أفكار وآراء

ما بين المثقفين والتكنوقراط .. جدلية المقاربة المعرفية

09 أغسطس 2020
09 أغسطس 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

يمثل تعاظم نفوذ الخبراء أو التكنوقراط خطرًا باعتباره يمنحهم تدريجيًا حصريّة التفكير؛ ما يهدّد بنشوء نخبة جديدة تحتكر إنتاج الأفكار والمعرفة ثم السلطة في إقصاء تام لباقي الشعب من دوائر الفعل الحقيقي في الساحة السياسية وهو ما يتعارض مع جوهر الديمقراطية.

هل فقد المثقف دوره في المجتمع، وأصبح ينظر إليه على أنه «بياع كلام» حسب المثل؟

وإلى أي حد عززت المهنة من دور التكنوقراطي «الخبير» ليجد مكانه متسعا أكبر من اتساع خبرة الحياة؟

وعند أي نقطة سوف يلتقي الطرفان ليؤسسا منهجا معرفيا يستفيد منه المجتمع دون انتقاص حق أحدهما من الآخر؟

وأيهما يأتي أولا ليزيح مجموعة من الغمامات «الأدران» من عقول وقلوب المجتمع؟

وهل يمكن التسليم أن دور المثقف مرحليا؛ أي له فترة انتهاء؛ ويظل البقاء أبدا لدور التكنوقراطي؟

أما أن المسألة في حقيقتها هي تبادل أدوار؛ للمثقف فضل التأسيس؛ وللتكنوقراط فضل تكملة البناء والتعزيز؟

أسئلة كثيرة تفرض نفسها عند مناقشة جدلية العلاقة القائمة بين المثقف والتكنوقراط، وهي قضية ليست مفتعلة، ولكنها واقع ملموس، ولها تأثيرات على السياقات المعرفية، وخاصة تلك المتعلقة بالتخصص، ومدى أهمية الحرص على هذا التخصص دون آخر، وليس معنى ذلك أن دور المثقف قد انتهى بصورة مطلقة، وإنما ضبابية تحيط بهذا الدور خاصة في المواقف الصعبة التي تمر بها المجتمعات في أوقات الأزمات.

يمكن النظر إلى المقارنة بين المثقف والتكنوقراط؛ المأسورين أصلا بوضعهما المهني؛ وفق الأسئلة المطروحة أعلاه، على أنها مقارنة لا تحمل مفارقة موضوعية كبيرة، كلاهما تحركه المعرفة، والمعرفة هي مشروع حياة، كما يدركها الكثيرون، تبقى- ربما- الإشكالية في الفكر الموجه، والموظف لخدمة الحياة، فالمفكر ناقد بحد ذاته، ولا يستسيغ أن تبقى الحياة على نسق واحد مستمر طول الدهر، بينما تظل المهنة الموظفة للمعرفة ثابتة، وتعاني من استقرار دائم، ولذلك هناك كثير من الخبراء «التكنوقراط» ظلوا طوال مسيرتهم العملية مأسورين بمهنتهم المتموضعة على سياقات معرفية قديمة، تكاد تجاوزها الزمن، وخاصة في النظم السياسية التقليدية، التي لا تؤمن كثيرا بالفكر المبدع، حيث ترى فيه قلق التغيير المستمر، وهذه لحالها إشكالية موضوعية كبيرة، وهذا ما يبعث على التساؤل إن كان هناك خوف من المفكر، ولذلك يقال: «المثقف هو من يوظف رأس ماله الرمزي: أي علمه وثقافته اجتماعيا، أما التكنوقراط فيظل أسير وضعه المهني».

لا شك أن المهمة الرسولية التي يتبناها المثقف؛ يقينا؛ لن تكون حاضرة بالصورة الموضوعية المتوقعة، ذلك لأن جل الأفراد تبهرهم الصور الاحتفالية التي يتبناها الكثيرون من أصحاب المهن «التكنوقراط» فالنظر إلى وضع الطبيب أو المهندس غير النظر إلى الكاتب أو الأديب أو الروائي، ولذلك لا غرابة أن تجد قاعة لا تتسع لعدد أصابع اليد تقام فيها محاضرة، ولا تجد فيها إلا (10%) مملوءة من مساحة الفراغ الكلية، بينما تجد مسرحا يتسع للمئات مملوءا بـ (100%) لأن بطل المشهد أحد الفنانين، أو تجد مدرجات ملعب لكرة القدم يتسع للمئات، يحظى بذات الاهتمام، لأن ما يقدم في كلا المكانين ثقافة لإثارة المشاعر وتفريغها، ولست متيقنا لو أن أحد التكنوقراطين أقام محاضرة ما، هل سيكون وضعه أفضل من وضع المثقف؟

ومن الطرف التي تأتي في هذا السياق؛ حسب الفكرة أعلاه؛ والتي تروى دائما هي ما جرى بين الأديب نجيب محفوظ- رحمه الله- وإحدى الفنانات المصريات المعروفات في تلك الفترة، والنص المتداول كالتالي: «إن إحدى الفنانات المشهورات، مرت على الروائي العالمي نجيب محفوظ، وكان على الرصيف ينتظر مركبة أجرة، فتوقفت بجانبه وهي تقود مركبتها الضخمة، وقالت له: شوف الأدب عمل فيك أيه، يا سي محفوظ «بسخرية».

فرد عليها الأستاذ نجيب محفوظ؛ في الحال؛ «بحزم» وشوفي قلة الأدب عملت فيك إيه يا ستي».

يقول الأستاذ هشام علي وكيل وزارة الثقافة في اليمن- حوار في المأزق السياسي للثقافة؛ نشرته مجلة دبي الثقافية في العدد (118) مارس 2015م ما نصه: «بعد أن أدى المثقفون في الغرب مهامهم تركوا الأمر للتكنوقراط والمثقفين الاستشاريين، لم يعد هناك حاجة لديهم للمثقف الملتزم الذي تحدث عنه «جرامشي أو سارتر» وغيرهما من المفكرين في الستينيات، لقد أدى المثقفون في الغرب أدوارهم ومن ثم تحولوا إلى أساتذة في الجامعات ومستشارين في مؤسسات كبرى، نحن انتقلنا معهم إلى هذا الدور في الوقت الذي لم يؤد المثقفون لدينا أدوارهم كمثقفين ملتزمين قيم النهضة ملتحمين مع تطلعات المجتمع، قبل أن يتحولوا إلى خبراء يعملون لصالح السياسة وغيرها بما في ذلك المخابرات والقنوات الفضائية».

كثير من الأدباء والشعراء والمثقفين المعتنقين لفكر ما، ختموا حياتهم بمهر القلة، والفاقة، والعوز، وكثير منهم أيضا تم تكريمهم بعد مماتهم، وكثير منهم رمى بهم الدهر على الرصيف يتكففون الناس، وأصبحوا عبرة لمن يعتبر، ويُتداول دائما عبر صفحة الـ «واتس أب» صورا لعدد من علماء العراق المتخصصين في العلوم الفيزيائية والنووية، وهم يفترشون الأرصفة في بغداد وغيرها من المدن العراقية، حيث العوز والفاقة (إن كانت تلك الصور صحيحة) فهل أصحاب كل الرسالات سواء الرسالات السماوية، أو الرسالات الدنيوية مآلهم الهجران، والتحقير، ومقاضاتهم بالثمن البخس في هذه الحياة؟

إن كان الأمر كذلك فهذه مفارقات موضوعية في فهم الفكر، وبهذه المفارقات يبدو لي أن استصواب الفكر لمشروع الحياة، ليس يسيرا، ولذلك فغض الطرف عنه هو الطريق الأقرب لتجاوزه، وغض الطرف عنه معناه تجاوز مفكريه، ومنظريه، وهذه ستظل مثلمة لا يمكن ملء فراغها بأي حال من الأحوال، وأتصور أن هذا الأمر لو حصل، على أبناء المجتمع أن يجهزوا (جنائز) الوداع الأخير لمستقبل المجتمع.

يقول الدكتور عبدالحميد الأنصاري متحدثا في حوار صحفي لمجلة الدوحة، العدد (49) نوفمبر 2011م: «المثقف الحقيقي أو المصلح أو الداعية، هو ذلك الإنسان الذي يظل على خلاف دائم مع مجتمعه، استشرافا لمستقبل أفضل، فإذا خضع لسلطان الرأي العام - تملقا أو خوفا - انتفت عنه صفة المثقف، فالمثقف موقف وليس مجموعة من المعارف التي يحشو بها رأسه، والمثقف الحقيقي هو الذي يفكر مستقلا عن تأثيرات السلطة وعن غرائز الجماهير في الوقت ذاته».

تفرض الظروف الحياتية على الناس مواقف جديدة تتناسب وحالة الظرف الذي تمر به الحياة، يضاف إلى ذلك تطور الأداة، التي أوجدها الفكر لتنظيم مناخات الحياة المختلفة، ولذلك لم يعد واقع الناس يحتمل المثل والقيم؛ وإن كانت سامية؛ فهذه وحسب التعبير الدارج: «لا تؤكل عيش» ولئن كان المثقف يملك فكرا، فإن هذا الفكر، لا يعطى تصنيفا عاليا أكثر من أنه تنظير، والواقع قاس على الناس، لا يملأ فاهَ التنظير ذا الحمولة القيمية البحتة، ولعلنا نرى حرص المجتمع ككل، واتفاقه على أن التخصصات الفنية هي التي يجمع على واقعيتها وعمليتها الجميع، ويرون في باقي التخصصات النظرية على أنها تخصصات ليس لها مكان في الواقع، ومن يذهب إليها يضيع وقته وجهده، وهذا الإجماع الذي عليه الناس على امتداد الجغرافيا لم يأت من فراغ، وإنما يوثقه الواقع المعيش الذي يتقاسمه هؤلاء الناس كلهم، وبالتالي بهذه الجدلية القائمة هي ليست تنظيرا محضا لملأ فراغ لحوار لا بد أن يستمر، وإنما حوار تقتضيه الضرورة الحياتية التي يعيشها الناس بكل تفاصيلها.

وهنا أختم بقول هيثم سليماني؛ باحث في الشأن المغاربي؛ حسب موقع noonpost.com: «فحسب دافيد أيستلاند، يمثل تعاظم نفوذ الخبراء أو التكنوقراط خطرًا باعتباره يمنحهم تدريجيًا حصريّة التفكير؛ ما يهدّد بنشوء نخبة جديدة تحتكر إنتاج الأفكار والمعرفة ثم السلطة في إقصاء تام لباقي الشعب من دوائر الفعل الحقيقي في الساحة السياسية وهو ما يتعارض مع جوهر الديمقراطية. في الجهة المقابلة، برز تيار فكري يقوده باحثون في علم الاجتماع النقدي حاول إعادة تشكيل المعرفة حتى يكون سلطة أو نفوذًا مضادًا، وكان الهدف أن يتم تسليح أكثر ما يمكن من المجتمع بالآليات العلمية التي تساعد على النقد والفعل (...) ويضيف: «وخلال حقبة الحرب الباردة، استأثر المُثقفون بالشأن العام وخاصة الفلاسفة والمؤرخون الذين انحصرت مهمتهم في تقديم تصورات عامة إما اشتراكية أو ليبرالية حول السياسة والتطور؛ أما اليوم، فيشهد المثقف منافسة من الباحث أو الخبير التقني وخاصة الباحث الاجتماعي والخبير الاقتصادي حول امتلاك المعرفة والحقيقة».