أفكار وآراء

تغرينا المفاهيم .. تخذلنا الممارسة

19 يوليو 2020
19 يوليو 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

نختلف أو نتفق، تبقى المفاهيم في كثير من مراحلها الزمنية، هي مسلمات قابلة للأخذ والرد، ويرى فيها بعض المفكرين ومنهم الأستاذ أحمد سعيد «أدونيس» أن المسلمات يجب أن تخضع لطرح الأسئلة، وأنه لا ضرر من دخولها المختبر، لأنها بخلاف ذلك تنشئ هذه المسلمات غلافا يحول دون طرح الأسئلة.

حياتنا مليئة بالمفاهيم العامة والخاصة، ومنذ نعومة أظفارنا ونحن نتشرب هذه المفاهيم، أو تحشر في ذاكرتنا الطفولية من قبل القائمين على تربيتنا، ولذلك فنحن نضعها عناوين عريضة لكثير من توجهاتنا نحو الحياة، بل ونتخذها ذريعة؛ في بعض الأحيان؛ عندما نجد أنفسنا محاصرين من قبل الآخرين حول خطأ ارتكبناه، أو ممارسة خاطئة قمنا بها؛ لأن المفهوم المسلم بحقيقته النظرية يذهب إلى حقيقة ما نقوم به من ممارسات، وهكذا نستمرئ الخطأ اعتماد على فهمنا لمجموعة هذه المفاهيم التي تكبل أنشطتنا، أو تعطينا دافعا معنويا لمواصلة النشاط نفسه، ولو تتم ممارسته بغباء في بعض الأحيان، فالصداقة، والأمانة، والكرم، والمجتمع، والقبيلة، والتاريخ، والتضامن المجتمعي، والمجتمع المدني، والقانون، والمساواة، والحرية، والعدالة، والقرابة، والرحم، والتعاون، هذه وغيرها الكثير كلها مفاهيم تحمل بين سطورها الكثير من الممارسات الصحيحة والخاطئة، وبقدر أهميتها في حياتنا، وما تعنيه لنا من مناخات الهوية والانتماء، وتعميق الجذور، إلا أنها وفي جوانب أخرى تظل ممارسات ندفع ثمن نتائجها بكلفة عالية، ولذلك يصل البعض منا إلى إنكارها، ونبذها، ويرى في استمرار تبنيها فوق ما يحتمله ظرف الحياة في الزمن الذي يعيشه، ولذلك يشق عصا الطاعة فيها، ويذهب ليبحث عن بديل، وأقرب البدلاء هو الهروب منها، ومن التزاماتها، والتحرر كليا من عوالقها، فهل تمارس أنفسنا دور اللصوصية، فتسرق منا أحلامنا في هذا الجانب بالذات؟ فالمفاهيم هي الأخرى أحلام نود تحقيقها على واقعنا، فمن منا لا يحلم بالمساواة؟ ومن منا لا يحلم بالعدالة؟ ومن منا لا يحلم بأن يكون كريما أمينا؟ ومن منا لا يحلم بصديق مخلص؟ ومن منا لا يحلم بأن يعيش في مجتمع تتحقق فيه المدنية؟ ومن منا لا يحلم بأن يتسيد القانون جميع مجريات حياته؟ ومن منا لا يحلم بأن يعيش في مجتمع متضامن مع آخرين من حوله في كل شؤون الحياة اليومية؟ ومن منا لا يود أن يرى في القربى والرحم ذلك الامتداد الطبيعي لعلاقات نشأت منذ مئات السنين؟ ومن منا لا يحلم بالحرية الطبيعية يتبادلها مع آخرين من حوله «لا ضرر ولا ضرار»؟

فهذه المناخات كلها؛ في واقع الأمر؛ تظل أحلاما، وتحققها من خلال السياق الطبيعي يظل أمرا في غاية الصعوبة، فالممارسات تنبئ عن غير ذلك تماما، وإذا حدث أن اقتربت بعض الممارسات في المفهوم الحقيقي لهذا العنوان أو ذاك، فإن النتائج تكون مشوهة، ولا تعبر إطلاقا عن روح المفهوم، ولذلك؛ في كل مرة، نعود إلى مربعنا الأول، حيث البداية من جديد.

هنا يجب التأكيد على أن المفاهيم صور ذهنية، ولذلك تأتي مناقشتها من هذا الجانب، فهي ليس مواد ملموسة، وربما لهذا السبب يكون التناقض بين المفهوم وممارسته، مع التسليم بأن النتائج هي التي يمكن أن تكون مادية ملموسة على هيئة مشاريع حياة مختلفة، وليتخيل أحدنا هذه المفارقة الموضوعية بين المفهوم والممارسة، وكيفية التوفيق بينهما، ومن هنا أيضا تأتي أهمية تأصيل هذه المفاهيم منذ بدء وعينا بالحياة؛ ونحن لا نزال بين أحضان أسرنا؛ نتلقى الكثير من المفاهيم الخاصة بالحياة اليومية، ومع البدء دائما تبقى مفاهيم القيم هي المسيطرة في تلقين الآباء للأبناء كواجب تربوي «مهم» وكما يقول الشاعر: «وينشئ ناشئ الفتيان منا... على ما كان عوده أبوه»، ومع ترقي استيعابنا للحياة أكثر تبدأ حالات التناقض بين المفهوم والممارسة مع بدء الوعي الفردي الخاص به، أي خارج إطار المجموع، أو الجماعة (الأسرة وغيرها من محاضن التربية) حيث تنفصل الإرادة الجماعية، وتتوزع على الأفراد بصورة فطرية، غير مقننة، لأن كل فرد يبدأ حالة من المقارنات والمقاربات، وتوليد الأفكار، وذلك نوعا من الإحساس بالاستقلالية والخصوصية الفردية، ومن هنا تبدأ المفاهيم تتماهى في قناعات الأفراد كل على حدة، ولا يكون للإرادة الجماعية دور«تسلطي» كما كان في بداية التنشئة، حيث تلعب محاضن التربية: (الأسرة، المدرسة، المسجد، المجتمع، الإعلام، قادة الرأي، مجموعات الضغط) دورا محوريا في الترويج للمفاهيم؛ كل في مجال اختصاصه، وكل طرف من هذه الأطراف يحاول جاهدا في إيقاظ الهمم لتقبل مفاهيمها الخاصة بها، وحشد التأييد لها، وبالتالي استخدام كل الوسائل المتاحة لتأصيل المفهوم، وبقائه كمفهوم على الأقل، بغض النظر عن ما سوف تنتج عنه الممارسات بعد ذلك، للإيمان الموجود أن الممارسات كثيرا ما تخرج عن سياقات المفاهيم الداعية إلى تجريدية الممارسة حسب ما يذهب إليه المفهوم، ومن هنا؛ على ما يبدو؛ أن مجموعة الانفصامات التي تحدث، أو ما يسمى بصراع الأجيال، تبدأ حالات التفكك، ويذهب كل جيل بما يؤمن به، لا بما يملى عليه، وبالتالي، وفي ظل هذه التنازعات الحادثة في ميادين القناعات تظهر النتائج مخيبة للمؤسسين، ولكنها تسجل حضورا متميزا للمتبنين لأفكارهم الحداثوية، المتناسقة مع أزمنتها، لا أزمنة المؤسسين، وهذا الصورة؛ على الرغم من توالي تكرارها على المشهد العام في كل المجتمعات، إلا أنها لا تلقى ذلك الارتياح في كل مرة، وكأن الحديث حولها يتجدد باستمرار، في حالة من التكرار.

نختلف أو نتفق تبقى المفاهيم في كثير من مراحلها الزمنية، هي مسلمات قابلة للأخذ والرد، ويرى فيها بعض المفكرين ومنهم الأستاذ علي أحمد سعيد «أدونيس» أن المسلمات يجب أن تخضع لطرح الأسئلة، وأنه لا ضرر من دخولها المختبر، لأنها بخلاف ذلك تُنشئ هذه المسلمات غلافا يحول دون طرح الأسئلة، يقول: «فما لم نطرح أسئلة تطال المسلمات، لا يمكن أن ننتج فكرا، لأن المسلمات تلغي الأسئلة وتحجر على الفكر (...) لهذا كله إذا لم نزلزل المسلمات بأسئلتنا سنتحول إلى مجموعة من العبيد، افعل هذا ولا تفعل ذلك!» (أدونيس- علي أحمد سعيد، متحدثا إلى «دبي الثقافية»- العدد 80 يناير 2012م.

هناك من يرى أن تجذير المفاهيم مرحلة مهمة للبقاء على الهويات، والنظم السياسية؛ بشكل عام؛ تحرص كثيرا على تأصيل هذا التجذير ولا تتنازل عنه، ولو كلفها ذلك الكثير من الإنفاق، لأن الهويات تبقى دائما هي الحصن الحصين لبقاء الأنظمة، والأنظمة دائما تستمد قوتها من شعوبها التي تؤمن ببرامجها، وتضحي بالكثر مقابل أن يبقى النظام ماكنا، ومتأصلا، وهذا يحتاج كثيرا إلى الإيمان بالهوية، ولذلك يمكن فهم هذه الخاصية بالنظر إلى الشعوب التي لا تحتكم إلى هويات متجذرة، حيث التماهي الوطني الخطير، فالمفاهيم ذاتها تلعب هذا الدور؛ لذلك تحرص محاضن التربية على تموضعها عند القيم- على وجه الخصوص- ومن هنا يأتي النداء النمطي: «من ليس له ماضٍ؛ ليس له حاضر» مع أن التسليم بهذا الفهم بصورة مطلقة، فيه ما فيه من الالتباس على صعيد الواقع الذي يعيشه الفرد في أي مجتمع، هناك مرحلة انتقالية يعيشها كل فرد سوي، هذه المرحلة؛ وهي خطيرة جدا؛ تتيح لهذا الفرد أو ذاك أن يعقد مقارنات، ويقف على مقاربات، واصفها بـ «الخطيرة» لأنها تأتي بعد استيعاب المفاهيم، بحيث تصبح عند الفرد القدرة على تكييف نفسه، ووعيه، وقناعاته للبقاء على روح المفاهيم، أو الخروج عنها، حيث يعمل العقل الباطن دورا محوريا هنا، وقد يوجد نوعا من ردات الفعل غير المتوقعة على مستوى الفرد نفسه، خاصة عندما يصل إلى عدم القدرة على استيعاب مجموع التناقضات التي تحدث بين حقيقة المفهوم، وبين نقيضه في الممارسة على أرض الواقع، وهذه إشكالية موضوعية في السياق ذاته.

أختم هنا بمثال المساواة بين المفهوم والتطبيق، فالمساواة لا تتوافق مع العدالة، وثمة مثال حي يمكن المقاربة به في هذا الجانب، فلو اتخذت المدرسة مبدأ المساواة في نتائج الصفوف الدراسية في مرحلة ما، فإنها سوف تكافئ المهمل، وتظلم المجتهد، ويمكن تمرير هذا المثال على أمثلة كثيرة في الحياة، وهذا أمر لا يمكن قبوله، في وجود أفراد تتحقق عندهم الكفاءات بصورة عالية، وسامية، وآخرون لا يملكون النذر اليسير من هذه الاستعدادات كلها، وإذا كان أمر المساواة قائم في المجتمعات التقليدية، على مفهوم «جبر الخواطر» فإن هذا لا يمكن أن يكون في المجتمعات الآلية المدنية، كما يرى البعض أنه «في المجتمعات الريفية التقليدية تتحقق عناصر التضامن والوعي من خلال وسائل الضبط غير الرسمية، أما المجتمعات العضوية (المدنية الحضرية) فيكون من الصعوبة تحقيق الاتفاق في المعتقدات ولذا لا بد من سن قوانين تنظم الكيفية التي يتم بها التعامل بين الأفراد والجماعات». (جلبي، 1999).