أفكار وآراء

بين الحرية والاستبداد وما بينهما

15 يوليو 2020
15 يوليو 2020

بين الحرية والاستبداد وما بينهما -

في كتابه الشهير «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» طرح الكاتب المجدد الدكتور عبدالرحمن الكواكبي في هذا الكتاب الشهير المساوئ والسلبيات التي أنتجها الاستبداد، في الوطن العربي.

حيث كانت تحت الخلافة العثمانية آنذاك، وهي بدايات الرجل المريض، التي كانت عليها هذه الدولة، بسبب حروبها الواسعة مع أوروبا، وأنهكت هذه الحروب القوة العثمانية، بسبب أن الدول الأوروبية كبيرة ومتقدمة عسكريا، فاستطاعت في النهاية هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وجاء انتقاد الكواكبي للدول العربية التي كانت شبه مستقلة عن الخلافة، في أواخر القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، حيث عشش فيها الاستبداد، وأسهم في تخلفها في كل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية، إلى جانب التخلف الاقتصادي والعسكري، وكانت هذه الظروف إيذانا بالغزو الاستعماري لمعظم البلاد العربية، وساهم الاستعمار في هذا التخلف وأيد واقعها المأزوم، والذي سماه الكواكبي، بـ(الاستبداد الخارجي)، أما الاستبداد الداخلي، فهو من أبناء جلدتنا، بالقياس إلى تلك الظروف والتحديات الكبيرة التي حصلت للأمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وما طرحه الدكتور عبدالرحمن الكواكبي، هو التنبيه والتذكير بما يجنيه طبائع الاستبداد، وجريرته على الأمة، سواء راهنًا أو مستقبلًا، حتى لا تحصل الكوارث والمشكلات التي تتفاقم من شروره وآثاره الوخيمة.

يقول الكواكبي في تعريف الاستبداد في هذا الكتاب: إن «أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويُسمى استبداد المرء على نفسه، وذلك أن الله جلّت نعمه خلق الإنسان جراء قائده العقل (:)، فـالاستبداد أعظم بلاء لأنه وباء دائم بالفتن، وجدب مستمر بتعطيل الأعمال، وحريق متواصل بالسلب والغصب، وسيل جارف للعمران، وخوف يقطع القلوب، وظلام يعمي الأبصار، وألم لا يفتر، وصائل لا يرحم، وقصة سوء لا تنهي».

ولا شك أن المجدد الكواكبي، يتحدث بألم كبير، مما يحدث في بلاد العرب والمسلمين في ذلك الوقت، من سياسات خاطئة، أتت بتوترات ومشكلات وتحديات، تحدث عنها البعض من الإصلاحيين، الذين، حملوا الإصلاح، والتذكير والتنبيه، بما آلت إليه الظروف والأحوال في ذلك العصر، والتي هي محصلة للاستعمار، وخاصة صيحة المجدد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، لكنهم في ظل الاستعمار وسطوته وظلمه، واجه هذه الدعوات الأصلامية، بالقوة والقسر، لإرغامهما على القبول بالوضع الاستعماري والاستبدادي، لأن ذلك الوضع يتماشى مع خطط وتوجهاته السياسية والاقتصادية.

ويتحدث الدكتور الكواكبي، عن الاستبداد والعلم، والمسافة الفاصلة بينهما، فيقول عن التباين وعدم التجانس بين العلم والاستبداد فيقول: «العلم قبسة من نور الله وقد خلق الله النور كشافاً مبصرًا، ولادًا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحًا للخير وفضاحًا للشر، يولّد في النفوس حرارة وفي الرؤوس شهامة، ـ كما ـ ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعّرف الإنسان ما حقوقه». ولا شك أن الدكتور الكواكبي، أراد أن يوضح أن العلم لا يتجانس مع الاستبداد ولا يتوافق معه،، فلو أن هناك رؤية عقلية ثاقبة، لما اختار البعض سلوكيات استبدادية، تجني على الأمة الويلات والمصائب، وما عاشه الشيخ الكواكبي من ظروف سلبية، ومن غيره، ممن انتقد الاستبداد، إنما هي الخبرة الحياتية التي عايشها، ومعرفة أخطاء السياسات المستبدة ومصائبها، وأن الرقي للمجد ـ كما يرى الدكتور الكواكبي ـ هو السعي الحثيث لنيله واكتسابه، ويقول: إنه «من الحكم البالغة للمتأخرين قولهم: ((الاستبداد أصل لكل فساد))، ومبنى ذلك أن البحث المدقق في أحوال البشر وطبائع الاجتماع كشف أن للاستبداد أثرا سيئا في كل واد.

وقد سبق أن الاستبداد يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده، وإني الآن أبحث في أنه كيف يغالب الاستبداد المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد. المجد هو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكل إنسان، لا يترفع عنه نبي أو زاهد، ولا ينحط عنه دنيء أو خامل».

وطرح الكواكبي في هذا الكتاب، قضية المال والاستبداد، وشرح الآثار غير المحمودة للجمع بين المال والاستبداد، إن لم يتم إتقان إخراجه في المجالات الصحيحة والمرسومة، ولذلك فالمال هو وسيلة لغاية مهمة وضرورية لدفع حركة الإنسان في مناحي الحياة، من أجل النماء والتقدم، وإنعاش الحياة الاقتصادية والاجتماعية إلى آخر الأهداف المتوخاة من هذا المال للغايات الشريفة، ويرى الكواكبي أن للمال مقاصد تتعدد بين أطراف عديدة، وفق اختصاصات أصحابه، فـ: «المال عند الاقتصاديين: ما ينفع به الإنسان، وعند الحقوقيين: ما يجري فيه المنع والبذل، وعند السياسيين: ما تستعاض به القوة، وعند الأخلاقيين: ما تحفظ به الحياة الشريفة. المال يستمد من الفيض الذي أودعه الله تعالى في الطبيعة ونواميسها، ولا يملك، أي لا يتخصص بإنسان، إلا بعمل فيه أو في مقابله. والمقصود من المال ـ

كما يرى الكواكبي ـ هو أحد أمرين لا ثالث لهما، وهما: تحصيل لذة، أو دفع ألم، وفيهما تنحصر كل مقاصد الإنسان، وعليهما مبنى أحكام الشرائع».

وتحدث المجدد عبدالرحمن الكواكبي، عن ضرورة الترقي، أي حاجتنا إلى التقدم والنهوض، مثلما حصل لأمم أخرى التي نهضت من واقعها المتخلف وتقدمت، وهذا هو الأهم لحاجة الأمة في راهنها آنذاك، للخروج من الظروف السلبية القائمة، ويقول في هذا الصدد: «إن الأمم التي يسعدها جدها لتبديد استبدادها، تنال من الشرف الحسي والمعنوي مالا يخطر على فكر أسراء الاستبداد، فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الأميرية برمتها، مكتفية في نفقاتها بنماء فوائد بنك الحكومة. وهذه سويسرا يصادفها كثيرًا ألا يوجد في سجونها واحد. وهذه أمريكا أثرت حتى كادت تخرج الفضة من مقام النقد إلى مقام المتاع.

وهذه اليابان أصبحت تستنزف قناطير الذهب من أوروبا وأمريكا ثمن امتيازات اختراعاتها وطبع تراكم كتبها».

إن صيحة عبدالرحمن الكواكبي، صحية قوية ومؤلمة، في وجه واقع مساوئ الاستبداد في ذلك العصر الذي يفصلنا عنه ما يقرب من قرنين، وها هي الأمة لا تزال تعيش أوضاعا صعبة، على الرغم من استقلالها، وتحسن أوضاعها في مجالات كثيرة، لكن السياسات التي وضعت عند بعضهم، أدت إلى انسدادات كثيرة، وهذا يعني أن الاستفادة مما طرحه الكواكبي في كتابه، كان قليلا أو معدما في معظم ما قاله في هذا الكتاب.