يييييي
يييييي
الثقافة

"حفريات النص الشعري الجذري" للرباعي.. التأويلية إطارا

16 يوليو 2020
16 يوليو 2020

عمّان - العمانية: يحتفي د.عبد القادر الرباعي في كتابه "حفريات النص الشعري الجذري" بالهيرمنيوطيقا، أو التأويلية وتمثلاتها في تحليل الخطاب الشعري، وبما يندرج ضمن اهتمامات الناقد في القراءة الجمالية للشعر العربي في أصوله العريقة خاصة. ويستهلّ الرباعي كتابه الصادر عن "الأهلية للنشر والتوزيع"، بفحص مرتكزات التأويلية من خلال آراء أقطابها المؤثرين أمثال: "شليرماخر"، و"دلتاي"، و"هيدغر"، و"جادامر"، و"بول ريكور". لكنه يفيد من نظريات ما بعد الحداثة أيضاً، مثل "السيميائية"، و"جماليات التلقي".

وللتأويلية في الكتاب أعمدة فلسفية تتمثل بمثلث يحمل أساسها الفكري. وأهم عناصره: "الفهم" أولاً، و"التفسير" ثانياً، و"التطبيق" ثالثاً. ولأن هذه العناصر تعمل على تحليل نص الخطاب، فإن عملها متشابك ومتحد في آن. فقد ركز "جادامر" بشكل خاص على العنصر الثالث (التطبيق)، لأنه -بحسب ما يرى- تجسيد للمعنى وتطبيقه في ذات المؤول. ولهذا قال: "إن الانصهار الداخلي للفهم والتفسير يقود إلى العنصر الثالث في المشكلة التأويلية؛ أي التطبيق".

وتعليقاً على هذا الرأي يرى الرباعي أن مصطلح "التمثل" قد يكون أقرب من مصطلح "التطبيق" إلى فهمنا للفن عامة، والشعر خاصة؛ ذلك لأن مرحلة التأويل مرحلة معقدة، فهي تتركز على فاعلية الذات بإقامتها حوارا داخليا مع أبنية النص، وفراغاته، وتحيزاته. ويؤكد أن هذه المهمة الصعبة تحتاج إلى ما هو أكثر من الفهم الأولي والتفسير الظاهري لمجموع تلك الأبنية. ومن أجل هذا لا بد من مرحلة أكثر حفراً في العمق تمتزج فيها ذات المؤول بكل حيثيات النص الداخلية على تشابكها وتقاطعها وتعقيداتها، ومن ثم الغوص في أبعادها المحتملة أو الممكنة، لاتخاذ موقف ذاتي يبلورها نص جديد ولّده التمثل الذاتي لقارئ النص قبل التأويل.

ووفقاً لما يرى الرباعي، لا تتكامل عملية الحفر المعمقة إلا بتقمُّص أبعاد النص السطحية والعميقة أو ما يكن تسميته "مرحلة التمثل"، وهي مرحلة شعورية إنسانية جمالية فنية تليق بعالم الشعر خاصة، والفن عامة. وهي تتجاور مصطلح "التطبيق" الذي يمكن أن ينصرف إلى تحقيق مفردات الفهم والتفسير آلياً، بعيداً عن الحفر الإنساني لبواطن النص. ولأجل هذه العملية الحفرية للمعاني الإنسانية الداخلية العميقة اختير مصطلح "حفريات" بدايةً لجملة العنوان/ العتبة الأولى. ولأن مصطلح "الجذري" في العنوان قد يثير إشكالاً للفهم عند بعض القراء، يوضح الرباعي لوكالة الأنباء العمانية أنه منذ كتابه الأول "الصورة في شعر أبي تمام" (1976) كسر مفهوماً مكرَّساً للتفريق بين الشعرين القديم والجديد إبداعاً ونقداً، وهو مفهوم تبنّاه "نفرٌ محافظ ومؤثر في بعض الأوساط المعرفية والنقدية". وبدلاً من ذلك التفريق، يدعو الرباعي إلى أن نتعامل مع الفن والشعر على أساس الخصوصية الخاصة، بعيداً عن التصنيف الزماني والمكاني؛ لأن للفن - والشعر جزء مفصلي منه - روحاً تحيا بـ"الموهبة والإبداع والتشكيل الفني الراقي".

ويضيف: "لقد كُرِّس ذلك منذ أن عرف التاريخ طبيعة الكلمة النابضة بالحياة والجمال والإنسان، زمن أفلاطون وأرسطو ومن تلاهما كالجاحظ والجرجاني وحازم القرطاجني. ومن ذلك الشعر اليوناني والروماني إلى يومنا هذا". وانطلاقاً من هذا، ينظر الرباعي إلى الشعر العربي نظرته لشجرة باسقة؛ جذرها في الأرض وعلوّها ممتد لا حدود له. ويتابع بقوله: "ما الشعر الذي أُطلقت عليه سمة العصور القديمة إلا شعر جذري، لكونه الجذر لكل ما نما منه كالشعر العمودي، وشعر التفعيلة، وقصيدة النثر، وما سيتلو".

وبناء على هذا الفهم لتأسيس مفهوم جديد للشعر العربي يتجاوز الزمن إلى الشكل، أطلق اسم "النص الشعري الجذري" بديلاً للنص الشعري القديم، وفي هذا السياق قرأ قصيدتين جذريتين، إحداهما لكعب بن زهير، وثانيتهما لابن المعتز. ومن بعدهما أعاد قراءة نماذج من التراث النقدي التطبيقي في ضوء النظرية التأويلية التي حمل مرجعياتِ آفاقِ مصطلحها الفصلُ الأول من الكتاب. ويخصص الرباعي الفصل الثاني لقراءة النص الجذري الأول وتحليله (قصيدة البردة للشاعر كعب بن زهير)، وهي القصيدة التي اكتسبت اسمها وشهرتها لأن الشاعر ألقاها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُعجب بها الرسول الكريم وألقى بردته المباركة على شاعرها تقديراً لما فيها من معانٍ إنسانية عميقة وخيرة وسامية.

وإطلاقاً للفائدة التي اكتسبها المؤلف من الفكر النقدي العالمي، انقاد إلى أن يحلل قصيدة كعب تحليلاً سيميائياً تأويلياً. والتأويل كما هو معروف، يشكل العنصر الذي أضافه "بيرس" إلى السيميائية متجاوزاً به عنصرَي الدالّ والمدلول عند "دي سوسير". فقد أضاف إليهما "بيرس" –بحسب الرباعي- عنصراً ثالثاً هو "المؤول"، موضحاً أن السيميائية في أصولها الأولى تنتحي نهج البنيوية في سيادة المنهج العقلي لدراساتها حول الشعر والفن عموماً، إلا أن أعلامها المتأخرين انحازوا إلى المنهج الجمالي في النقد؛ وذلك بإعلائهم المعنى الإنساني، فالعلامة السيميائية عند "جيرالد لودال" مثلاً تُعنى بالرابط الجمالي بين عالم الإنسان وعالم الأشياء، في شكل فني ذي دلالات حية تنأى عن التجريد والجمود.

ويخصص الرباعي الفصل الثالث لتحليل "عينية" ابن المعتز، ومطلعها: ا

الدار أعرفها ربىً وربوع

حتى أساء بها الزمان صنيعا.

ويؤكد المؤلف أن تحليله للخطاب في نص هذه القصيدة، أتى من خلال الوعي لإنتاجية التأويل، مستفيداً من نظرية التلقي واهتمامها بأفق النص. من خلال استجابته لمصفوفة الأفق هذه، وجد طريقه إلى الفهم ومنه إلى التأويل، مؤكداً أننا حين نؤول نصاً فإننا نُحدث علاقة حميمية بين تجربتنا وتجربة الآخر. فالمهمّ كما يقول مصطفى ناصف: "تجربة الاكتشاف، وتجلي الذات، ومعرفة النفس، وانفتاح الأفق واستقطاب المعنى الإنساني الأعمق في النص".

ولمّا كان عبدالله بن المعتز صاحب تجربة عميقة ومؤثرة في الحياة الأدبية والسياسية، فإن – الرباعي لم يشأ المطابقة بين حياته الشخصية والمدلولات الأولية لجمله الشعرية، بل اتجه إلى تأويل شعره في مستوى الفن، ومعاينة التجربة الإنسانية التي قد يكون لها إسقاطات مميزة وخصوصية، خاصة في الفهم والتأويل النصي لشعره. ووفقاً للرباعي، فإن استغلال نظرية التأويل بالفهم السوي لمدخلاتها الفلسفية ومخرجاتها الجمالية، يمنح الناقد الماهر آفاقاً واسعة يطل منها على أبعاد متفوقة في قراءاته للشعر قديماً وحديثاً، على أساس أن الشعر أينما وُجد: زماناً ومكاناً، مكوِّن جمالي إنساني يستوي فيه الفن شكلاً والمعنى روحاً؛ بقطع النظر عن اختلاف اللغة والعصر والجنس. ومن خلال هذا الفهم لطبيعة الشعر ومهمته في الحياة والكون، يقرأ المؤلف شعرنا الجذري والحصيلة النقدية التي مورست عليه قديماً، قراءة تأويلية معاصرة، مؤكداً أن هذه القراءة منحته فرصة لتجريب ثقافته وذوقه، ومن ثم التوازن بين رؤيته وفعله، في عمق الاكتشاف، وحيوية التمثل، وبراعة التطبيق والتأويل.

ويوضح الرباعي في هذا السياق: "لسنا هنا لنحاكم أسلافنا النقاد القدماء في ما نظن أنهم أخطأوا فيه، إذ ليس من الصواب أن نقيس مقاييسهم بمقاييسنا الحاضرة، ولكننا حاورنا الشعر الذي قالوا فيه كلاماً نقدياً، محاورة جديدة مختلفة نوعاً؛ فوصلنا فيها إلى اكتشاف قيم جمالية لم تكن اكتُشفت من قبل. وبناء على هذا نقول: إن معيار العقل والمنطق، وكذلك معيار الأخلاق والواقع، قادا إلى تكريس الشكلية مبدأً أساسياً طُبّق على الشعر والشعراء، ولوّن الجزء بعيداً عن أثر الكل، الأمر الذي ترك المنقود مكشوفَ الظهر، معرضاً للميل عنه، أو الحيف عليه".

وخلاصة ذلك وفق الرباعي، أن النقاد اعتمدوا في نقدهم مبدأ نقدياً ثابتاً عند أكثرهم، تمثل بعمود الشعر الذي جلب معايير غدت قوانين لا حيدة عنها. وكان من نتائج ذلك محاصرة الشعراء الجدد الذين ابتعدوا عن نهج القديم خاصة، ومناصرة الشعراء الذين اعتقدوا أنهم ما زالوا يسيرون وفق سنن القديم. ويضيف: "إنّ مناصري هؤلاء الشعراء جاروا عليهم أكثر مما جاروا على الشعراء الجدد. ذلك أنهم أدرجوهم في زمرة المقلدين أكثر من إدراجهم في زمرة المبدعين. ومثال ذلك الشاعر البحتري الذي احتفوا به ظناً منهم أن شعره يحاكي سياق الشعر القديم، وهو لهذا السبب تفوق -بحسب مقياسهم- على أستاذه أبي تمام شاعر البديع، الذي خرج في نصه الشعري على المألوف والمتبع. ويحدثنا التاريخ في رصده لأقوال البحتري أنه لم يكن مبتهجاً بأحكامهم في تفوقه على أستاذه".

وأخيراً يمكن القول إن هذا الكتاب ينطلق من مكونات التأويل المتماسكة، مؤولاً نصوصاً شعرية، ومراجعاً نقوداً تراثية وفق رؤية نقدية عصرية تستحضر "الحفر جمالياً في جذور النص الإبداعي"، معتمداً طروحات أهم النظريات العالمية التي اعتمدت تمثلات التأويلية أسساً مكينة، لاستيعاب منطلقاتها الفكرية والتطبيقية. وقد أسعفت تلك الأسس في الإجابة عن أسئلة المعرفة المعقّدة في جوانب البحث موضع الإشكال، وحل التشابكات والاختلافات، انتصاراً للفكر الحداثي الخلّاق.