بببب
بببب
الثقافة

كنت مشاركة في حلقة ماركيز الصحفية ثلاثة أيام مع جابو "1 من 3"

19 يوليو 2020
19 يوليو 2020

سيلفانا ياترنوسترو

ترجمة: أحمد شافعي

مكروبا مما رآه يجري في صحافة أمريكا اللاتينية، قرَّر جابرييل جارثيا ماركيز، الكاتب الحاصل على نوبل في الأدب وصاحب "مائة عام من العزلة" والذي سبق له شخصيا أن عمل صحفيا، أن يبدأ في مارس من عام 1995 ما يصفه بـ"المدرسة عديمة الأسوار" ـ مؤسسة الصحافة الأيبيرية الأمريكية الجديدة. هدفها هو تجديد دماء الصحافة في المنطقة من خلال حلقات عمل متنقلة. وهو يصر على أن ما يجري تدريسه وممارسته بحاجة ماسة إلى تجديد، ويشكو من أن الصحفيين اليوم أكثر اهتماما بمطاردة الأخبار العاجلة من اهتمامهم بالإبداع والأخلاقيات.

يقول: إنهم يتباهون بقدرتهم على قراءة وثيقة سرية وهي مقلوبة رأسا على عقب، لكن عملهم يمتلئ بأخطاء النحو والإملاء ويفتقر إلى العمق. "لا تؤثر فيهم قاعدة أن أفضل القصص ليس الأسبق اكتمالا بل الأفضل حكيا" حسبما كتب في كلمته الافتتاحية.

ينتقد جارثيا ماركيز طريقة تعامل الجامعات وناشري الصحف في أمريكا اللاتينية مع المهنة ـ التي يعدها خير مهن العالم، مختلفا مع المدارس المهنية التي ترى أن الصحفيين ليسوا فنانين، يرى جارثيا ماركيز أن الصحافة المطبوعة "قالب أدبي". وهو يود أن يقنع الصحف بتقليل استثمارها في التكنولوجيا وزيادته في تدريب القوى العاملة.

بدعم من اليونسكو، نظمت مؤسسة ماركيز ـ ومقرها بارانكويلا في كولومبيا، في أقل من سنتين، ثماني وعشرين حلقة عمل حضرها ثلاثمائة وعشرون صحفيا من أحد عشر بلدا.

تراوحت ثيمات الحلقات بين تدريس تقنيات السرد الخبري المطبوع والإذاعي والمرئي، إلى نقاشات في الأخلاقيات، وحرية الصحافة والعمل الصحفي في ظل الظروف الخطرة وتحديات التقنيات الجديدة في المهنة.

ويقوم بالتدريس في الحلقات مهنيون راسخون يستهدفون جيل الشباب من الصحفيين، ويحبَّذ أن تقل أعمارهم عن ثلاثين سنة وأن يكون لهم ما لا يقل عن ثلاث سنوات من الخبرة.

وبرغم أن المؤسسة مقرها في كولومبيا، فقد أقيمت الحلقات أيضا في الإكوادور وفنزويلا والمكسيك وإسبانيا. وواسطة العقد في منهج المؤسسة حلقة عمل مدتها ثلاثة أيام يدرس فيها ماركيز التغطية الصحفية.

وبوصفي صحفية مستقلة معنية بالكتابة عن أمريكا اللاتينية بالإنجليزية، تقدمت وقبلت في حلقة العمل الخامسة. ابتهجت كثيرا بمقابلته فكنت ـ وأنا التي تتأخر على كل شيء ـ أول من وصل إلى المركز الثقافي الإسباني في قرطاجنة، وهو منزل جميل الترميم من طابقين يكسو فناءه عشب البيجونيا الأحمر وفيه نافورة، وتمتلكه الحكومة الأسبانية. ما كان لمكان آخر أن يكون أكثر ملاءمة. فقرطاجنة هي موطن جارثيا ماركيز، وكثير من شخصيات أدبه سارت على بازلت حيِّها الكولنيالي في المدينة. على بعد بضعة شوارع من المركز الثقافي، في ميدان الكاتدرائية، لاحظ فلورنتينو أريثا أن مشية فيمينا دازا لم تعد مشية تلميذة في المدرسة. وسيرفا ماريا دي تودوس لوس أنجلوس، الفتاة ذات الإثنتي عشرة سنة التي ظل شعرها ينمو بعد وفاتها، عاشت في دير سانتا كلارا المجاور. وبجوار الأسوار التي وقت قرطاجنة من القراصنة الإنجليز، يقع بيت جارثيا ماركيز هنا، على مقربة من الدير الذي تحول إلى فندق 5 نجوم يرى نزلاؤه بيت الكاتب لا يحول بينهم وبينه عائق، حتى أن أحد نزلاء الفندق قال لي: إنه "كان أمرا محرجا. كنت أراه وهو يتناول إفطاره كل صباح؟ وفي النهاية أسدلت الستائر".

الاثنين، 8 أبريل 1996، التاسعة صباحا

أنا واحدة من اثني عشر صحفيا جالسون حول مائدة خشبية بيضاوية كبيرة. نجلس في غاية الهدوء، شأن طلبة منضبطين في مدرسة يسوعية ينتظرون بداية الحصة. يفتح جارثيا ماركيز الباب ويدخل. ينظر إلينا في مكر، كمن يعلم مدى التوتر الذي نحن فيه. يرتدي جارثيا ماركيز ـ أو جابو مثلما يعرفه الجميع ـ ثيابا بيضاء. وهنا على الساحل الكاريبي في كولومبيا، غالبا ما يرتدي الرجال الأبيض، من رؤوسهم حتى أحذيتهم.

يقول صباح الخير، ولوهلة عابرة، يبدو وكأننا قد نقف، أو ننحني، أو نرد متحدي الأصوات قائلين "Buenos días, profesor" [صباح الخير يا أستاذ].

المقعدان الشاغران في الغرفة يواجهان الشبابيك موليين ظهريهما للباب. يختار جابو الصحفي المكسيكي سيزار روميرو، وهو الجالس بجواري ـ في مواجهة الباب ـ ويطلب منه مقعده.

يقول "لقد شاهدت الكثير للغاية من أفلام رعاة البقر، ولا أجلس أبدا موليا ظهري للباب. فضلا عن أنني متأكد أن لديّ من الأعداء أكثر مما لديك بكثير".

يقول سيزار روميرو "بكل سرور دون جابرييل".

فيما يقبل جابو، أتذكر حواري مع صديق كوبي تخرج حديثا في مدرسة السينما التي أسسها جارثيا ماركيز خارج هافانا ويدرِّس فيها في بعض الأحيان. قال لي خوان كارلوس "ستقضين وقتا عظيما. هو دائما ما يبدي اهتماما بالنساء أكبر من اهتمامه بالرجال في الفصل. يقول: إن النساء يجلبن له الحظ". أطالع الجالسين حول الطاولة. من بين المشاركين الإثني عشر، لا نساء غيري وأندريا فاريلا.

يجلس جابو على يساري، وأنا متوترة. تبدأ يدي في التعرق. أجففهما في بنطالي. أعقد ذراعي. يضع ساقا على ساق. أطأطئ ناظرة إلى الأرض. حذاؤه المدبب المصقول جيدًا أبيض. أرفع عيني. الساعة حول معصمه بيضاء أيضا. أركز على الجوايابيرا الذي يرتديه، أي القميص المفضل لدى الرجال في أمريكا اللاتينية، ويبقونه حرا خارج البنطال، ممتدًّا على الفخذين، وهو قميص له أربعة جيوب، وفي بعض الأحيان يكون مطرزا ومجعدا. غالبا ما ارتبطت تلك القمصان لديَّ بالأجداد، وبالوزراء، وبملاك الأراضي ـ الرجال الذين تفوح منها رائحة الكولونيا في العادة والخمر في بعض الأحيان. قميصه بسيط، بلا زخارف، وبلا رائحة، ومصنوع من كتَّان شديد الرقة لدرجة أن يرى من خلاله. وبنطاله القطني الخفيف يحدث تناقضا ظريفا غير متوقع.

يضع على الطاولة حقيبة جلدية سوداء من التي بدأ الرجال الطيبون في حملها في قرابة السبعينيات. مرتديا نظارته، يستخرج قائمة بالمشاركين في الفصل من ملف أسود فيه أيضا مواد كنا قد طولبنا بتقديمها، قطع صحفية لينقدها جابو ويحررها خلال أيام عمله الثلاثة معنا. ما من صوت إلا دمدمة مكيف الهواء. ما من أحد ينظر إليه فعليا، ولو أننا جميعا، نحن الصحفيين الأصلاء، مررنا بمواقف أصعب من هذا في التعامل معها. فروبن فالنسيا، من كالي، سافر بنفسه إلى أورابا وهي أعنف منطقة في كولومبيا، حيث تقع مجازر بين تجار المخدرات والعصابات والجماعات شبه العسكرية. ويلسن دازا قضى عشرين يوما يجوب وسط مدينة ميديلين مع بائعي المخدرات والبغايا وأفراد العصابات. سيزار روميرو غطى عصيان زاباتيستا المسلح في تشياباس. إدجار تيليز استقصى علاقة الرئيس سامبر المزعومة باتحاد تجار المخدرات.

لكن جابو، منذ فوزه بجائزة نوبل سنة 1982، تحول من كاتب "مائة عام من العزلة" إلى نجم وسياسي مهم. ففي أمريكا اللاتينية، وبخاصة في كولومبيا والمكسيك اللتين يقضي فيهما أغلب وقته، لا يحظى حتى الرؤساء أنفسهم بمثل مكانته. هنا لا تقارن نجوميته إلا بنجومية نجوم كرة القدم وملكات الجمال. يستوقفه الناس في الشارع ليوقع لهم الأوتجرافات، حتى من لم يقرأوا كتبه. يطلب الرؤساء والوزراء والساسة وناشرو الصحف وزعماء العصابات مشورته، ويبعثون إليه الرسائل، ويريدونه قريبا منهم. كلامه، في أي موضوع مهما يكن، يتصدر العناوين. في العام الماضي اختطفت عصابة في كولومبيا شقيق رئيس سابق. واشترطوا أن يقبل جارثيا ماركيز الرئاسة. وكتبوا في طلبهم يقولون: "يا نوبل، نرجوك أن تنقذ الوطن".

بالنسبة إلينا نحن الكولمبيين، فإن الإشارة إلى جارثيا ماركيز باسم تدليله جابو يقرِّب نجاحه منا، ويجعل عظمته ـ شأن عائلة متباهية ـ عظمتنا نحن. في منطقة يستنفدها العنف والفقر وتجارة المخدرات والفساد، هو الابن الذي تستعرض به العائلة، ولا يستثنى من ذلك حتى من لا تروق لهم صداقته بفيدل كاسترو. في بارانكويلا، بلدتي الأم، حيث عمل صحفيا سنة 1950 وحيث التقى بزوجته مرسيدس، su mujer de siempre [زوجته إلى الأبد]، يحتضنه الجميع بلا استثناء. بل لا يقال له جابو، وإنما جابيتو، وهو التصغير والتدليل الذي ينادي به الآباء والزوجات والأصحاب الأعزاء عليهم.

يرد اسمه على ألسنة المشاركات في مسابقات الجمال بمثل ما يرد اسم البابا. إذ تتكرر إجابة المتنافسات: من كاتبك المفضل؟ جارثيا ماركيز. من أكثر من يحظون بإعجابك؟ أبي، والبابا، وجارثيا ماركيز. من الذي تحلمين بمقابلته؟ جارثيا ماركيز والبابا. لو طرحت هذه الأسئلة نفسها على صحفي من أمريكا اللاتينية، فلعل الإجابات تتماثل، مع استبعاد محتمل للبابا. وبالنسبة إلينا نحن صحفيي أمريكا اللاتينية الذين لا يزالون في مقتبل العمر، فإنه يمثل لنا القدوة. يحلو لنا القول إنه قبل أن يصبح روائيا كان صحفيا. وهو يقول إنه لم يكف قط عن كونه صحفيا.

يتلو جارثيا ماركيز أسماءنا من القائمة مضيفًا لكل منا تعليقا، مثيرا للفضول دائما، وممتلئا بالدفء دائما. يناديه روبين فالنسيا وقليل غيره بالمايسترو، ولكن هذا يبدو لي إفراطا في الاحترام. كثيرا ما دعوته أنا بجابو عند كلامي عنه، لكن بمجرّد حضوره بت أشعر أن في هذا وقاحة أكثر مما يليق. يبلغ أقصى المودة مع أندريا التي حضرت حلقة معه من قبل. يمزح معها، مناديا إياها بأندرييتا، قائلا "إنك تقضين من الوقت في حلقات العمل أكثر مما تقضين في العمل نفسه. سنتصل برئيستك ونطلب منها أن تبعث إليك بسريرك". تخجل أندريا، ويتورد خداها بسبب دفء حديث جابو.

ينفتح الباب بسرعة على شاب لاهث، ذي قميص أزرق فاتح تحت إبطه صحيفة، يدخل جالبا من وسط قرطاجنة حرارتها وفوضاها.

يعتذر قائلا "بيرميسو" ويجلس بسرعة بجوار سيزار روميرو.

"ومن أنت؟"

"تاديو مارتينيث"

تاديو متوتر، وجابو يعرف ذلك.

يقول قارئا من القائمة "تاديو مارتينيث من صحيفة إل بريوديكو دي قرطاجنة... زملاؤك هنا من، دعنا ننظر، من كاراكاس، وبوجوتا، وكالي، وميديلين، وسان خوسيه، والمكسيك، ونيويورك، وميامي، وأنت، القادم من آخر الشارع، آخر من يحضر".

نشفق جميعا عليه، لكن جابو يهز رأسه ويبتسم.

العاشرة صباحا

يبدأ جابو بالحديث عن كتابه عن سيمون بوليفار، وهو لنا في أمريكا اللاتينية أشبه بجورج واشنطن وتوماس جيفرسن وبنيامين فرانكلين، وجميع الآباء المؤسسين في لفافة واحدة ـ حرَّر خمسة بلاد من حكم الإسبان وحلم بأمريكا اللاتينية الموحدة، امبراطورية تمتد على طول الطريق من كاليفورنيا نزولا إلى تييرا دل فيجو. يظهر المحرر دائما، في البورتريهات المعلقة على كل جدار رسمي، مرتديا زيا عسكريا منشًّى، متأهبا لمعركة، أو ممتطيا حصانه الأبيض.

"لكن أحدًا لم يقل قط في سِيَر بوليفار إنه كان يغني أو يصاب بمغص". هكذا يقول جابو، ويضيف أنه يعتقد أن العالم ينقسم إلى جماعتين من الناس: "من يتغوطون بسهولة ومن لا يتغوطون بسهولة، وذلك يؤدي إلى شخصيتين شديدتي الاختلاف. لكن المؤرخين لا يقولون لنا هذه الأمور لأنهم يحسبونها عديمة الأهمية". وسخطه على الصورة الجامدة التي يصور بها المؤرخون الرسميون بطله تفسر لماذا قرر أن يكتب "الجنرال في متاهته" التي تحوي صفحاتها القصة الكاملة للشخص الذي له هذا التأثير المهم على فكره السياسي. يحكي لنا أنه كتبها على هيئة ريبورتاج.

"والريبورتاج هو القصة الكاملة، إعادة البناء الكاملة لحدث، حتى التفاصيل البسيطة مهمة، هذه هي قاعدة مصداقية أي قصة وقوتها. في (الجنرال في متاهته) كل معلومة يمكن التحقق منها، مهما تكن بساطتها، قادرة على تقوية العمل كله. على سبيل المثال، وضعت بدرا ـ ذلك البدر الذي يسهل جدًا إدراجه في النص ـ في الليلة التي قضاها سيمون بوليفار نائما في جوادواس في العاشر من مايو سنة 1830. أردت أن أعرف هل كان القمر بدرا في تلك الليلة، فاتصلت بأكاديمية العلوم في المكسيك وتبيّن لهم أن القمر بالفعل كان بدرا في تلك الليلة. لو لم يكن كذلك، لحذفت البدر ببساطة. يمثل البدر تفصيلة لا ينتبه إليها أحد. لكن لو أن في قطعة صحفية معلومة واحدة زائفة، فكل ما عداها زائف. في الكتابة الروائية، لو أن معلومة واحدة يمكن التثبت منها ـ معلومة عن القمر الذي كان بدرا في تلك الليلة في جوادواس ـ فسوف يصدق القراء كل ما عداها".

يسأله أحدنا عن التقنيات الروائية في الريبورتاج. يرد جابو بأنه معجب بأعمال جاي تاليس ونورمن ميلر وترومان كابوتي، وجميعهم يمارسون "الصحافة الجديدة". و"الجانب الأدبي الوحيد في الصحافة الجديدة هو أسلوبها السردي. والرخصة الأدبية مسموح بها ما دام يمكن تصديقها وما دامت تصدق على بقية المعلومات التي يمكن التحقق منها".

وفيما يقول هذا، أتذكر عملا صحفيا كتبه جابو عن كراكاس في فترة جفاف رهيب وعن رجل بدأ يحلق ذقنه بعصير الخوخ وهذه حقيقة يمكن تماما تصديقها والتحقق منها، ومع ذلك تفوح منها رائحة الرخصة الأدبية. قيل إن لدى جابو قدرا من الإبداع أكبر من أن يكون صحفيا جيدا. وفي النهاية، هو الكاتب نفسه الذي قام في رواياته، بوجه رزين، برفع ريمديوس الجميلة إلى السماوات وجعل رائحة سنتياجو نصار بعد وفاته المعلنة تخترق البلدة كلها.

يقول، وكأنما قرأ أفكاري، إن "الأحداث الغريبة في رواياتي كلها حقيقية، أو لها نقطة بداية، قاعدة في الواقع. الحياة الواقعية دائمًا أكثر إثارة للاهتمام مما يمكن أن نبتكره". يقول: إن صعود ريمديوس الجميلة استلهم من امرأة رآها تنشر ملاءات بيضاء نظيفة وذراعيها مفرودتين تحت الشمس". وقال أيضا: إن "المرء لكي يتحرك بين السحري والقابل للتصديق بحاجة إلى أن يصبح صحفيا".

يحكي لنا عن "حكاية حطام سفينة"، التي كتبها في الأصل مسلسلة حينما كان يعمل صحفيا في "إل سبكتادور" في بوجوتا. تم تكليفه بالكتابة عن مغامرات بحار تائه في البحر لكن القصة لم تثر اهتمامه. "فالصحف جميعا كانت قد كتبت عنها". لكنه لان في النهاية. في تلك الأيام، أي الخمسينيات ـ ومثل أيام تشارلز ديكنز الذي كانت تظهر رواياته في مناشير لندن الصحفية ـ كان النشر المسلسل وسيلة تسويق منتشرة. كانت مهمة جابو هي أن يحاور البحار ويكتب قصته في أجزاء. بعد نشر الحلقتين الأوليين، جاء دون جيليرمو كانو رئيس تحرير الصحيفة (الذي اغتاله تجار المخدرات سنة 1986) إلى مكتبه وقال "اسمع يا جابرييليتو، هذه الأشياء التي تكتبها، أهي خيال أم حقيقية؟ قلت له (هي رواية، وهي حقيقية). فسألني (وما عدد الحلقات التي تنوي تقديمها؟) قلت (تبقى حلقتان أخريان)".

"لا يمكن، المبيعات تزيادت إلى ثلاثة أمثالها. أعطني مائة".

"كتبت أربع عشرة فقط"

يحكي لنا جابو "كنت أعرف أن البحار قضى أربعة عشر يوما تائها في البحر، فقرَّرت أن أكتب أربعة عشر فصلا، فصلا لكل يوم. جلست مع الرجل مرَّة أخرى وبدأت أقطع أيامه إلى شرائح أنحل. بدأت بأن سألته ماذا كان يفعل كل يوم، ثم ماذا كان يفعل كل ساعة، ثم كل دقيقة. سألته متى ظهرت أسماك القرش، وفي أي وقت كان يأكل".

الظهر هذا تقريبا وقت الغداء. بدأ جابو الحديث في التاسعة بالضبط ولم يتوقف. فضلا عن كلامه في التعليم، جابو يثرثر، ويحكي الحكايات. على مدار أكثر من ثلاث ساعات، جلسنا نحن الإثني عشر، فلم نقل إلا القليل. لم أكن تناولت إفطاري، ولكنني لم أكن أشعر بالجوع. هو لا يشرب القهوة لكن الكثيرين منا يشربونها. وهي خير رفيق لحكاياته.

يقول: إن الحكائين يولدون مفطورين على الحكي، لا يصنعون: "مثل المطربين، من يكن حكّاء فذلك شيء وهبته إياه الحياة. لا يمكن تعلُّمه. التكنيك، نعم، هذا يمكن تعلُّمه، لكن القدرة على حكي قصة شيء يولد به المرء. سهل أن تفرق بين حكاء جيد وآخر رديء: أطلب من الشخص أن يحكي لك آخر فيلم شاهده".

ثم يقول في تأكيد إن "الأمر الصعب هو أن تدرك أنك لست حكاء وأن تمتلك من الشجاعة ما يجعلك تمضي فتفعل شيئا آخر". يحكي لي سيزار روميرو لاحقا أن من بين كل ما قاله جابو، ذلك كان الأقوى أثرا عليه.

يضرب مثالا. بعد حصوله على جائزة نوبل بوقت قصير، جاءت صحفية شابة إلى جابو في مدريد حيث كان مقيما في فندق وطلبت منه إجراء حوار. رفض جابو ـ الذي كان يمقت أسئلة الحوارات ـ لكنه دعاها إلى مرافقته وزوجته طوال النهار. "قضت معنا اليوم كله. تسوقنا، زوجتي ساومت، ذهبنا لتناول الغداء، مشينا، تكلمنا، وصاحبتنا إلى كل مكان". ولمّا رجعوا إلى الفندق وتأهب جابو لتوديعها، طلبت منه إجراء الحوار. يقول جابو "قلت لها إنها يجب أن تبحث عن عمل آخر. لقد كانت بحوزتها قصة كاملة، كان لديها ريبورتاج".

مضى يتكلم عن الفارق بين الحوار والريبورتاج ـ والخلط الذي يقع الصحفيون فيه دائما. "الحوار في الصحافة المطبوعة هو دائما حديث بين صحفي وشخص لديه ما يقوله أو يراه في حدث ما. الريبورتاج إعادة بناء دقيقة وصادقة للحدث".

"أجهزة التسجيل بشعة لأنها توقع المرء في شرك الاعتقاد بأن جهاز التسجيل يفكر، فنفصل أمخاخنا في اللحظة التي نشغل فيها الجهاز. جهاز التسجيل ببغاء رقمي، له آذان لكن ليس له قلب. لا يلتقط التفاصيل ومن ثم فمهمتنا هي أن نستمع إلى ما يجاوز الكلمات، نلتقط ما لا يقال ثم نكتب القصة كاملة". يطأطئ ناظرًا إلى كومة ورق أمامه، هي المواد التي تقدمنا بها! يقول "الكتابة فعل تنويم مغنطيسي. إذا نجح الكاتب فهو ينوم القارئ مغنطيسيا. وحيثما تحدث عثرة يفيق القارئ، ويغادر التنويم المغناطيسي، ويتوقف عن القراءة. حينما يضطرب النثر، يهجرك القارئ. على المرء أن يبقي الكاتب في تنويم مغنطيسي، بالاهتمام بكل تفصيلة، وكل كلمة. هو عمل مستمر يقوم على أن تسمموا القارئ بالمصداقية وبالإيقاع". يتوقف، ثم ينقر على الورق. "الآن يجب أن أقول لكم إنني قرأت المواد التي أرسلتموها وكنت في غاية اليقظة طوال الوقت".

أشهق، والبعض يضحكون، والبقية يتململون بغير ارتياح في كراسيهم.