ثب
ثب
الثقافة

« مقامات » .. كورونا والدرس الكوني

19 يوليو 2020
19 يوليو 2020

فاطمة الشيدي

بعد زمن من كل شيء تدرك حقيقته، تفهم غاياته، وتتفهم الحكمة منه، تستوعب ماورائيات الوضوح، الرسالة الضمنية التي تحتاج فك شيفراتها، وقراءة أسرارها الخفية، وتتبع عمقها غير المباشر.

البدايات الفجة ترعبك، اختلال موازين حياتك يقلق سكونك الداخلي، ويهز اعتياداتك، يغيّر تفاصيل عبورك، فالناس "أعداء لما جهلوا"، تربكك العزلة ويخيفك اللقاء المباشر مع ذاتك التي تهرب منها أبدا لتبدد حمّى ذلك اللقاء وسخونته في البهرج الخارجي، في الضجيج في الثرثرة، تتصاعد أوجاعك لأنك لا تصاحبها ولا تعانقها ولا تعرف كيف تجلس بين يديها، تعتبر -كالجميع- العزلة آثمة وظلالها الملل والكدر.

بعد زمن من التأمل من تبديل الاعتيادات باعتيادات، من السكون تحت غطاء الداخل تدرك جمال الأشياء؛ عمقها الموارب، وحقيقتها المدهشة، الحقيقة التي تحتاج للتأمل دائما، للولوج عميقا، للصمت المتزن في مقابل الثرثرة الرعناء، تصلك الحكمة الحكيمة أخيرا؛ إذا جاء كورونا بعزلته المقيتة ورعبه المميت ليصالحنا مع ذواتنا، ليقدم لنا درسا مهما في العلاقة مع الله والذات والآخر والكون. ليعلمنا أن الحياة ليست كما تبدو في خارجنا، ليست تلك التفاصيل التي نحياها ونركض خلفها فتربكنا وكثيرا ما نعجز عن اللحاق بها، وأنها ليست تلك الأهواء والرغبات والأحلام التي نلهث لتحقيقها، بل الحياة في حقيقتها هي رحلتنا الداخلية، تلك الرحلة الطويلة من الخير والجمال والمحبة والسلام.

رحلة لا تمثّل أعمارنا ولا تبدأ مع ميلادنا، بل هي ولادة ثانية، ولادة جديدة وربما ولادات متعددة، لا تعرف متى بدأت لكنك تعرف إن وصلت إليها أنك تدرجت فيها بالتأمل والسفر الروحي وأنك بها وعبرها استوعبت الكون واستسغت لذة الوجود، وأنها ممتدة على طول عمرك المتبقي والتي لانعرف متى سيتوقف.

إنها رحلة صوفية، عذبة، رحلة السلام في الوجود، وصداقة الطبيعة واستبصار روح الكون والاتحاد معها، تلك الحال التي إن وصلت إليها توهجت الروح وتأجج الجمال والسكينة والرضا.

رحلة تبدأ من الصمت الذي تلمس به الروح المفتونة بالجمال مجسات الكون وتتحسس أوردته وتعرجاته، فتتحد مع روحه وكائناته وتغمرها المحبة والسلام.

الرحلة التي تجعل الروح الطيبة تعرج في مسارات الضوء فتشع، وتسري عبرها موسيقى الإنسانية في كل مفاصل الوجود.

تلك الرحلة العظيمة التي تجعلك مكتفيا بذاتك، مفتونا بالجمال، متشبعا بالمحبة، تبدأ يومك بالموسيقى ثم تهم بالتحليق في ردهات الكون كطائر صغير يرفرف ليطير، ويتنفس بعمق ليحيا. تتحرك وتتمايل كسمكة تتعشق الماء، وتركن للأرض كشجرة عملاقة تمد جذورها عميقا راسخة في الكينونة ثابتة في معنى الوجود؛ تمتص النَسغ في نُسغها الممتدة في الأرض، وتحرك أوراقها في قلب الهواء لتهفهف على كل ما حولها عطاء وحبا.

تلك الرحلة التي تجعلك دائما هادئا ثابتا تبحث عن السعادة في الداخل متحدا مع الخارج مئتلفا مع روح الكون والكائنات لأنك ببساطة مثلها جزء من الطبيعة، ولست سيدها بل ثمة علاقة وطيدة نفعية/عشقية بينكما تعطيها الماء والغذاء وتهبك الطعام والجمال والسلام والفرح، وكل خلل تحدثه فيها سيعود عليك، هي تحركك وتتحرك معك، وما أن تعتدي عليها أو على نواميسها حتى تغضب وتغير قوانينها ضدك، وتشحذ كائناتها.

الرحلة التي تجعلك تهرب لنور الداخل من عتمة الخارج، للصدق من الكذب، وللوفاء من الغدر، وللسلام من حروب طاحنة ومعارك وهمية يفتعلها البشر بلا وعي وبلا غايات أحيانا كثيرة. تهرب للعالي والرفيع من كل شيء من الكلمات والأفعال والقيم والكائنات.

الرحلة التي تجعلك تدرك أنك أنوات كثيرة، ذاكرات متعددة، صلوات كثيرة، أطفال، وأمهات ونساء طيبات، وكبار يتلمّسون الحب بأيديهم وأشجار وأغاني وابتسامات ودموع وفرح وكدر، تدرك أن كل شيء هو معلّم روحي وأن الرب كبير أكبر من البشر والغايات والمسميات والأديان وأنه روح الكون العليا والغاية الأسمى، وأن إشارات الرشد كثيرة ولكن الطريق واحد وإن كان طويلا أو متفرعا.

الرحلة التي تجعل روحك تهيم بالجمال لتسمو، وتتشظى في الشعر لتدنو، وترق وترهف مع الموسيقى لتتصاعد وتنحت من المعنى حياة، وتتعلم من الكتب ومن التجارب الإنسانية لذة الألم وحلاوة الضياع في المسارات المتعددة والطرق الواسعة لتجلو الصدأ ويشف الفؤاد.

ولأن الرحلة أهم من الوصول فلاشيء يضجر روحك، ولا شيء يرهقها فكل شيء يعلّمها ويهديها ويرفعها ويدنيها من المحبة والنور، بل حتى الموت يصبح جزءا من الرحلة التي حياتك ما إلا محطة صغيرة من الطريق الممتد، ولذا تحب وتغفر وتهب ذاتك كاملة، وتوقر كل ما على الأرض، وكل من يأتي بخير وجمال، تدرك أن الآخر ليس الجحيم بقدر ماهو شريك العبور ورفيق الرحلة وحارس الجمال، وأن الجنة هي المحبة التي في القلوب، والسعادة هي الأنس بالناس، وأن العزلة هي صلوات الوعي وسفر اللاوعي في غياهب الداخل الممتلئ محبة وسلاما.

الدرس الذي يجعلك تتأمل كل شيء حتى تتغشاك الرحمة، ويشملك اللطف وتستشعر في داخلك بكل ذرة في الكون، كل شيء له روح، كل شيء هو من هذه الأرض، من الطبيعة إنه أخ لك كما الطبيعة أم، إنه شريك جوهري في معنى الحياة وند في قيمتها، الورقة، الحجارة، جذع الشجرة التي أصبح بابا ونافذة وطاولة كتابة وكرسي هزاز على شرفة المجهول، الحديد المستخرج من بطن الأرض في ولادة عسيرة تشبه ولادتك تماما والذي أصبح لاحقا سيارة وبوابة ومسمارا، إنهم منك ولك في علاقة تبادلية متساوية وليست فوقية، إنهم أخوتك أصدقاؤك، أصدقاء الحياة وتفاصيلها الصغيرة إنهم الأقرب منك إليك حتى ممن تظنهم الأقرب، تشملك الرحمة واللطف الأعلى، وعليك أنت أيضا أن توزع الرحمة واللطف على كل شيء حولك، أن تشارك في الخير، أن تصبح ينبوعا للطف الأعلى، للسلام وللرحمة، أن يمتد النور الذي ينبجس فيك من الداخل للخارج لتحقق السلام وتوزع الرحمة وتقيم الخير وتزرع المحبة فهذه رسالتك وهذا هو درس كورونا الكوني الذي عليك أن تستوعبه لتكفر عن خطايا البشر الذي استحقت غضب الطبيعة.