غادة-الأحمد
غادة-الأحمد
أعمدة

العبور من وادي الموت!

10 يوليو 2020
10 يوليو 2020

غادة الأحمد

مقالات نيلسون مانديلا، وخطاباته، ورسائله من وكره السريّ، ونصوص محاكماته. كلها تظهر بوضوح، جاذبية وتصميم هذه الشخصية البارزة، في النضال من أجل المساواة العرقية في جنوب إفريقيا. في كتابه «ليس سهلا الطريق إلى الحرية» الذي نقلته إلى العربية المترجمة ميرنا الرشيد وثيقة تاريخيّة حيويّة، تناقش وقائع زمنية وأفكارَ واحد من أعظم نشطاء الحريّة في العالم. يقول نيلسون مانديلا: «ليس ثَمَّة طريق سهل لبلوغ الحرية في أيّ مكان في العالم. وينبغي على الكثيرين منا، قبل أن نصل إلى قمّة رغباتنا، أنْ نعبُر وادي الموت مرارا وتكرارا». لم يكن اسمُه الحقيقي نيلسون مانديلا، بل «روليهلاهلا» كان اسم ميلاده. وكان يعني مثير المتاعب. لقَّبته معلمته في المدرسة الابتدائية باسم مانديلا، عندما لم تتمكَّن من لفظ اسمه الحقيقي. نشأ مانديلا وترعرع في بلدٍ، كان للون البشرة دورٌ كبير في الفصل بين سكانه. وعلى الرغم من أن السكان الجنوب إفريقيين، كانوا يشكلون غالبية عظمى بين قاطنيها، إلا أن نظام الفصل العنصري أخضعهم لسيطرة البيض، ناكراً حقهم في التصويت، متحكماً بكل جانب من جوانب حياتهم. بعد أن بلغ مانديلا مرحلة النضج، قرر أن يكرّس حياته للنضال من أجل المساواة السياسيّة والقانونيّة، لجميع مواطني جنوب إفريقيا. وقد عُرف بقدرته على التخفّي، لتجنُّب مطاردات الشرطة وقوات الأمن. فانتحل شخصية سائق تاكسي، وبستانيّ، وطاهٍ، لكي يتمكن من التنقل في أرجاء البلاد، دون أن تلحظه السلطات. عندما تمكنت حكومة الهيمنة البيضاء من إلقاء القبض عليه، مَثَل أمام محكمتها، مدافعاً عن حق أبناء شعبه، بالعيش الكريم والمساواة. فأُلصِقَت به تهم عديدة. ووضِع عام 1980 على لائحة الإرهابيين الدوليين، إلى أن أُزيلت عنه هذه التهمة عام 2008. اقتيد مانديلا بعد انتهاء محاكمة ريفونيا، التي هزت أصداؤها العالم بأسره، إلى جزيرة روبن المتجمدة لقضاء فترة محكوميته. وعند وصوله، كان بانتظاره هو ورفاقه المحكومون مجموعة من الحراس البيض، استقبلوهم بعبارة أفريقانيّة: «هذه هي الجزيرة. هنا سوف تموتون!». عومل مانديلا، السجين رقم 46664، خلال سبعة وعشرين عاماً من السجن، على أنه سجين سياسي من الفئة «د»، كان يُسمح له بزيارة لمدة ثلاثين دقيقة ورسالةٍ واحدة، كلّ ستة أشهر. كانت تُقتطع من الرسائل الأجزاء ذات المغزى السياسيّ. لم يتوانَ مسؤولو السجن عن ممارسة التفرقة العنصرية حتى داخل الزنزانات. وقد ذكر مانديلا في مذكّراته، أنه بينما كان يُمنَح السجناء الأفارقة سراويل قصيرة، في الشتاءات القاسية، كان أحمد كاثرادا الآسيوي الوحيد بينهم، يرتدي سراويل طويلة. كما كان للأفارقة نظام غذائيّ أسوأ، مما كان يُقدم لزملائهم من السجناء الآسيويين أو الملوَّنين. وعلى الرغم من كل هذه الظروف السيئة، وعدم كفاية الملابس الشتوية، والطعام غير الصحيّ، والعمل الشاق في المقلع الجيريّ في الجزيرة، حيث تضرَّر بصرُ مانديلا، بسبب وهج الشمس الساطع، المنعكس على جدران المقالع المتقشرة، ظلَّ صامداً، لا يُقهَر، محتملاً مرارة أيامه. وكان التحدي الأكبر بالنسبة له، ولكل سجين سياسي، أن يحافظ على حياته سليمة في السجن، ويظل متماسكاً بما يؤمن به من معتقدات، وأن تبصر عيناه الحرية وهو كلٌّ متكامل. لذلك كان لا بدّ له أن يبتكر سبلاً تمكنه من الصمود داخل حبسه. فكانت ممارسة طقوس الحياة اليومية، من غسل الملابس، وتنظيف الممرات من الغبار، وإعادة ترتيب الزنزانات، بما يفسح المجال لمساحة أكبر قدر المستطاع، تشعره بمقدرته على مواصلة الطريق، وأن ما كان يفعله في الخارج، يمكن له الاستمرار بفعله وهو حبيس الجدران الأربعة. نال مانديلا حريته عام 1990 حينها كانت خارطة إفريقيا قد تغيَّرت، عما كانت عليه قبل دخوله السجن، وبينما كان الأفارقة الأصليون يحكمون مكان أسيادهم البيض، انتُخب مانديلا، وقد بلغ من العمر سبعاً وسبعين سنة رئيساً لجنوب إفريقيا عام 1994، بانتخابات ديمقراطية للمرة الأولى منذ عهود طويلة. وعمل خلال فترة حكمه على حماية اقتصاد جنوب إفريقيا من الانهيار. كما بذل كل ما بوسعه، من أجل الانتقال من حكم الأقلية إلى حكم الأكثرية السوداء. وسخّر حماسة الأمّة في الرياضة، كنقطة محورية لتعزيز المصالحة بين البيض والسود، منطلقاً من حكمته القائلة: «إن أردت أن تصنع السلام مع عدوك، عليك أن تسير معه جنباً إلى جنب، ثم تجده قد تحول إلى شريك لك». في الخامس من ديسمبر 2013، وعن عمر يناهز الخامسة والتسعين، رحل عنّا قاهرُ أسطورة العبوديّة، وأبو الأمّة، ورفيق المظلومين والفقراء، بعد تدهور حالته الصحية، إثر معاناته من التهابات في الجهاز التنفسي، على مدى سنين طويلة، تعود جذورها إلى عام 1988، إلى أيام محكوميّته في سجن جزيرة روبن، لقساوة الطقس آنذاك، ورطوبة الزنزانات. كان لا بدّ له أن يحظى براحة أبدية، كما قال: «فالموت شيء حتمي، عندما يكون المرء قد أتمَّ ما عليه فعلُه، وأدَّى ما عليه من واجبات تجاه شعبه وبلده، حينها يمكن له أن يرقد بسلام. وأظنّني قد بذلْتُ من الجهد، ما يخوِّلُني، لأن أحظى بنومٍ أبديّ». ليس سهلا الطريق إلى الحرية: نيلسون مانديلا. ترجمة ميرنا الرشيد. دار المدى 2019