32r
32r
الثقافة

مرفأ قراءة... نماذج بشرية لمحمد مندور متعة النقد

19 يوليو 2020
19 يوليو 2020

إيهاب الملاح

  • 1 -

    مهما كبرنا ومرت علينا الأيام والأعوام؛ ثمة كتب بعينها تحظى بمكانة خاصة وفريدة لا يحظى بها غيرها، ربما لاعتبارات الموضوع وربما لاعتبارات الحالة الذهنية والنفسية التي تلقينا فيها هذا الكتاب أو ذاك وفق تفاعلنا معه أثناء القراءة؛ واستجابتنا له حوارًا ومناقشة وإثارة للذهن أو ربما لأنه كان محرضا على اجتياز باب من أبواب المعرفة التي لا تنتهي في رحلة حياتنا المقدرة. ولكل منا قائمة كتب خاصة تتسع لعشرات العناوين التي قرأناها في مراحل مختلفة من العمر، وفي فترات الطلب والدرس التي كانت تذكيها حماسة الشباب وطموحات المستقبل!

    تداعت على ذهني كل هذه التأملات والشجون وأنا أمسك بيدي نسخة جديدة من كتاب "نماذج بشرية" الذي أصدرته في طبعة جديدة دار نهضة مصر، بعد ما يزيد على نصف القرن من صدور طبعته الأولى. وكان هذا الكتاب السبب الرئيسي والمباشر في أن أغتوي بالنقد وأقع في غرامه حتى اللحظة!

  • 2-

    كان أول كتاب وقع تحت يدي لمندور "في الأدب والنقد"؛ كتاب صغير صادر عن دار نهضة مصر، قرأته قبل دخولي الجامعة، كان كتابا بسيطا وسهلا يعرِض لبعض القضايا العامة والمفاهيم المتصلة بالأدب والنقد، ويقدم معرفة أولية شائقة للمقبل على الدراسة الأدبية، لكنه لم يكن الكتاب الذي يربطني بصلة قوية بصاحبه، أو يجعلني مهتما بتتبع باقي مؤلفاته.

    لكن الأمر تغير تماما مع قراءتي لكتاب "نماذج بشرية"، أجمل وأمتع ما كتب المرحوم محمد مندور، وهو أحبّ كتبه إلى قلبي دون منازع (صدرت طبعة منه في مكتبة الأسرة عام 1996، وكتب له مقدمة طويلة الناقد الراحل رجاء النقاش)، ولو يعلم قارئي الكريم مدى أثر هذا الكتاب علي وعلى حياتي كلها لاندهش غاية الاندهاش والتعجب!

    كانت قراءة الكتاب تحديدا في 1996 سببا رئيسيا في حسم قراري النهائي بالالتحاق بكلية الآداب، ودراسة الأدب واللغة العربية؛ مثل محمد مندور، ومثل أستاذه طه حسين.. صدر الكتاب للمرة الأولى في 1951 عن مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، متضمنا تحليلا وافيا لأربعة عشر نموذجًا بشريًا (يزيد عليها ستة ليصبح المجموع عشرين نموذجا)؛ من أشهر نماذج الأدب العالمي وكلاسيكياته وعيونه الكبرى.

    أذهلني أن الأثر نفسه الذي تركه الكتاب في نفسي وروحي يكاد يكون هو ذاته الذي تحقق بحذافيره في نفس كاتب كبير بقيمة المرحوم علاء الديب الذي سجل حرفا ما نصه:

    ""نماذج بشرية" كتاب فريد في نوعه وقيمته وتأثيره، قرأت الكتاب قبل أن أنهي دراستي الثانوية، كان هو الباب الذهبي الذي دخلت منه إلى العالم السحري الذي ما زلت أعيش فيه وأتمنى ألا أخرج منه إلى نهاية العمر: عالم الأدب، أو العالم كما يراه الأدباء، ويعيدون خلقه على الورق، علمني حب القراءة، حب البحث عن المعنى والحب والتحقق كما يصنعها الكتاب والمفكرون: هنا، وفي أي مكان لكي يعيدوا ترتيب الصخب والارتباك الذي يعيشه مراهق يبحث له في الحياة عن طريق".

  • 3 -

    كنت ألتهم السطور والفصول التهامًا، لا أكترث لشيء أو أهتم لأمر سوى ما حملته فصول الكتاب من متعة لا تدانيها متعة، ومن بين فصول الكتاب الممتعة جميعا، استوقفني الفصل المسمى "جفروش"، و"جفروش" هذا، هو طفل باريس المشرد في الشوارع، الذي اندس في إحدى الثورات الفرنسية بين الصفوف الغاضبة الصاخبة، فدخل مستودعا للأسلحة وسرق منه "طبنجة" وجد أنها بدون زناد، فتركها جانبا. كان يحمس المقاتلين الثائرين، ويتغنى معهم بالنشيد الفرنسي الوطني، يتنقل بين صفوفهم، ويحثهم على القتال، ويقيم معهم الحواجز التي تحميهم. ويتركهم حينا ليتحول للأزقة، يحطم مصابيحها بالحجارة، ويجد حمّالا ثملا يسوق عربة فيأخذها ويسوقها مرسلا ضجة تلفت نظر البوليس، فيدفعها بين أرجلهم ويهرب.

    ولم أكن أتخيل للحظة وأنا أقرأ عن شخصية الثائر الصغير "جفروش" في رائعة فيكتور هوجو "البؤساء" أنني سأبكي كل هذا البكاء، وأتأثر كل هذا التأثر ويبلغ مني الحزن مبلغ الاكتئاب والانزواء كأن هذا ال"جفروش" من لحم ودم تربطني به أواصر القربى والنسب. وفهمت ما كان يقصده مندور حين كتب في صفحات الكتاب الأولى:

    "قد يبدو غريباً أن نترك النماذج المشهورة كدون كيشوت، وهملت، وفاوست، لنبدأ "بجفروش"؛ "جفروش" طفل في الثالثة عشرة من عمره، يظهر ويختفي بعد أن تبدأ رواية "البؤساء" لهيجو وقبل أن تنتهي، فلا هو بطل الرواية ولا هو مدارها، ولكنني رغم ذلك أحب هذا الطفل وأفضله على الرجال، حتى إنني أقعدني المرض أياماً فلم أجد جليساً تستريح إليه النفس خيراً منه.

    لقد سئمت منطق البشر وأصبحت أرثي لذلك الفيلسوف الجليل "أفلاطون" الذي غذَّي شبابي بما في الخير والحق من جمال، لا أدري هل ضل الرجل عندما زعم أن النفوس لا يمكن إلا أن تعشق الخير والحق إن أبصرت بهما، أم يخادع الناس أنفسهم ويخادعون الغير عندما يتحدثون عن الخير والحق؟ من يدرينا؟ قد لا يكون هذا ولا ذاك وإنما هو عبث بالألفاظ وإخراج للغة عما خلقت له من حمل معاني النفوس ونفثات القلوب، ولكم من مرة حدثتني النفس أن اختراع اللغة هو أقسي ما نزل بالبشر من كوارث".

  • 4 -

    هل النقد جميل وممتع هكذا؟ لماذا إذن يتهمونه بالصعوبة والبعد عن الناس؟

    إن كان النقد هكذا فأهلا به وألف مرحب، هذه كتابة جميلة عن نصوص جميلة، وشخصيات أجمل وأروع، خلقها كتابها الخالدون على الورق فاستمدوا من عظمة هؤلاء الكتاب خلودا مماثلا وروعة متجددة وحياة باقية،

    كان "نماذج بشرية" فتحا عظيما وهائلا على روائع الأدب العالمي ونصوصه الكبرى، انفتحت الشهية على مصراعيها لقراءة كل النصوص التي أوردها محمد مندور في كتابه؛ "البؤساء" و"دون كيشوت"، و"فاوست"، و"هاملت"، و"الكوميديا الإلهية"، و"روبنصن كروزو"، و"الملك لير"، وغيرها من النصوص العظيمة.

    يستشهد المرحوم محمد مندور بالكاتب الإيطالي الشهير بيراندللو Pirandello وعمله المسرحي الأشهر "ست شخصيات تبحث عن مؤلف يبرزها إلى الوجود"، ويرى فيه نموذجا لـ معنى الخلق في الأدب. ولكم من شخصية لا تزال مبعثرة غامضة حائرة، حتى يتاح لها مؤلف يجمع أشتاتها ويوضح معالمها ويدعم حياتها، فإذا هي أبقى على الزمن من البشر، وإذا بها تجتاز الأجيال مستقلة الوجود في مأمن من الفناء، لأنها أعمق في الحياة في كل حي، وأصدق دلالة من كل واقع.

    يتجلى صوت "قلب" مندور الحقيقي، وثورة عقله كما لم تتجل في كل أعماله، يتجلى أكثر بريقاً ووضوحاً في كتابه "نماذج بشرية"، فيه تقرير واضح شفاف للدور الإنساني الذي يلعبه الأدب في تقدم المجتمع، وفهم شخصية وتطور الإنسان.

    المعاني والقيم والأفكار التي يستخرجها مندور من أكثر من عشرين نموذجاً بشرياً من خلق الأدباء والمفكرين تكاد تصنع دليلاً يشرح تطور العقل والفكر الإنساني من اليونان القديمة حتى الآداب الحديثة.

  • 5 -

    ما هذا بناقد، إنه مبدع ساحر يمتلك المقدرة على سحبك سحبا لمتابعة كل كلمة وحرف يكتبه، لا تعقيد أو غموض أو إلغاز، كتابة واضحة وسهلة وناصعة وبسيطة، تحمل من الوضوح قدر ما تحمل من نظرات الفكر والتأمل وبدائع التفسير ووفرة التحليلات، وبقدر سلاستها وانسيايبتها بقدر الكم الهائل من الرؤى والنقدات النافذة التي تحتويها الفصول. خرجت من قراءة الكتاب وأنا مبهور الأنفاس لا أكاد أصدق أن هناك جمالا كهذا ومتعة كتلك.

    وكان هذا الكتاب عقد اتفاق بيني وبين مندور لم ينقطع ولن ينقطع، أبحث عن كل ما كتب وأستقصي إنتاجه الغزير، للمتعة وحدها ولا شيء آخر. فليحيا النقد الجميل!