أفكار وآراء

محمد إقبال والفلسفة الذاتية ونقيضها

10 أغسطس 2020
10 أغسطس 2020

عبد الله العليان -

لا شك أن الفيلسوف إقبال أدرك المخاطر التي تعيشها الشعوب المستعمرة، ومن هنا جاءت دعوته إلى غرس الفلسفة الذاتية، التي هي بمثابة الهوية عند كل الشعوب، عندما حاول الاستعمار تذويبها وإلحاقها، واستغلال الظروف التي تعيشها، ويعطي مقارنات، حتى أجل استلاب الذات.

يروي المفكر الإيراني د/‏علي شريعتي، في كتابه (العودة إلى الذات)، أنه في أحد الأيام جلس أحدهم إلى جواره في الطائرة، ويظهر من سحنته أنه فارسي، فقلت له: أعطني جريدتك، ورأيت أن لهجته قد أصبحت أوروبية بحيث لا يستطيع الحديث معي، وقلت في نفسي: بالقطع من كثرة ما أقام في الخارج نسي الفارسية، ولكن بعد ذلك لاحظت أن أحد الأوروبيين يطلب منه شيئاً فرأيت أنه أيضاً لا يعرف لغة أجنبية، انظروا للتظاهر.

كم رأينا من الناس قضوا سنتين، أو ثلاث سنوات في أوروبا، وبأي فخر يقولون إنهم نسوا الفارسية؟!

وأنا أرد عليهم قائلاً: أيها الأحمق، وأنت على القدر من الاستعداد بحيث تنسى في ثلاث سنوات اللغة التي تعلمتها في خمس وعشرين سنة، كيف إذن تعلمت اللغة الأجنبية في ثلاث سنوات ؟، ولذلك يعلق شريعتي على هذه القصة الغريبة، التي تبرز الهزيمة الفكرية، ومحاولة التحلل من الذات، إلى الآخر، دون أن يكون معرفة كافية الذاتية التي تستحق منا تقديرها واحترامها، ومنها ننطلق إلى ما حصلت عليه الأمم الأخرى، ومنها الغرب، فيقول: « ينبغي أن يفترق كل عن الآخر، على كل منا أن يعود إلى منزله، ولذلك على كل منا ـ نحن المفكرين ـ عندما نقول»:«فلنعد إلى ذواتنا» وكلنا مشتركون في هذا، على كل واحد منا أن يطرح أمام نفسه هذا السؤال: أي ذات؟

ولا شك أن فلسفة الذاتية، التي ينطلق منها المفكر والفيلسوف اللاهوري محمد إقبال تتلاقي وفق ما أشار إليها شريعتي في قصته في مسألة الذات والآخر، وهي فكرة الاعتزاز بالذاتية، وعدم التفريط في الهوية والتمسك بها، مع ما حاوله الآخر ـ الغرب ـ في طمس هذه «الذاتية»، في حالات كثيرة وقد أشار إلى ذلك د. إقبال في كتابه القيّم (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وكذلك في أشعاره التي جمعت في مؤلفات أخرى، ومنها (الأسرار والرموز) و(أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات)، ووجد إقبال بعد عودته من الغرب، والانتهاء من دراساته العلمية، وحصوله على الدكتوراه، في الفلسفة من ألمانيا، أن الغرب بدأ يسعى فعلياً إلى طمس الهوية في المجتمع الهندي، بكل طوائفه وأديانه، ودعا إلى الحذر من التغلغل الاستعماري، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية، التي تعيشها تلك الشعوب المسلمة في تلك القارة على الوجه الأخص، ولذلك سعى للتحرك في إلقاء المحاضرات والندوات الفكرية والأدبية، وطرح رؤيته الفلسفية والفكرية، ومنها فلسفته الشهيرة التي نسبت إليه، وهي (فلسفة الذاتية)، وهي كانت تدعو إلى شحذ الهمم، ونكرات الذات، والتضحية لتقوم الحياة على أسس إيجابية وفاعلة وسليمة، وكانت في جانبين: إصلاح بعض الأفكار والمفاهيم المغلوطة عن الدين، والتي تراكمت من خلال العادات والتقاليد غير المتقاربة، أو المخالفة، أو التي تتعارض مع القيم الدينية، والأخرى، التذكير بمخاطر تقليد الغرب في رؤيته الفكرية والثقافية، التي حاول فيها أن يضع الفكر الغربي وأسس حياته، هي التي تسود في هذه المجتمعات، كونها بقيت متمسكة بماضيها الفكري، لكي تتقدم كما قال، وقد طرح ذلك في محاضراته التي تم جمعها في كتاب (تجديد التفكير الديني)، كما أشرنا إليه.

ولا شك أن محمد إقبال درس الفلسفة الغربية دراسة عميقة ووافية، وأدرك تأثير الغرب بعد النهضة، في فكره وفلسفته المادية في غالبية مجالاتها، بعد صراعه مع الكنيسة، ولا شك أن الغرب استفاد من الحضارة الإسلامية، بعد اقترابه منها، سواء بعد الحروب الصليبية ومعرفة الشرق، وكذلك لقربه من حضارة الأندلس التي أقامها العرب، والتي كانت متقدمة في شتى العلوم الإنسانية، في الوقت الذي كان فيه الغرب متراجعاً في ميادين كثيرة، وهو ما عزز هجمته الكبيرة على الشعوب الأخرى في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، ولم يكتف بخيرات هذه المناطق بعد استعمارها، بل حاول اجتثاث التاريخ والقيم والتراث، والسيطرة التامة على هذه الشعوب بهدف تغريبها، بل وحتى اعتبر هذه الشعوب تحتاج أن تُستعمر، لأنها شعوب ـ كما قال بعضهم ـ بدائية في تكوينها، وهي نظرة شوفينية وغير أخلاقية، وهذا ما طرحه موريس توريز رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي ـ كما يقول د. جميل قاسم ـ:« إن الجزائريين والأفارقة ليسوا شعوباً، بل هم شعوب قيد التكوين، ولا بد من الاستعمار حتى يصيروا في أحضانه شعوباً متحضرة».

ولا شك أن الفيلسوف إقبال أدرك المخاطر التي تعيشها الشعوب المستعمرة، ومن هنا جاءت دعوته إلى غرس الفلسفة الذاتية، التي هي بمثابة الهوية عند كل الشعوب، عندما حاول الاستعمار تذويبها وإلحاقها، واستغلال الظروف التي تعيشها، ويعطي مقارنات، حتى أجل استلاب الذات.

كما أن الطلبة العرب والمسلمين، الذين درسوا في الغرب، فإن العديد منهم وقع في شباك التغريب، وأصبحوا مجرد صدى له، فيما يقول ويفكر، حتى كيف يأكل يعيش حياته العادية؟ وهذه تحتاج إلى حديث آخر، ويرى المفكر العربي الأستاذ زكي الميلاد، في كتابه (محمد إقبال وتجديد الفكر الديني)، فصل «إقبال والفلسفة الذاتية»، أن تجربة محمد إقبال، تعتبر من التجارب المهمة والمتميزة كأحد أعلام التجديد والإصلاح، بما قدمه الفيلسوف والمفكر، من أطروحات رائعة من الفهم والوعي للروح الإسلامية والمعرفة الفكرية المعاصرة في آن واحد، فلم تكن تجربته تجربة كما يقول الميلاد: «عادية أو سطحية، بل كانت تجارب شديدة العمق والفاعلية، كما لم تكن تجارب عبور وانتقال متعاقبة زمنا وتاريخاً، ولم تكن أيضاً تجارب منفصلة ومفككة، بل كانت تجارب متعاضدة وراسخة، انفتح عليها إقبال منذ وقت مبكر من حياته، وظل على تواصل معها، يتأمل فيها، ويجري المقارنات والمقاربات بينها، كاشفاً عن أبعادها وملامحها، وفاحصاً عن عناصرها ومكوناتها، ومختبراً حدودها وعلائقها».

وقد طرح الفيلسوف إقبال المفهوم الواضح والجلي لفلسفة الذاتية، كما عرضها في محاضراته وأشعاره، فيقول كتابه (الأسرار والرموز): «إن هدف الإنسان الديني والأخلاقي إثبات ذاته لا نفيها، وإن كماله على قدر إثبات ذاته وتمكين استقلاله، ومثله الأعلى هو الذات العليا التي يطمح كل فرد الى التخلق بأخلاقها كما جاء في الأثر، وتنقص ذاته على قدر بعده عن الخالق، وأكمل الناس أقربهم إلى الله تعالى».

وينطلق المفكر محمد إقبال، كما يرى زكي الميلاد في كتابه من رؤية دقيقة وواسعة الإدراك الفكري والروحي، بما تتضمنه هذه الرؤية من مضامين تتوسط الفهم الإسلامي الصحيح، وهذه كانت نتيجة من: «سبر أغوار المعرفة، ومن النظر والتأمل في فلسفات العالم، وكيف أنه بذل جهداً ذهنياً وروحياً حتى توصل إليها، في إشارة منه للدفاع عن فلسفته أمام ما يمكن أن يعترضها من مواقف قد تنتقص منها، أو تشكك فيها، سواء من المسلمين أو الأوروبيين».

من هذه المنطلقات الفلسفية والفكرية، ركز محمد إقبال على فلسفة الذاتية، باعتبارها رؤية لمواجهة الاستتباع الفكري الذي يراد له أن يتسّيد المشهد الفكري في الهند بصورة خاصة، والعالم الإسلام بصورة عامة، وقد أشار إلى التوجه من الفيلسوف محمد إقبال، ما ذكره د. حسن حنفي في كتابه (محمد إقبال.. فيلسوف الذاتية)، طرح المخاطر التي يسعى إليها الغرب، في تحويل المجتمعات، من أجل تذويبها، وجعلها نسخة مشوّهة منه، فيقول ناقلاً عن إقبال من خلاصة شعره بأنه: «قامت نظم التعليم على تقليد الغرب، والهيام به، ونفي الذات، وانتظار المعرفة من الغرب في الغذاء، أضاع التقليد الأمة، ومحا شخصيتها. وتحول المسلم من محطم الأصنام القديمة إلى مشّيد الأصنام الجديدة.. لم يأخذ المقلدون من الغرب إلا القشور دون اللباب، الزجاج المنكسر يغني عن وقود الذات، قلّد المسلمون الإفرنج وهم يطلبون السراب، ويظنوه كوثراً. والإفرنج أهل حقد وعداء لدين المسلمين».

ولا اعتقد أن مفكراً معاصراً عرف الغرب معرفة واقعية وفكرية، مثلما ما عرف إقبال الغرب، وتشرّب من فكره ورؤيته في شتى الجوانب، ومن هنا نجد ما يقوله دقيقاً بعيداً عن الأحكام المسبقة.. وللحديث بقية..