1491471_127
1491471_127
الاقتصادية

الفيروس الذي أغلق العالم

17 يوليو 2020
17 يوليو 2020

آنتوني فايولا- واشنطن بوست

ترجمة قاسم مكي

قبل فترة ليست بالبعيدة كان التجول عبر "الجدار الأخضر" المزروع بالنباتات المورقة في مطار شانغي بسنغافورة يماثل الدخول إلى مستقبلٍ يترابط عالميا باطَّراد.

فملايين المسافرين كانوا يتدافعون كل شهر جيئة وذهابا إلى وجهات شتى حول العالم من خلال تجربة السفر الأكثر حداثة على وجه البسيطة. فعبور مبنى المسافرين الجديد في مطار شانغي والذي كلف بناؤه بليون دولار كان يعني مراجعة موظفي الرحلة وتسليم الحقائب وركوب الطائرة باللمس على أزرار قليلة فقط.

هل تشكو (وأنت في مبنى المسافرين) من طول فترة انتظار رحلتك؟ هذه مشكلة جيدة. يمكنك أن تتلكأ عند جوهرة مطار شانغي بغابتها المعرشة وشلالها الداخلي (رين فورتيكس) المتساقط من ارتفاع 131 قدما، وهو الأعلى من نوعه في العالم. كما يمكنك أن تصعد إلى حوض السباحة في سطح المبنى حيث يوجد أيضا مكان خاص لهواة مراقبة هبوط وإقلاع الطائرات. أو يمكنك بدلا عن ذلك أن تخرج من المطار في جولة حرة في أبراج سنغافورة التي تنتصب في مركز أنظمة العالم المالية والتجارية .

لكن كما الحريق الذي اكتسح كاتدرائية نوتردام، أسكتت جائحة كورونا الأصوات في "كاتدرائية" ترابط العالم هذه. وحولت مطار شانغي إلى رمز لما يقول المحللون أنه قد يكون عقدا ضائعا للسفر والتجارة والاستثمار والهجرة وذلك عندما تُخلِي عقودُ العولمة الساحةَ لحقبةِ التباعد الدولي.

اختفاء المسافرين

يقول آدم بوزين، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد بواشنطن، "في ظل اختفاء الحروب بين القوى العظمى لم نشهد أبدا أي شيء مثل هذا إطلاقا." ففي مطار شانغي، وهو أحد أعظم مراكز السفر في العالم، هبط عدد المسافرين من 5.9 مليون في يناير إلى 25 ألفا فقط في أبريل أو بنسبة 99.5%. وانخفض عدد شركات الطيران التي تخدم المطار من 91 شركة إلى 35 شركة. كما توقف مؤقتا استخدام مبنيين من مباني المسافرين الأربعة وتأجلت خطط إنشاء المبنى الخامس لفترة عامين على الأقل.

من جانبه، حذر رئيس وزراء سنغافورة لي هسين لونغ من أن "القطاعات التي تعتمد على السفر مثل الطيران والفنادق والسياحة سيلزمها وقت طويل للنهوض على قدميها مرة أخرى. بل ربما لن تتعافي تماما أبدا."

تهديد ترابط العالم

لكن السفر طريقة واحدة فقط من بين طرق عديدة يعرقل بها فيروس كورونا "ترابطية العالم". فالجائحة تعرقل تدفق القوى العاملة والأموال والسلع والذي عزز باستمرار ترابطَ عالم ما بعد الحرب الثانية وساهم في انتشال أكثر من بليون شخص من جب الفقر منذ سقوط حائط برلين وحقق استقرارا وازدهارا غير مسبوقين لمعظم أهل الكوكب. يمكن تلخيص ذلك بالإشارة إلى أن استثمار الولايات المتحدة في الصين رفع الطلب على فول الصويا الذي بدوره مكَّن المزارعين البرازيليين من شراء السيارات الألمانية.

بدأ هجوم القومية الاقتصادية على العولمة حتى قبل ظهور أعراض كوفيد-19 في أوائل المصابين بفيروس كورونا بمدينة ووهان في الصين في ديسمبر الماضي. لكن الفيروس الذي أصاب 9.6 مليون شخص على الأقل وقتل 378000 تقريبا (عند كتابة هذا التقرير) يعيد الآن تشكيل العلاقات الثقافية والاقتصادية والسياسية المتطاولة في عالم يتزايد فيه الاستقطاب.

يقول بوزين أن الجائحة " قدَّمت الآن سببا إضافيا لمنع التواصل بين البشر والتبادل الثقافي والاقتصادي. إنه تآكل العولمة. ولكنه أيضا تسارعُ تغييرٍ بدأ سلفا."

جلب العقد الذهبي للعولمة الازدهار. لكنه أيضا قاد إلى "الانكماش العظيم" في أواخر العشرية الأولى عندما تسبب إفراط الناس والحكومات في الاقتراض ورخص وسهولة وخطورة الأدوات المالية وضعف إجراءاتها التنظيمية إلى انهيار وخسارة المدخرات الشخصية والاحتياطيات الوطنية. وشهد العقد الذي أعقب ذلك ظهور "الحمائية" ولم تستعِد أنماط التجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية المباشرة وضعها المعهود أبدا. لكن ربما أن ذلك ليس شيئا مقارنة بما سيأتي لاحقا.

قليلون هم أولئك الذين ينادون بالتراجع عن العولمة. ويظهر التأثير المهم لكن السطحي نسبيا للجائحة على الشحن البحري مقارنة بالسفر رغبةَ الناس والشركات والبلدان في مواصلة التعامل التجاري. لكن فيما يشير تعافي الأسهم واستئناف الشركات لنشاطها إلى الرغبة في العودة السريعة إلى الوضع المعتاد إلا أننا سنشهد تغيرا ربما لسنوات قادمة في طريقة سفرنا وعملنا واستهلاكنا واستثمارنا وتفاعلنا وهجرتنا وتعاوننا حول القضايا الدولية وسعينا للازدهار.

سياح أقل وإفلاس شركات طيران

تشير أعداد المسافرين إلى ما يحدث عندما يتجمد العالم في مكانه. لقد أثرت الجائحة على السفر العالمي على نحو لم يفعله أي حدث آخر طوال التاريخ. فبحلول الربيع كان كل بلد تقريبا قد فرض نوعا من القيود على القادمين إليه، بحسب منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة. وفي أبريل تدنَّت حركة السفر الجوي العالمي إلى مستويات لم نشهدها منذ أعوام السبعينات.

ويتوقع المحللون الآن هبوطا قياسيا في أعداد السياح حول العالم بنسبة تصل إلى 80%على أساس سنوي . عليك أن تقارن ذلك بفترة الانكماش العظيم في 2009 عندما كانت نسبة الانخفاض 4% فقط، أو أثناء جائحة سارس عام 20002 حين كانت 0.4% فقط.

لقد أعلنت شركات طيران عديدة إفلاسها ومن بينها لاتام الشيلية وآفايانكا الكولومبية وفيرجين استراليا وفلايبي البريطانية. لكن انهيار صناعة السفر لا يهدد خطوط الطيران والفنادق فقط بل أيضا جهود الحفاظ على البيئة في بلدان مثل ناميبيا الفقيرة التي تمكِّنها دولاراتُ السياح من الحفاظ على أكبر محمية طبيعية في العالم لحيوان وحيد القرن الأسود. كما يهدد هذا الانهيار التبادل الثقافي كالبرامج الدراسية التي تبعث بآلاف الطلاب الأمريكيين لبلدان أخرى في كل عام والتي الآن إما عُلِّقَت أو أُجِّلَت أو ألغيت. ويهدد أيضا أنشطة الأعمال والاتصالات الأخرى.

ويشير دانييل راندي، مدير مشروع الازدهار والتنمية بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، إلى انعقاد مؤتمر عن بُعد مؤخرا (عبر تطبيق زوم) حشد 20 شخصا من الولايات المتحدة والبرازيل وكولومبيا للتداول حول مستقبل غابات الأمازون المطيرة.

يقول راندي " لم تكن هنالك لقاءات جانبية قبل المؤتمر لتنسيق المواقف. ولا يمكن أن تفهم لغة الجسد من صورة فيديو غائمة. لذلك فقد المجتمعون القدرة على الاتصال غير اللغوي. وكان هنالك توتر، ربما بسبب ذلك". ويضيف " لم يكن بمقدورك بعد انفضاض المؤتمر الخروج من القاعة واستكمال الحوار (كما يحدث في المؤتمرات العادية). وينتابك شعور بانك فقدت 50 % من المعلومات التي تحتاج إليها كي تؤدي مهمتك."

وحول العالم تشهد مدن الفئة الثالثة والرابعة مثل كوردوبا في الأرجنتين وكراكوف في بولندة وأوستن في ولاية تكساس الأمريكية عودة بطيئة للارتباط الكامل بالعالم.

لكن هذا الانهيار لا يقتصر فقط على السفر عن طريق الجو. فحركة السيارات والمشاة عند الحدود البرية للولايات المتحدة مع المكسيك وكندا تقلصت إلى أدنى مستوياتها. وقد يتضح أن من العسير إزالة الحواجز المنتصبة على حدود الاتحاد الأوروبي التي كانت مفتوحة يوما ما في الماضي . يقول جون جرانت، كبير المحللين بشركة بيانات السفر البريطانية أو أيه جي ، "ما تفعله الحدود هو أنها تزيد من العزلة وتقودنا إلى اتخاذ مواقف حمائية انعزالية حول العالم في كل شيء نفعله." ويرى أن كل تلك الأشياء المدهشة التي نتعلمها ونتشاركها في التاريخ والمعرفة والخبرات الثقافية تتجه إلى انتكاسة".

الهجرة والتحويلات المالية للمهاجرين

أيضا أدت الإغلاقات الوطنية إلى إبطاء التدفق غير القانوني للبشر عبر الحدود. فعلى الحدود الأمريكية المكسيكية هبط عدد المحتجزين أو المطرودين بواسطة دوريات الحدود الأمريكية إلى 15862 شخص في أبريل وهو أقل بحوالي 47% من مارس. وتلك أكبر نسبة هبوط شهري خلال 20 عاما على الأقل، بحسب مركز بيو للأبحاث.

وكانت المملكة السعودية قد أعلنت خفض عدد من يسمح لهم بالحج هذا العام إلى ما لا يزيد عن 10 ألف حاج. وكان عددهم في العام الماضي 2.5 مليون حاج.

وتظهر البيانات التي جمعتها منظمة الهجرة العالمية من 35 نقطة عبور رئيسية في غرب ووسط إفريقيا انخفاضا في الهجرة بنسبة 48% في الفترة من يناير إلى أبريل.

وهبط عدد العابرين غير الشرعيين للحدود في منافذ الهجرة الرئيسية إلى أوروبا بنسبة 75% إلى حوالى 1470 شخص وهو أقل عدد لهؤلاء المهاجرين منذ بدأت وكالة الحدود الأوروبية (فرونتيكس) جمع بياناتهم في عام 2009.

اتضح ان بعض الانخفاض في هذه الأرقام مؤقت. فعدد القادمين غير الشرعيين إلى أوروبا مثلا ارتفع إلى 4260 شخص في مايو. نعم لايزال عددهم متدنيا في هذه الفترة من العام لكنه يشير إلى أن احتدام أوضاع الأمن الغذائي في بعض البلدان النامية بدأ يؤثر على الناس بقدر يفوق مخاطر عبورهم الحدود وسط الجائحة. ويمكن ان يتزايد تدفق الهجرة غير القانونية مع تزايد تعقيد الوسائل القانونية. فالبلدان الأكثر ثراء أغلقت مكاتب الهجرة واللجوء والخدمات القنصلية مما زاد من تراكم المعاملات غير المنجزة. ولايزال بعضها ينتظر البت منذ أعوام. لقد علَّق بلَدَان على الأقل هما اليابان وكوريا الجنوبية سريان تأشيرات سبق لهما إصدارها.

ويواجه بعض الطلاب الصينيين عراقيل جديدة أمام التحاقهم بالمؤسسات التعليمية الأمريكية. وقرار الرئيس دونالد ترامب بوقف إصدار العديد من البطاقات الخضراء الجديدة والتأشيرات للعمال الأجانب على الرغم من القول بأنه مؤقت ألقى بظلال سالبة على مصائر خبراء الإعلانات السويديين وأساتذة رياضية الجيوجيتسو البرازيلية الذين يأملون في الهجرة والاستقرار بالولايات المتحدة.

ومع طول أمد بقاء المهاجرين الفقراء في أوضاع البطالة أو عودتهم إلى ديارهم، يتوقع البنك الدولي انخفاض تحويلات المغتربين إلى بلدان الدخل المنخفض والمتوسط بحوالي 20% تقريبا هذا العام. وهو الأكبر على الإطلاق. هذا يعني تقريبا أن المزيد من العائلات الأشد فقرا في العالم ستكون أقل قدرة على الحصول على الغذاء والدواء. وكحصة من الناتج المحلي الإجمالي في تلك البلدان ستهبط التحويلات المالية من الخارج هذا العام إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1999.

تكمن خلف هذه الأرقام معاناة يعجز عنها الوصف. فالمهاجرون الفنزويليون وهم لاجئون من أزمة إنسانية وضعتهم أسفل السلم الاقتصادي الاجتماعي في أمريكا اللاتينية يعودون أيضا إلى بلدهم بعد أن وجدوا أنفسهم بلا عمل في البدان المجاورة التي دخلت فجأة في انكماش اقتصادي.

حكاية مهاجر فنزويلي

لويس مدينا عامل فنزويلي ،21 عاما، فرَّ من الدولة الاشتراكية المنهارة إلى بلدة غواياكيل في الإكوادور. تمكن مدينا من تأمين وظيفة عامل طلاء منزلي. وكان يرسل معظم دخله وهو حوالي 160 دولارا إلى والدته لشراء الطعام ولمساعدتها في معركتها مع السرطان . وعندما اجتاح فيروس كورونا الإكوادور أغلقت اقتصادها وفقد مدينا عمله. يقول"لم أعد قادرا على استئجار مسكن أو شراء الطعام". أنهى مدينا حلم هجرته ولأنه لا يملك ثمن تذكرة الحافلة شرع في العودة إلى بلده مشيا على قدميه منتصف مارس. وكان يلزمه قطع 1700 ميلا في أثناء رحلة العودة. وبعد شهرين كان لايزال في الطريق. وفي كولومبيا وعلى مبعدة 900 ميل من موطنه يقول مدينا " أنا عائد بجيوب فارغة. المستقبل غامض وأخشى على نفسي، لكن خصوصا على عائلتي".

رأس المال والسلع والخدمات

ربما ما هو أكثر إيلاما للاقتصاد العالمي تباطؤ تدفق رأس المال والسلع والخدمات. فحسب التقديرات، ستتراجع التجارة بنسبة 13.4% هذا العام. وسيقلص هذا الهبوط الأكثر حدة على مدى 60 عاما على الأقل من حجم التبادل التجاري ويعود به إلى مستواه في عام 2014.

كما من المتوقع انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصادات الصاعدة (ممثلا في الجسور الجديدة والطرق والمصانع والموانئ التي تقدم للعالم النامي فرصة الازدهار) بحوالي 20% وإلى مستويات عام 2006. ويتوقع أن يهبط الاستثمار الأجنبي المباشر كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى أدنى مستوى له منذ أوائل تسعينات القرن الماضي.

وكان مشروع "فاكا مويرتا" الضخم الذي يتوقع أن يوجد 22 ألف وظيفة ويضاعف إنتاج الأرجنتين من النفط والغاز خلال 6 أعوام باستغلال ثاني أكبر ترسبات للنفط الصخري في العالم أحاطت به متاعبها الاقتصادية قبل مجيء الجائحة. لكن بعد أن تسببت الإغلاقات في تدهور أسعار النفط العالمية تراجعت الشركات الأجنبية عن خططها الاستثمارية.

وتشعر البلدان النامية بالقلق خصوصا من انسحاب الاستثمار الصيني الذي يشكل أحد القوى الرئيسية المحركة لمشروعات البنية الأساسية في الاقتصادات الصاعدة. ويشير المحللون في هذا الصدد إلى الميناء الضخم الذي من المقرر إنشاؤه في ليما بدولة البيرو ومشروع السكك الحديدية الذي يهدف إلى ربط المزارعين وعمال المناجم في ولاية باهيا البرازيلية الفقيرة بميناء يطل على الأطلنطي والأسواق العالمية.

تقول مارجريت ميرز، مديرة برنامج آسيا وأمريكا اللاتينية بمركز الحوار بين الأمريكتين في واشنطن، أن مشروع البرازيل يحتاج إلى تمويل كبير ولم يبدأ العمل فيه بعد وهناك أسباب كثيرة لذلك. تشرح ذلك قائلة" عندما تنظر إلى العوامل المختلفة المتعلقة بالمخاطرة ستجد أنه من نوع المشروعات التي يرجح فشلها في الوقت الحاضر".

كما انخفضت الإعلانات عن المشروعات الاستثمارية الجديدة والإندماجات والاستحواذات العابرة للحدود بأكثر من النصف على أساس سنوي في الشهور الأولى من العام الحالي، بحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية.

إلى ذلك تهدد الجائحة التعاون الدولي حول القضايا الكونية. فالأرجنتين التي وقعت في قبضة انكماش قاس وعزلت نفسها علَّقت تنفيذ مشروعات الطاقة البديلة لمحاربة التغير المناخي إلى أجل غير مسمي. وتتوقع وكالة الطاقة العالمية انخفاض الطاقة الكهربائية الجديدة المضافة الى سعة التوليد في العالم بنسبة 13% هذا العام. وسيكون هذا أول تباطؤ منذ عام 2000.

تباعد دولي

يعمق التباعد العالمي ( للبشر والسلع ورؤوس الأموال) من الأثر الوحشي للإغلاقات ويفاقم من حدة البطالة ويضعف الطلب. فالاقتصاد العالمي يعاني من أسوأ انكماش يشهده منذ الحرب العالمية الثانية، بحسب البنك الدولي. وكانت معظم البلدان تتعرض لتراجعات اقتصادية في وقت ما منذ عام 1870. لكن التراجع الاقتصادي الحالي يشكل رابع أعمق انكماش خلال فترة ال 150 عاما الأخيرة. وهو ضِعف الانكماش العظيم في أواخر العشرية الأولى.

ومن المتوقع أن يدفع بحوالي 100 مليون شخص حول العالم إلى فقر مدقع. وسيكون هذا أول ارتفاع في نسبة الفقر منذ الأزمات المالية في آسيا وأمريكا اللاتينية أثناء أعوام التسعينات. كما سيكون أكبر ارتفاع منذ شروع البنك الدولي في رصد أعداد الفقراء عام 1990.

يقول أيهان كوس، مدير مجموعة آفاق التنمية بالبنك الدولي، "مهما كان التقدم الذي حققناه خلال العقود الماضية قد ينتهي بنا المطاف إلى فقدان ذلك التقدم. لا سبيل إلى عدم اختفاء بعض المكاسب. المهددات التي تواجهها العولمة مهمة."

وحتى قبل الجائحة بدأت الحمائية الاقتصادية المتزايدة بعد الانكماش العظيم وعودة الحروب التجارية (بين الولايات المتحدة والصين أساسا) في إغلاقَ الأنابيب التي تتدفق عبرها السلع والخدمات ورؤوس الأموال.

والآن في ظل كوفيد-19 تتحرك بعض البلدان المتأثرة بِهِمَّةٍ غير مسبوقة لحماية صناعاتها.

فإيطاليا راجعت منذ فترة الاستثمارات الأجنبية في قطاعات الأمن والدفاع والنقل والاتصالات. لكن مع تطاول أمد معاناتها من انكماش اقتصادي قاس وحزنها على أمواتها زاد مرسوم طوارئ إلى حد كبير من سلطة الحكومة على الاعتراض على الاستثمار الأجنبي المؤثر في أية شركة تعمل في مجال الكهرباء والصحة والإعلام وجمع البيانات والفضاء وأنظمة الانتخابات والبنوك والتأمين والروبوتات والتكنولوجيا الحيوية.

يقول أدولفو اورسو، وهو عضو في مجلس الشيوخ عن حزب أشقاء إيطاليا اليميني، هنالك حاجة للتصدي لمحاولات اقتناصنا من بلدان الشرق والجيران الأوروبيين على السواء. ويقول إن فيروس كورونا أحدث تغييرا في مفهوم "الأصول" الوطنية الحيوية. يشرح ذلك بقوله لنفترض أن شركة تصنيع لقاحات (وطنية) تتهددها استحواذات عدائية (من شركات أجنبية). مثل هذه الشركة ستكون اليوم شركة استراتيجية، مثلها في ذلك مثل أية شركة صناعات دفاعية".

أثارت القيود الجديدة قلقا وسط رجالات الصناعة الإيطالية الذين يقولون إن اقتصاد بلدهم سيحتاج بعدما طال ركوده إلى المزيد من رأس المال الأجنبي للخروج من هذه الأزمة.

يقول انتونيو كالابرو، نائب رئيس اتحاد الغرف الصناعية اسولومباردا في ميلانو، أن اقتصاد بلدهم بأكمله مُدرَج في تلك القائمة (التي يمكن أن تحظر الحكومة على رأس المال الأجنبي الاستثمار فيها) باستثناء "سُترات" جورجيو آرماني وبعض "كراسي وأرائك" مقاطعة بريانزا. ويعتقد الاتحاد أن ذلك يناقض فكرة "الأسواق المفتوحة".

في بداية الجائحة ظهرت فجأة وعلى امتداد العالم الحاجة لأجهزة التنفس وأقنعة الوجه ومعدات الحماية الفردية الأخرى. اقترن هذا الطلب الفجائي مع عجز الشركات (التي تصنع كل شيء من الجرارات إلى الحواسيب) عن تأمين احتياجاتها من المصانع المغلقة في الصين. وأدى ذلك إلى تدافع عالمي مسعور للحصول على أية بدائل ممكنة وغالبا بأي سعر.

خلفت هذه التجربة أثرا مؤلما على البلدان والشركات مع إعادة فتح المصانع واستقرار سلاسل التوريد. وعززت المطالبات بإرجاع الوظائف الصناعية إلى البلد الأم أو على الأقل نشرها بين بلدان عديدة وأكثر قربا.

ومن الممكن أن يعني ذلك ظهور مجموعة جديدة من الكاسبين والخاسرين. فالضغوط ستزداد على بعض الشركات للرحيل عن الصين التي أدى ارتفاع الأجور وتكاليف الأراضي بها إلى انتقال الوظائف الصناعية منها إلى بلدان الأجور المنخفضة مثل فيتنام واندونيسيا. ويمكن أن تستقبل المكسيك المزيد من وظائف الشركات التي تستهدف أسواق الولايات المتحدة. فهي ترسل إليها السلع عبر الحدود المشتركة برا وبحرا وجوا.

رغما عن ذلك، استعادة الوظائف المعولمة إلى البلد الأم أكثر صعوبة من تصور الساسة لها. اكتشف ذلك كارلتون سول بعد أن دفع ثمنا باهظا.

كانت شركة جي 95 التي يديرها سول بالقرب من اتلانتا ستحقق مكاسب جمة من جائحة كورونا. فهي تصنع الملبوسات من شاكلة أغطية الرأس والوشاحات المزودة بتكنولوجيا خاصة لتنقية الهواء وتعتبر مثالية في أوقات الجائحة. عندما أغلق الموردون الصينيون نشاطهم حاول سول نقل عمليات إنتاج شركته من هناك إلى ميشيجان. لكن سرعان ما تراجع عن ذلك بسبب التأجيلات المتكررة للإنتاج ورداءة النوعية وتصاعد التكاليف. فتكلفة صنع شعار الشركة لوحده ارتفع من 20 سنتا في الصين إلى 3.4 دولارا في الولايات المتحدة. يقول سول أنه أجبر على رفع الأسعار وتضرر هامش أرباحه من ذلك.

استأنف سول الإنتاج من الصين في مايو. يقول "في نهاية الأمر الشيء الذي يتقنه الصينيون هو كيفية إنتاج الأشياء بأعداد وفيرة. وكانت محاولة الانتقال إلى الولايات المتحدة عملا ضخما بالنسبة لنا كشركة. لا أعلم. سنواصل البحث عن بدائل في الولايات المتحدة والبلدان القريبة منها. نحن نودًّ أن نفعل المزيد هنا. لكن لا أعرف كيف."