضح أن الأجهزة المعنية لم تعبأ بخطورة الموضوع، مع أنها كانت واضحة جلية. وما ذلك إلا لأن هذه الأجهزة كانت مكبلة بضغوط عديدة قانونية وإدارية وحزبية أيضا من ناحية، ولا تجد حكومة تتحدث معها من جهة ثانية نتيجة الفراغ السياسي السالف الإشارة إليه والتعنت الذي وقع بين مختلف القوى السياسية في إدارة الدولة. وطالما ظل غياب الدولة قائما، وهكذا سيستمر لأن المعطيات التي تحقق وجود الدولة لا تبدو واضحة للعيان، فإنه لا يصبح مفاجئا أن يتحول ملف انفجار المرفأ إلى مدخل جديد لتبادل الاتهامات بين القوى السياسية وتحوله إلى ساحة جديدة لمزيد من تصفية الحسابات فيما بينها. هكذا تنشط فكرة المؤامرة لأنها أسهل الطرق لنجاة كل طرف من المسؤولية، ومعها تتسع فجوة الخلافات، وكم كان ملفتا أن يسارع الرئيس الأمريكي ترامب إلى التلميح بأن هناك يدا خفية وراء الحادث مستغلا ما تردد في السابق بأن المرفأ يقع ضمن سيطرة حزب الله.

كما يتسع خيال كثير من المحللين لطرح تفسيرات مختلفة غالبا ما تكون غير بريئة كأن تتضمن أن هناك جهات تستفيد من وقوع الحادث لتتخلص من ملفات أخرى سببت لها الصداع في الفترة الأخيرة مثل ملف الانتفاضة وملف الانهيار الاقتصادي، فكالعادة تنشط الساحة اللبنانية في مثل هذه الأحداث وتمتلئ بالرؤى والمواقف المتعارضة. وكان بالإمكان تجنب هذا وغيره لو مارست الدولة اللبنانية مهامها في السابق لا أن تترك مهمة الوطن والعباد لما سميناه سابقا بالدولة الموازية أو البديلة. وأما الدرس الذي يجب أن تتعلمه الحكومات العربية فهو أن التهاون في التمسك بدور الدولة على كل الأصعدة لن يؤدى إلا إلى هدم المقدرات الوطنية وإقامة مجتمعات مأزومة لا تقوى على التقاط أنفاسها في ظل توالى النكبات. ولنا أن نتذكر كيف كان بالإمكان تجنب انفجار المرفأ لو كان هناك قدر ولو قليل من مظاهر وجود الدولة اللبنانية، وتجنب الكثير من الكوارث التي لحقت بالعراق وسوريا وليبيا، وأن الخطر كل الخطر هو التساهل مع صعود أي مظهر من مظاهر الدولة الموازية. لقد أصبحت منطقتنا العربية في أمس الاحتياج للحفاظ على الدولة الوطنية وتعظيم دورها في المستقبل.