أفكار وآراء

تجديد التفكير الديني والفلسفي عند إقبال

12 أغسطس 2020
12 أغسطس 2020

عبد الله العليان -

من الرؤى التي طرحها إقبال في الكتاب المشار إليه، والذي ترجمه الأستاذ عباس محمد العقاد، فتحدث المفكر إقبال عن إشكالية الانبهار بالغرب، بعد نهضته العلمية، وبعد اجتياحه الكثير من بقاع العالم الإسلامي، وهذا جعله أكثر اهتماما بمسألة بحث روح اليقظة وغرس الحيوية في أمة الإسلام للخروج من مأزقها.

أدرك الفيلسوف د. محمد إقبال، بعد سفره إلى أوروبا للدراسات العليا، والنهضة الكبيرة في الغرب، أهمية التفكير التجديدي للإصلاح الديني والفلسفي، في المجتمعات الإسلامية، للخروج من حالة الجمود والتأخر العلمي والفكري، وإقصاء الكثير من الأفكار والخرافات والعادات، التي تبتعد عن الفكر الإسلامي الصحيح، الذي ينهض بالأمة من سباتها وتراجعها على كل المستويات، بينما نهض الغرب وتقدم وأطلق حركة إصلاحية بعد صراع مرير مع أفكار القساوسة، الذين حاربوا العلم والاختراع والتحول من حالة الجمود التي حالت دون نهوضه، خاصة في نموذجه المتأخر لقرون عديدة، في الوقت الذي كان المسلمون، هم الأكثر تقدماً ونهضة قبل الغرب بعدة قرون، ولا شك أن المفكر محمد إقبال عاش الظروف واقعياً لدى المسلمين، وتألم لواقعهم المؤلم في هذه الأمة، وهي التي كانت أمة حضارة وعلم وتقدم في عصورها الزاهرة، والإسلام في نصوصه وقيمه نظرته دافعية للتقدم وليس العكس، وهذا ما جعل محمد إقبال، يضع الأفكار والرؤى لتقديم ما يراه محفزاً، للإسهام في خروج الأمة من واقعها وتخلفها، من خلال تجديد التفكير الديني، والخروج من واقع التخلف الذي سار فيه المسلمون لقرون كثيرة.

وهذا الواقع التي عاشته الأمة وتشرذمها، أشار إليه العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، وطرح الأسباب والعوامل التي أسهمت في واقع الأمة الإسلامية في عصره، لكن الفيلسوف محمد إقبال، اهتم كثيرا بمسألة التجديد في الأفكار، بما فيها تجديد التفكير الديني.

وقد أشرت في الأسبوع الماضي، إلى فلسفته الشهيرة (الذاتية)، والتي هي في أساسها نقد للواقع الذي تعيشه بعض الشعوب الإسلامية، وخاصة في القارة الهندية، ومحاولة التذكير بنقد الواقع، وتنبيه النخب الفكرية والسياسية، للتحرك والتفكير في واقعها المؤلم والصعب على أمة دين عظيم وحضارة كبيرة، ولذلك حدد إقبال المضامين والرؤى الفكرية والفلسفية في كتابه المعروف (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، من خلال نشاطاته ومحاضراته التي ألقاها في العديد من المدن الهندية، كما كان له دور سياسي في حزب الرابطة الذي تأسس في عام 1908، وكان له الدور المهم مع محمد علي جناح في قيام دولة باكستان الإسلامية.

ومن الرؤى التي طرحها إقبال في كتاب المشار إليه، والذي ترجمه الأستاذ عباس محمد العقاد، فتحدث المفكر إقبال عن إشكالية الانبهار بالغرب، بعد نهضته العلمية، وبعد اجتياحه الكثير من بقاع العالم الإسلامي، وهذا جعله أكثر اهتماما بمسألة بحث روح اليقظة وغرس الحيوية في أمة الإسلام للخروج من مأزقها، فيقول في هذا الكتاب: «إن الفلسفة اليونانية كانت قوة ثقافية عظيمة في تاريخ الإسلام، لكن التدقيق في درس القرآن الكريم، وفي تمحيص مقالات المتكلمين على اختلاف مدارسهم التي نشأت ملهمة بالفكر اليوناني، يكشفان عن حقيقة بارزة هي أن الفلسفة اليونانية، مع أنها وسعت النظر العقلي عند مفكري الإسلام، غشت على أبصارهم في فهم القرآن».

وهذه مسألة ناقشها الإمام الغزالي في كتابيه (مقاصد الفلاسفة)، و(تهافت الفلاسفة)، ولأن هذا النقد من إقبال لبعض فلاسفة الإسلام، كان موجهاً لمسألة جوهرية، وهي أن الفلسفة اليونانية تتناقض جوهرياً مع روح القرآن ورؤيته الفكرية، لكن بعضهم راجع بعض ما طرحه في نظرته للفلسفة اليونانية، وعاد ينهل من القرآن الكريم.

ومن الذين طرحوا مسألة أن القرآن ومضامينه التي تدعو للنظر والتدبر والتفكر، د. محمد يوسف موسى في رسالته للدكتوراه، من جامعة السوربون بفرنسا التي أعدها عام 1948، والتي حملت عنوان (القرآن والفلسفة)، ومما قاله في شأن هذا الأمر أن «القرآن بطبيعته وأسلوبه، وطريقة تناوله للمسائل أو المشاكل المختلفة يدعو للتفلسف، وأنه قابل لما هو حق من الآراء التي ذهب إليها المفكرون في هذه النواحي، وأنه لهذا كان كل أصحاب مذهب كلامي أو فلسفي في الإسلام يهتمون بأن يجدوا لمذاهبهم أسانيد من القرآن».

ومن الباحثين الذين اهتموا بفكر محمد إقبال وفلسفته، المفكر العربي السعودي أ. زكي الميلاد الذي له العديد من الدراسات والأبحاث في فكره، ومنها كتابه القيم (محمد إقبال وتجديد الفكر الديني)، إلى جانب بحثه القيم عن محمد إقبال، في كتابه (الإسلام والتجديد)، إلى جانب الكثير من المؤلفات والدراسات لعدد غير قليل من الباحثين، من مسلمين وغربيين، ويرى الأستاذ زكي الميلاد، إن كتاب: «(تجديد التفكير الديني في الإسلام )، هو كتاب فلسفي بامتياز، ومفعم بالمناقشات والتأويلات الفكرية والفلسفية، الدقيقة والعميقة، سواء التي تنتمي إلى ميادين الفلسفة الإسلامية، أو تلك التي تنتمي إلى ميادين الفلسفة الأوروبية الحديث. كما يمكن اعتباره يمثل الصلة بينهما من بعد فلسفة ابن رشد، حين مثلت هذه الفلسفة الرشيدة ولأول مرة نقطة التقاء وتفاعل الفلسفات الثلاث اليونانية التي عرفها تاريخ الفكر الإنساني، وهي الفلسفة اليونانية التي تنتمي إلى العصر القديم، والفلسفة الإسلامية التي تنتمي إلى العصر الوسيط، والفلسفة الأوروبية التي تنتمي إلى العصر الحديث، وهذه كانت عنصر القوة الدينامية في فلسفة ابن رشد».

ولذلك يرى الأستاذ الميلاد أن الفلسفة الغربية في نظرة محمد إقبال، ليست هي المرجع الذي ليس لنا بديل عنه في مجال التفلسف، ومن هنا فإن: «إقبالاً كان قاصداً مدركاً بقوله المأثور من فلسفة الإسلام، وليس فلسفة المسلمين، فقد أراد العودة إلى القرآن الكريم في اكتشاف فلسفته، وفي التعرف عليها، لكي يبرهن على أن منبع القرآن الكريم هو منبع فلسفته، وأن روح هذه الفلسفة وجوهرها يعارض الفلسفة اليونانية التي طلعت وشكلت فلسفة المسلمين».

والفكرة الأساسية للفيلسوف محمد إقبال، تتعلق بحث المسلمين على الانطلاق وعدم السكون للواقع كما عاشها واقعياً، خاصة أن الغرب هيمن على البعض فكرياً، وجعله يقبل رؤى ومنطلقات الرؤية الغربية في كل مجالات الحياة، ويرى د. محمد البهي في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وعلاقته بالاستعمار الغربي)، أن الفكرة الإصلاحية لإقبال، تريد أن تجعل من المسلم المعاصر، أن يتحرك: «من جديد إلى العمل وعدم التواكل.. يريد ـ إقبال ـ أن يدفعه عن طريق الإسلام نفسه إلى فهم أن العالم الذي نعيش فيه ليس أمراً مغايراً تماماً للإنسان نفسه، ولا بعيداً كل البعد عن روح الله ووجود ذاته المقدسة.. والإصلاح الديني -في مجال الإسلام بهذا المعنى- ذو صلة وثيقة بالعصر الذي يتم فيه، والفكر الذي يقوم بمحاولته، وبظروف الحياة التي عاش فيها هذا الفكر».

وقد كان هذا الاهتمام عند محمد إقبال، طريقاً بروح التجديد في الأمة المسلمة، وهذا الأمر، كما يقول د. حميدة النيفر كان هدف إقبال هو«الإسهام الحاسم في الدفع بالمفهوم التجديدي إلى السياق التأسيسي، والخروج به نهائياً من حالة الاستهجان، وما صاحبها من القلق والغموض، فقد كان محمد إقبال المفكر المسلم الأول، في الفترة الحديثة، الذي طرح على النخب العربية مسألة التجديد من الداخل الثقافي بقصد تأسيسها على فكر نسقيّ يعمل من أجل الوصول إلى آليات إنتاج معرفة جديدة، عبر حركة تبادل وتداول بين فكر قديم له تاريخيته، وفكر جديد له راهنتيه».

ولذلك تظل فلسفة المفكر محمد إقبال منارة علمية وفلسفية، فتحت الباب للتجديد الديني والفلسفي المعاصر، بهدف التحرك لنفض الغبار عن جمود الأمة وتخلفها العلمي والفكري، وتفعل ما فعلته الأمم الأخرى التي انطلقت بقوة إلى النهوض والتقدم.