أفكار وآراء

تفجير ميناء بيروت .. وضرورة إنعاش التوافق اللبناني !

10 أغسطس 2020
10 أغسطس 2020

د. عبد الحميد الموافي -

إنها بالفعل كارثة .. وفاجعة كبيرة، ليس فقط لبيروت المدينة، وللبنان الدولة والمجتمع، ولكن للمنطقة من حولها أيضًا، فانفجار ميناء بيروت يوم الثلاثاء الماضي الرابع من أغسطس الجاري.

حتى لو كان حادثًا، وليس عملية تفجير تمت بشكل ما، ومن جانب جهة ما، قد تكشف عنها، أو تشير إليها التحقيقات التي بدأت بالفعل، أو التي قد تبدأ في الفترة القادمة، قد دفع بالجمهورية اللبنانية، وبلبنان المجتمع والشعب الشقيق إلى هاوية تزيد دون شك من مشكلاته وآلامه وتعقيد أوضاعه السياسية والاقتصادية والمالية، أكثر من أي وقت مضى. ومع كل مشاعر الألم حيال لبنان الشقيق، والتكاتف والتضامن مع الأشقاء اللبنانيين، ودون استباق لنتائج، أو حتى مؤشرات التحقيق الذي تقوم به السلطات اللبنانية، فإنه من الأهمية بمكان التوقف أمام عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: إن حجم الدمار والتخريب والخسائر، بشرية ومادية واجتماعية، أكثر هولًا وأعمق تأثيرًا، من تقديرات أي طرف، أو أية جهة مسؤولة، أو متورطة في هذا الحادث أو العملية الرهيبة، وكما قال رئيس مرفأ بيروت انه نبه لخطر شحنة «نترات الأمونيوم» الموجودة في الميناء منذ عام 2014، ولكنه لم يتصور أن «الخطر يمكن أن يصل إلى هذا الحجم»، صحيح أن نترات الأمونيوم تدخل في صناعة الأسمدة الكيماوية، ويستخدمها الإرهابيون في صنع العبوات الناسفة المصنعة يدويًا، لنسف سيارة على جانب طريق، أو لهدم جدار أو منزل، أو لقتل عنصر أو عناصر دورية أمنية ما، ولكن الصحيح أيضا هو أن تفجير 2750 طنا من هذه المادة، في مكان واحد ومرة واحدة، هو أمر مختلف تماما، حيث ولد الانفجار قوة تفجير تعادل زلزالا يصل في قوته إلى 3.3 درجة على مقياس ريختر، حسبما قالت مصادر أمريكية. فهل تورط طرف ما، من داخل لبنان أو من خارجه في حساب خاطئ بشأن تفجير هذه المادة شديدة الانفجار؟

ولماذا الآن في هذا التوقيت، الذي يواجه فيه لبنان أزمة اقتصادية وصحية واجتماعية وسياسية متفاقمة، ويزيدها تعقيدًا ترقب إعلان المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري لقراراتها وأحكامها بشأن المتورطين في قتله قبل خمسة عشر عامًا، وقد أجلت المحكمة الإعلان عن قراراتها إلى الثلاثاء القادم بسبب تفجير المرفأ. يضاف إلى ذلك انه في ظل الاتفاق العام حول حدوث انفجارين متتابعين، فلماذا حدث الانفجار الأول الصغير، الذي أعقبه الانفجار الهائل والمدمر، وما هي الأداة التي استخدمت في ذلك التفجير الأول؟

وما علاقة إسرائيل بذلك إذا كانت هناك علاقة ما، بغض النظر عن نفي إسرائيل لأية علاقة لها بانفجار الميناء، وهل لذلك علاقة بنية نتانياهو ضم أراض في الضفة الغربية المحتلة وتشتيت الانتباه العربي والإقليمي والدولي حوله؟

وإذا كان الرئيس اللبناني ميشيل عون قد طلب من الرئيس الفرنسي ماكرون - خلال زيارته لبيروت - إمداد لبنان بأية صور أو معلومات حول ما إذا كان هناك اعتداء خارجي سبّب التفجير، فإنه يمكن القول أن نفي كل الأطراف اللبنانية وغير اللبنانية أية علاقة لها بما حدث، وحرص كل منها على إظهار براءتها، بشكل أو بآخر، هو أمر سيزيد بالتأكيد من تعقيدات التحقيق اللبناني والتحقيق الدولي في حالة حدوثه، خاصة وان ميناء بيروت يشهد عمليات نشطة لتنظيفه وإزالة الركام والآثار التي تركها الانفجار الرهيب، وهو ما يعيد إلى الأذهان ما حدث في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، حيث تم تنظيف المكان، وإعادة رصفه خلال مدة وجيزة. وبعيدا عن أية إسقاطات فإن حرص كل الأطراف على إعلان براءتها مما حدث، والمشكلات الكبيرة لعمليات التحقيق، والمناخ السياسي المعقد، والشكوك المتبادلة، بل انعدام الثقة تقريبًا بين القوى السياسة اللبنانية، على امتداد الفترة الأخيرة، أدى إلى ظهور والإعلان عن تشكك عدة أطراف لبنانية في شفافية التحقيق الذي تقوم به السلطات اللبنانية، بل ومطالبة قوى سياسية لبنانية ذات ثقل ومجموعة من رؤساء الوزارات اللبنانية السابقة بإجراء تحقيق دولي لكشف كل الملابسات حول ما حدث والمسؤولين المتورطين فيه ومحاكمتهم.

ثانيا: إنه إذا كان من المفهوم أن يحرص كل طرف على تبييض صفحته، وحتى إنكار معطيات كانت معروفة على نطاق واسع بشأن إدارة ميناء بيروت ومطار بيروت الدولي، والسيطرة على بعض أجزائهما، واستخدامهما في التعامل مع الخارج لصالح جهة أو جهات سياسية لبنانية محددة، بعيدا عن الدولة اللبنانية، بغض النظر عن المبررات التي أعلنت بهذا الشأن، فإنه من الواضح أن هناك انقساما حول الجهة التي ينبغي أن تقوم بإجراء تحقيق شفاف وشامل، فالحكومة والرئيس عون وحزب الله تؤيد إجراء تحقيق لبناني في الحادث أو في عملية التفجير، وهو تحقيق بدأ بالفعل، وتشدد كل تلك الأطراف على ضرورة أن يكون نزيها وشفافا وقادرا على تقديم المسؤولين إلى المحاكمة وتلقي الجزاء العادل بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو مراكزهم السياسية، وتبرر الأطراف المؤيدة لإجراء تحقيق لبناني موقفها بأن التحقيق هو حق للسلطات اللبنانية وواجب عليها القيام به، وأن القيام بذلك هو أكثر سرعة وإنجازا للعدالة من تحقيق دولي يفتح المجال، أو قد يفتح المجال أمام تدخل خارجي في الشؤون والسيادة اللبنانية بشكل أو بآخر، فضلا عن حاجة التحقيق الدولي إلى وقت طويل والى تمويل كبير لا تتمكن لبنان الجريحة من توفيره، وما حدث بالنسبة لمحاكمة قتلة رفيق الحريري لا يزال ماثلا أمام الجميع.

أما الطرف الآخر المنادي والمؤيد لإجراء تحقيق دولي، وهو الطرف الذي يضم القوي السياسية اللبنانية السنية والمسيحية والدرزية، وكثيرًا من قوى المجتمع اللبناني وكذلك فرنسا، فإنه ينطلق من الرغبة في الوصول للحقائق وإعلانها، ومن التخوف من أن التحقيق اللبناني لن يتمكن أو قد لا يتمكن من تحديد المسؤولين أو المتورطين في التفجير، خاصة إذا كانوا شخصيات أو جهات نافذة سياسية أو تنفيذية، وأن الأمر أعمق وأوسع بكثير من مجموعة المسؤولين عن التخزين والصيانة في مرفأ بيروت، الذين تم احتجازهم بالفعل، أو مسؤولين آخرين رفيعي المستوى قد لا يمكن إدانتهم بشكل أو بآخر، خاصة في الظروف اللبنانية القائمة.

على أنه يمكن الإشارة إلى أن هناك طريقًا ثالثًا يتمثل في أنه يمكن إجراء تحقيق لبناني، وهو حق للدولة اللبنانية، على أن يكون محاطا بكل الضمانات التي تكفل له الشفافية والقدرة على الوصول إلى كل الحقائق الفعلية، وفي الوقت نفسه فإنه يمكن العمل لإجراء تحقيق دولي شامل في الكارثة للتعرف على كل أبعادها، ولاستعادة الثقة بين الأطراف اللبنانية وفي الشارع اللبناني أيضا، وان هناك عادة ضوابط وإجراءات تحمي السيادة اللبنانية، خاصة إذا تعاونت السلطات اللبنانية مع المحققين الدوليين، وهو أمر ممكن إذا أرادت تلك السلطات إتاحة الفرصة لإعلان كل الحقائق وتحديد المتورطين ومحاكمتهم، وبالطبع تحديد المسؤولية بشكل واضح وما إذا كانت هناك جهة خارجية متورطة أم لا، لأنه إذا كانت هناك جهة خارجية هي المتسببة في هذا الخراب، فإن للبنان الحق في مطالبتها بالتعويضات عن ذلك وهي تعويضات ضخمة في ظل الخسائر الهائلة التي حدثت.

ثالثا: إنه إذا كان الجميع يدرك أهمية وضرورة استعادة التماسك والتعاون المسؤول بين القوى اللبنانية جميعها، بشرط ألا يكون ذلك طريقا لتعويم المسؤولية أو للتغطية بأي شكل على شخصيات أو جهات سياسية متورطة، فإن تفجير ميناء بيروت يضع كل الأطراف اللبنانية، سياسية وطائفية ودينية واجتماعية وثقافية، أمام مسؤولياتها للعمل من أجل استعادة لبنان الدولة والمجتمع المتماسك والنظام السياسي الذي طالما استند على الرغبة المشتركة في التعايش معًا وبسلام واحترام متبادل دون اختطاف للدولة، أو للقرار اللبناني من جانب أي طرف، ولا لأي سبب. والمؤكد انه إذا ارتفعت كل الأطراف اللبنانية إلى مستوى المسؤولية الوطنية للحفاظ على لبنان، واستعادة دور الدولة في لبنان، فإن الطريق سيكون مفتوحًا أمام إصلاحات ضرورية، سياسية وتنظيمية ومالية، جرى الحديث عنها. وفي هذا المجال فإن ما أشار إليه الرئيس الفرنسي يظل على جانب كبير من الأهمية، مع إدراك الصعوبات والمشكلات التي تقف في طريق الإصلاح الحقيقي.

وإذا كان مستقبل لبنان يحتاج الآن إلى تضافر كل القوى اللبنانية، وبإخلاص من أجل بناء لبنان الجديد لصالح كل اللبنانيين، فإن الفترة الماضية أثبتت تماما مخاطر اختطاف الدولة اللبنانية أو محاولة التحكم المنفرد في قراراتها وسياساتها، وتحميلها عبء خيارات سياسية لا تحظى بإجماع وطني لبناني، وربما ترتهن لقوى إقليمية أو دولية ما. وإذا كان لبنان هو مرآة للمنطقة من حوله، فإن تفجير ميناء بيروت سيؤثر على المنطقة كلها من حوله وسيتوقف مدى ذلك على قدرة اللبنانيين على مواجهة الكارثة وإعادة بناء التوافق السياسي لهم من أجل لبنان المشترك خاصة أن الأمر ليس مساعدات من هنا أو هناك، ولكنه تحديد خيارات للمستقبل المشترك والتوافق الوطني عليها، واللبنانيون قادرون على ذلك، دون تدخل خارجي أو ارتهان لأية أطراف إقليمية أو دولية.