أفكار وآراء

رب ضارة نافعة.. العالم يتعلم الدرس من الجائحة

18 يوليو 2020
18 يوليو 2020

د. عبدالعاطي محمد -

هناك أيضا الخبرة المستفادة للتعامل مع تحديات مستقبلية من نفس النوع، وهو أمر وارد خصوصا بعد التعرض لوباء لم يكن في الحسبان واتسم بالغموض. ولأن الناس والحكومات دخلوا المحنة معا، فإن عليهم أن يخرجوا منها معا.

بعد مضي أكثر من 6 شهور على ظهور جائحة الكورونا، لا تزال تداعياتها السلبية على حياة البشر قائمة، سواء في مجال الصحة أو الأوضاع الاقتصادية، ولا تزال النظرة المتشائمة حول موعد انتهائها غالبة على تقديرات الخبراء والمختصين. ومع ذلك فإن التعامل مع هذه التداعيات من جانب صانعي السياسات العامة في مختلف الدول، يشير إلى أن الصورة ليست قاتمة تماما، بل هناك بعض الجوانب المضيئة التي تجعل التعايش مع الجائحة لسنوات قادمة أمرا ممكنا، بأقل قدر ممكن من الخسائر، وبقدرات أفضل لأداء الحكومات فيما يتعلق بتحقيق التوازن بين الصحة العامة والانتعاش الاقتصادي، وذلك بالنظر إلى ما تعلمته من دروس وإن كانت بالغة القسوة والمرارة.

الصورة القاتمة للمشهد العالمي تتحدث عن نفسها من واقع البيانات اليومية التي تصدر عن منظمة الصحة العالمية، ولأنها متغيرة من حيث التزايد يكفى الإشارة إلى أنه حتى العاشر من يوليو 2020 تجاوز عدد الإصابات عالميا حاجز الـ 12 مليون إصابة والوفيات أكثر من نصف المليون حالة وفاة، وهناك دول كبرى مثل الولايات المتحدة تجاوز عدد الإصابات حاجز الـ 3 ملايين إصابة والوفيات أكثر من 136 ألف حالة وفاة. وقد أصبح تقرير الحالة اليومية من أبرز عناوين النشرات الإخبارية مشيرا دائما بالنسبة لمعظم الدول إلى تصاعد الأرقام. ولأن الموقف عصيب كثيرا ما تفاجئ منظمة الصحة العالمية الناس، بين يوم وآخر، بمعلومات جديدة تزيد من الشعور بالقلق، حتى أنها تحذر بشدة من موجة ثانية للجائحة ربما في الخريف القادم. ومن جهة أخرى تتوالى الأنباء عن سباق محموم للتوصل إلى علاجات أفضل، والأهم للتوصل إلى لقاح أو مصل. وكلها اجتهادات لا تصل إلى حد اليقين خصوصا فيما يتعلق باللقاح. والخلاصة أن الخطر الصحي وفقا لتقديرات المختصين مستمر ويرجحون أن يستمر لنحو ثلاث أو أربع سنوات. ويرون أنه حتى بافتراض التوصل إلى اللقاح في سبتمبر أو أواخر العام، فإن هناك شكوك أن يصل لكل سكان العالم في وقت واحد، حيث أنه في أفضل الظروف يمكن إنتاج نحو 750 مليون وحدة سنويا، بينما عدد سكان العالم هو نحو 7 مليارات نسمة بما يعنى أن العالم سيحتاج إلى سنوات عدة لضمان تطعيم أفراد البشرية المعاصرة!

ولا يخفى أن العالم المتقدم هو الذي سيحظى بفرصة الحصول على اللقاح أولا بحكم ما لديه من نفوذ وبالنظر إلى أنه هو الطرف الذي سينتجه ومن ثم يسعى لتوفير الأمان لمواطنيه قبل الآخرين. وقد يبدو سلوكا أنانيا من هذا القطاع من العالم، ولكن واقعيا هذا ما جرى عليه الحال في وقائع سابقة.

وأما اقتصاديا فالصورة أكثر سوادا بكل تأكيد لأن عدد المهددين بالموت جوعا نظرا لتوقف عجلة الاقتصاد أكبر بكثير جدا من عدد المهددين بالموت من جراء الإصابة بكورونا المستجد (كوفيد-19). وقد استمع الجميع إلى صرخة البشر منذ ظهور الوباء تعبيرا عن الشعور بالتهديد بالفناء أحياء نظرا لتوقف كل مصادر الإنتاج، ولذلك لم يكن من الحكمة الإصرار على الإغلاق لعدة شهور مع أنه كان ضروريا في بداية المحنة للحد من انتشار المرض، وتقديرا للمخاطر الاقتصادية سارع الجميع بإعادة الفتح بنسب مختلفة وإجراءات متدرجة. وكان واضحا أن إعادة الفتح هي بغرض التخفيف من وقع الأزمة وليس بالطبع للحل الكامل، لأنه أصبح واضحا ضرورة تحقيق التوازن بين الحد من انتشار المرض وبين استعادة الانتعاش الاقتصادي.

وقد وصف المختصون هذا التوازن بأنه معقد للغاية بالنظر إلى أن المرض مستجد والمعلومات عنه تكاد تكون ضئيلة، وموعد انتهائه غير معروف، ومن ثم فإن الشفاء من الأمراض الاقتصادية التي نتجت عن الوباء ليس أمرا بسيطا أو ممكنا تحقيقه في فترة وجيزة. ومصدر المشكلة بهذا الشأن هي أن استعادة الانتعاش الاقتصادي مرتبط بأمرين هما تدفق الإنتاج في كل مجالاته، ووجود استهلاك من جانب المواطنين، وكل منهما يعنى ببساطة العودة إلى الحياة الطبيعية للناس حيث يجتمعون بدون موانع سواء في ساحات الشراء والاستجمام المختلفة وفى دور العلم ومواقع الخدمات وفى التنقل من مكان إلى آخر بسهولة. وحيث أن الاستهلاك مفقود نظرا لخوف الناس من التجمعات فإن الركود هو مصير الإنتاج وتوقف الخدمات، والنتيجة هي خروج عديد الكيانات الاقتصادية من اللعبة وتفشى البطالة. ولم ينجو أحد من هذا المصير البائس بمن فيهم شعوب الدول الكبرى والغنية. والأمثلة عديدة، فالبطالة في الولايات المتحدة وصلت إلى 25% أي نحو 32 مليون عاطل، وإلى 15% في أوروبا. واضطرت دول العالم إلى ضخ نحو 11 تريليون دولار خلال الستة شهور الماضية، هي في الحقيقة ديون على خزائن البلاد العامة. وذلك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. (البيانات على لسان بطرس بطرس غالى وزير المالية المصري الأسبق خلال مقابلة تليفزيونية مؤخرا على إحدى القنوات المصرية). وبوجه عام كانت تقديرات صندوق النقد الدولي قد أشارت إلى أن الاقتصاد العالمي سينكمش بنحو 4.8% خلال العام القادم.

ومع ذلك وبرغم هذه الصورة القاتمة، هناك ضوء في نهاية النفق، فبلغة الاقتصاديين: إذا كانت هناك مشكلة اقتصادية فإنها يجب أن تكون فرصة للإصلاح والانطلاق بقوة في المستقبل. فقط يحتاج الأمر إلى شجاعة في اتخاذ القرار السياسي. ومن ملامح إيجابيات المشهد الذي شكلته جائحة الكورونا، أن الحكومات أصبحت لديها الفرصة للعمل بحرية بعيدا عن الضغوط الشعبية المعتادة عندما يتم اتخاذ خطوات إصلاحية صعبة. فالشعوب، خوفا على حياتها، وبالنظر إلى المصير الغامض لهذه الجائحة، ولأنها كارثة عالمية نتجت عن وباء وليس عن أخطاء سياسية، أصبحت في وضع تقبل فيه عن قناعة ورضا، بما تصدره الحكومات من قرارات صعبة، ما كان من الممكن أن تصدر في الظروف العادية. والدليل الانصياع التام لقرارات الإغلاق وغيرها من القرارات المتخذة لعلاج المصابين. وفى هذا الإطار تحقق بناء الثقة والتواصل بأمانة بين القيادة والناس. فالتجاوب أظهر تجاوز فجوة في العلاقة كانت قائمة في السابق. ولا شك أن نتيجة كهذه يتعين على الحكومات أن تبنى عليها مستقبلا في كل مجالات الشأن العام. ومن التوجهات الجديدة إدراك الحكومات لأهمية العناية بالصحة العامة بعد أن كان هدفا كهذا إما محدودا أو مهملا أو متروكا للمسؤولية الشخصية. وبناء عليه اتجهت الحكومات المختلفة إلى مراجعة سياساتها العامة في المجال الصحي للارتقاء به، وظهر ذلك سريعا مع تسخير العديد من الموارد لمواجهة الوباء، وباتت هناك قناعة شديدة بالارتقاء بالبنية الأساسية للصحة العامة سواء فيما يتعلق بالمنشآت أو القوى العاملة في هذا المجال. وقد قفزت العناية بالصحة العامة إلى مقدمة الأولويات في الموازنات العامة.

ومثلما تعزز الاهتمام بالصحة العامة حدث نفس الشيء مع ما أصبح يسمى بشبكة الأمان الاجتماعي التي من خلالها دعمت الحكومات القطاعات الفقيرة والأكثر فقرا عبر مبادرات مختلفة لمساعدتهم على مقاومة مصاعب الحياة التي ترتبت على انتشار الجائحة، والأهم توفير الحماية لمن فقدوا وظائفهم أو مصادر دخولهم نتيجة الإغلاق الاقتصادي. وتمكنت الحكومات من وضع أياديها على حقائق اجتماعية واقتصادية لم تتمكن من الحصول عليها في السابق، تفيدها إلى حد كبير في إصلاح سياساتها التنموية. والمقصود هنا هو استخدام التقنيات الرقمية في جهود مكافحة المرض التي بمقتضاها أصبح بإمكان عديد الدول تتبع المخالطين ومراقبتهم في العزل مثلا، وساعدت هذه الآلية على رصد وتشخيص من ينتمون إلى الاقتصاد غير الرسمي ومن ليست لديهم حسابات بنكية، وذلك عندما تقدموا بطلبات التمتع بالحماية الاجتماعية. والفرصة المتاحة الآن هي أن تعمل الحكومات على دمج هذا القطاع العريض من الناس إلى الاقتصاد الرسمي، ليس بإجراءات تدفع أفراده إلى التهرب من عملية الدمج وإنما بمحفزات تنقلهم بشكل طبيعي وعن رضا من جانبهم إلى القطاع الرسمي. شيء من هذا القبيل لم يكن موجودا من قبل، وحان الوقت لاستغلال الفرصة لاستثماره لصالح هؤلاء الناس والمجتمع والدولة أيضا.

نعم كانت ولا تزال مصاعب قاسية على الجميع مواطنين وحكومات، ولكن لا يجب إهمال ما حدث إيجابيا وبشكل تلقائي نتيجة الجائحة ولم يكن قائما من قبل. هناك قدر جيد من الثقة الإضافية التي تحققت بين الجانبين للتعاون المشترك في مكافحة الجائحة، وهناك مساواة تحققت بين الناس فيما يتعلق بسد الفجوة في التمتع بالرعاية الصحية والأمان الاجتماعي، وليس خافيا أن مطلب المساواة كان شعار الشارع كلما شعر بالغضب، وعندما تتأسس قواعد جديدة لتحقيق المساواة، فإنه يصبح بالأهمية بمكان أن يصبح ملمحا دائما من ملامح السياسات العامة. ليس هذا وحسب الذي يعد من إيجابيات التعرض لكارثة مثل هذا الوباء، فرب ضارة نافعة، وإنما هناك أيضا الخبرة المستفادة للتعامل مع تحديات مستقبلية من نفس النوع، وهو أمر وارد خصوصا بعد التعرض لوباء لم يكن في الحسبان واتسم بالغموض. ولأن الناس والحكومات دخلوا المحنة معا، فإن عليهم أن يخرجوا منها معا أيضا بحسب تعبير خبراء البنك الدولي، والمعنى التأكيد على أهمية التنسيق والتعاون من الجميع داخل كل بلد وبين البلدان بعضها البعض. وإذا كان من الصعب توقع أن تمد الدول الكبرى يديها للدول الأخرى بما فيها الفقيرة استنادا إلى أن الجميع يعيش ظروفا صعبه تجعله يعطى الأولوية لوضعه الداخلي، فإن الدول المنتمية لإقليم واحد تستطيع أن تفعل ذلك بحكم تقارب مستوياتها المعيشية وثقافاتها والروابط الجغرافية فيما بينها، لو على سبيل التخفيف من حدة الأزمة، بينما التعاون الداخلي بين مكونات ومؤسسات البلد الواحد سهل المنال وهو ما وضح من واقع التجربة.