1489570_127
1489570_127
العرب والعالم

"أمريكا أولًا" أم "اللقاح للجميع"؟

08 يوليو 2020
08 يوليو 2020

كولوم لينش

ترجمة: أحمد شافعي

في الوقت الذي يسابق فيه العالم الزمن من أجل التوصل إلى لقاح ينهي وباء كورونا الذي لم يزل مستعرا، تهدد"وطنية اللقاح" الكفاح قريب الأجل ضد كوفيد 19 مثلما تهدد آفاق التعاون متعدد الأطراف على المدى البعيد.

لقد أبرمت البلاد الكبرى ـ ومنها الولايات المتحدة والصين وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ـ اتفاقات حصرية مع شركات أدوية لتصنيع أمصال وإنتاجها بكثافة لشعوبها الخاصة، الأمر الذي يثير مخاوف البلاد الصغيرة من استبعادها من هذا السوق. وثمة جهد منافس تقوده منظمة الصحة العالمية وتحالف من منظمات الصحة في العالم لتأمين ما يوصف بـ"اللقاح الشعبي" للبلاد الفقيرة ومتوسطة الدخل، وتكافح هذه الجهات من أجل توفير التمويل اللازم من المتبرعين الأثرياء العازفين عن المقامرة ببلايين الدولارات في تصنيع لقاحات محتملة قد لا تحقق النجاح.

تأتي الجهود المبذولة لضمان التوزيع واسع النطاق للقاحات الفعالة لتمثل اختبارا كبيرا للتعددية في حقبة تسعى فيها كل بلد أو منطقة إلى الحصول على نصيبها من الأدوية. ولقد تخلت الولايات المتحدة ـ بعدما استعملت نفوذها في أوبئة سابقة لتنشيط ردود الفعل الدولية ـ تخليا كبيرا عن دورها الذي قامت به في مواجهة إيبولا والإيدز والملاريا. فأعلنت عن خططها للانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ويتردد أنها تقوم باختطاف قدر كبير من مخزون العالم من مضاد ريمديسفير الفيروسي الذي يستعمل في علاج كوفيد. وحتى البلاد الأوروبية الكبيرة تحصر اللقاحات المستقبلية لأنفسها في المقام الأول.

قال توماس بوليكي، مدير برنامج الصحة العالمية في مجلس العلاقات الخارجية "لو أننا استمررنا في الطريق الذي نسلكه حاليا فسوف تفشل التعددية".

وقال إن جمع اللقاحات وادخارها لا بد أن تكون له عواقب على الآماد القريبة والمتوسطة والبعيدة. "فعلى المدى القريب والمتوسط، سوف يعني ذلك انتشار الوباء بلا رادع في البلاد التي لا تمتلك مخزونا. وعلى المدى البعيد، ستكون هناك عواقب في ما يتعلق بالتعاون العالمي في موضوعات أخرى" مضيفا قوله "لو أننا عاجزون عن التعاون في هذا السياق، فهذا يقوض التعاون في قضايا أخرى".

الجمع والتخزين مشكلة كبيرة؛ لأن خبراء الصحة يتوقعون أنه فور التوصل إلى لقاحات ناجحة سوف تشهد نقصا في المعروض على مدار الشهور الـ12 إلى الـ18 القادمة. وبدلا من رؤية البلاد الكبرى وهي تخطف المعروض المحدود من اللقاحات لشعوبها، يقول خبراء الصحة إن الأكثر فعالية هو تأمين حصول الضعفاء من السكان في العالم كله على اللقاح لمنع إعادة انتشار الوباء في المستقبل.

أولوية التطعيم

قالت ماريانجيلا سيامو مساعدة مدير عام منظمة الصحة العالمية لشؤون توفير الأدوية والمنتجات الصحية "إننا نعلم يقينا أنه لن يتوفر القدر الكافي. ثمة يقين واحد لدينا حاليا وهو أنه حينما يكون لدينا لقاح محتمل أو اثنان أو ثلاثة فإنها لن تكون كافية لتطعيم العالم كله في وقت واحد. لذلك نستهدف تطعيم من لهم الأولوية من الناس بحلول نهاية العام التالي".

يأتي التخوف المتعلق بتوفر اللقاحات في الوقت الذي يستمر فيه وباء فيروس كورونا في التفشي وبخاصة في الولايات المتحدة. لقد أصيب أكثر من عشرة ملايين شخص على مستوى العالم وتوفي أكثر من 500 ألف، وفي الولايات المتحدة أصيب قرابة ثلاثة ملايين وتوفي أكثر من 130 ألفًا. وقد شهدت الولايات المتحدة أكبر عدد من الإصابات الجديدة في يوم واحد بأكثر من 55 ألفًا الأسبوع الماضي.

قال تيدروس أدهانوم جيبريوسوس مدير منظمة الصحة العالمية في مؤتمر صحفي افتراضي الاثنين الماضي إن "الأسوأ لم يأت بعد. كلما نريد المضي في حياتنا. لكن الواقع القاسي هو أن ما نحن فيه لم يقترب حتى من نهايته".

تأتي أهمية النهج التعاوني في التوصل إلى اللقاح من انطواء عملية إنتاج اللقاحات على مخاطرة، حيث إن نسبة ضئيلة من اللقاحات الأولية المحتملة هي التي يثبت نجاحها في نهاية المطاف للتجارب على البشر. قرابة 7% من اللقاحات في المراحل المبكرة هي التي تنجح، و17% من التي تصل إلى التجارب البشرية هي التي تنتهي إلى النجاح بحسب أرقام تحالف جافي للقاحات.

هذه الأرقام تعطي أفضلية للبلاد الثرية مثل الولايات المتحدة التي أمّنت نفسها بتوقيع صفقات حصرية مربحة للتوصل إلى اللقاح وتصنيعه مع العديد من الشركات. وتنطوي هذه الأرقام على خطر بالنسبة إلى البلاد الفقيرة التي تفتقر إلى الموارد اللازمة لتوقيع صفقات ببلايين الدولارات مع شركات الأدوية، أو الدول متوسطة الدخول للمخاطرة بالمقامرة على عدد صغير من اللقاحات الفاشلة.

في أبريل أطلقت منظمة الصحة العالمية ـ العاملة عن قرب مع المفوضية الأوربية ومؤسسة بيل وميليندا جيتس وغيرها ـ مبادرة "تسريع الوصول إلى أدوات كوفيد 19" لتنسيق حملة عالمية لتصنيع تحاليل التشخيص والأدوية والعلاجات المسكنة للمرض واللقاحات المانعة للانتشار.

فجوة تمويل

تسعى المبادرة إلى جمع 31.3 بليون دولار ـ منها 18.1 بليون دولار للتوصل إلى اللقاحات ـ من حكومات ومتبرعين مستقلين، لإنتاج 500 مليون تحليل و245 مليون برنامج علاجي بحلول منتصف 2021، و2 بليون جرعة لقاح بنهاية 2021. لكنها لم تدبر إلا 3.4 بليون دولار للقاحات والتحاليل والعلاج حتى الآن، لتبقى ثمة فجوة تمويل كبيرة وملحة. لم تسهم الصين أو الولايات المتحدة، حيث يرى جاريد كوشنر مسؤول البيت الأبيض عن كوفيد 19 أن الجهود التعددية تمثل منافسا في سباق اللقاح.

يسعى عمود مبادرة اللقاح المعروف بـ"تيسير الوصول العالمي إلى لقاح كوفيد 19" أو "كوفاكس" إلى جمع موارد من بلاد مختلفة، ومنظمات دولية غير ربحية لتصنيع لقاحات كافية لتغطية أغلب الضعفاء في كل شعب، وبذلك تكون التفشيات المستقبلية تحت السيطرة.

كوفاكس عبارة عن تجمع لجهود عالمية مختلفة ومتعددة، وتهدف إلى تسريع البحث عن لقاحات جديدة. يضم التجمع منظمة الصحة العالمية وجافي ـ التي أنشئت سنة 2000 بتمويل من منظمة جيتس والولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج ـ و"تحالف ابتكارات التأهبات الوبائية (CEPI) الممول من مؤسسة جيتس وويلكم تراست وألمانيا واليابان والنرويج.

"كوفيد 19 هو أكبر خطر على الأمن الصحي العالمي منذ قرن، وقد كشف الوباء أن المرض لا حدود له" بحسب ما جاء في "وثيقة نقاش" داخلية مؤرخة في 11 يونيو وتعرض تفاصيل خطة كوفاكس التقنية. "ودونما جهد عالمي يركز على تلقيح سكان العالم أصحاب الأولوية العليا في جميع البلاد والتعامل بسرعة مع تفشيات المرض، سوف يستمر الوباء في الانتشار".

أضافت الوثيقة أن "التنافس على اللقاحات المحتملة سوف يفضي إلى سعار من المزايدة العالمية، فيرفع السعر في ظل تدافع البلاد على الشراء في ذعر".

وحذر خبراء صحة عالميون من أن "الفجوات الكبيرة في المناعة من كوفيد 19 عالميا سوف تؤدي إلى موجات كبيرة مستمرة من المرض حتى نهاية 2021 على الأقل، بما يجهد الأنظمة الصحية ويزيد من تمزيق أواصر المجتمع والاقتصاد".

أصدقاء التيسير

كوفاكس تحظى بمناصرة من سنغافورة وسويسرا اللتين شكلنا ما يعرف مجموعة "أصدقاء التيسير" دعما لنهج تعدد الأطراف. انضم إلى المجموعة كل من بريطانيا وأيسلندا واليابان والنرويج وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوربي ومن المتوقع أن ينضم آخرون من بينهم أستراليا وكندا. الولايات المتحدة لم تعارض المبادرة، وثمة بعض الأمل في أنها قد توفر لها بعض الدعم في المستقبل. لكن حتى الآن، لم تسهم الولايات المتحدة بأي تمويل لمبادرة كوفاكس.

قال رئيس وزراء سنغافورة لي هسين لونج في قمة افتراضية حول كوفيد 19 عقدت في أول يونيو إن "وباء كوفيد 19 يتطلب رد فعل موحدا ومنسقا من جميع الأمم" وأضاف قائلا "إنني أرجو أن تساعد هذه القمة في أن نركز عقولنا ومواردنا، وأن نقيم شراكات لدعم ’التعددية اللقاحية’".

تقصد المبادرة ـ التي لم تزل موضع تفاوض بين الحكومات المهتمة ـ استباق النقص الكبير في اللقاحات مثلما حدث في أثناء وباء إتش 1 إن 1 أو إنفلونزا الخنازير وأدى إلى وفاة ما يقارب 575 ألف شخصا سنة 2009. سوف يطالَب المصنعون بالسعي إلى أقل قدر ممكن من العائد المالي في المرحلة الأولى من رد الفعل اللقاحي، بما يضمن تلقي السكان أصحاب الأولوية لجرعات يسيرة. في مقابل ذلك، سوف تضمن هذه الشركات التزامات مستقبلية ببيع جرعات إضافية. وكلما ازدادت البلاد المستثمرة في المشروع، ازداد عدد اللقاحات المحتملة التي يمكن التوصل إليها، بما يزيد احتمالات العثور على اللقاح أو اللقاحات الناجحة.

حتى الآن، توصل تحالف ابتكارات التأهبات الوبائية إلى اتفاقيات مع شركات أدوية للتوصل إلى أكثر من دزينة من اللقاحات المحتملة لكوفيد 19، والجهود جارية لتأمين تمويل من حكومات ومن القطاع الخاص والجمعيات الخيرية الصحية لتمويل توسعة الجهود الحالية. في وقت سابق من الشهر الحالي، توصلت شركة الأدوية العملاقة أسترازينكا إلى اتفاقية بـ750 مليون دولار مع تحالف ابتكارات التأهبات الوبائية وجافي لدعم تصنيع وتوزيع 300 مليون جرعة لقاح ابتداء من مطلع العام. لكن يلزم مزيد من التمويل لتأمين اتفاقيات مع مصنعين كبار لإنتاج اللقاح.

وفقا لوثيقة كوفاكس "اشتراطات اللقاح العالمي للسيطرة على الوباء كثيرة، وتحقيق حجم إنتاج اللقاح اللازم بأسرع ما يمكن يستوجب إمداد المصنعين بما يؤكد لهم التمويل والشراء في المستقبل".

سوف توكل مهمة تمويل وتوزيع اللقاحات على البلاد الأكثر فقرا لجافي التي أقامت بالفعل شبكة توزيع هائلة في أكثر من خمسة وسبعين من البلاد منخفضة ومتوسطة المدخول، لكنها لم تتعامل من قبل مع أزمة بمثل هذا الحجم الهائل.

في الوقت نفسه فإن الولايات المتحدة ـ فضلا عن سعيها إلى تكديس علاجات المضادات الفيروسية بما قد يعوق توافرها لبقية العالم ـ وقعت عقود لقاحات مع العديد من شركات الأدوية، من بينها جونسن آند جونسن ومودرن إنك وأسترازينكا، وذلك لشراء وتصنيع بلايين من جرعات اللقاح.

قال مايكل كولنز الباحث الزميل في مجلس العلاقات الخارجية "لا يوجد نقاش كبير حول شراكات عالمية" وأضاف أنه "لو جاز لي التخمين، فإن نهج ’أمريكا أولًا’ سوف يسود في عملية الحصول على اللقاح".

في ظل قيام البيت الأبيض بـ"عملية السرعة الهائلة" بقيادة كوشنر، تسعى الولايات المتحدة إلى شراء 300 مليون جرعة بحلول يناير 2021، بما يشي بأنها سوف تسعى إلى تقديم اللقاح لأشخاص غير معرضين إلا لخطر بسيط، وهذا مخالف للنهج الذي يقول خبراء الصحة إنه سيكون الأكثر فعالية في إخماد الوباء العالمي.

قال بولايكي خبير الصحة العالمية إن "ندرة سوف تحدث، وخلال فترة الندرة هذه كم من هذا المخزون سوف يتم استعماله محليا؟ لو استعمل كل المخزون، سيطول أمد الندرة. وإذا تم التركيز على أصحاب الأولوية ومشاركة البقية، سوف يزداد المتاح".

أصدقاء الحزام والطريق

من جانبها يبدو أن الصين تسلك مسارا آخر، إذ يحتمل أن تستعمل التوصل إلى اللقاح لدعم نفوذها بين البلاد النامية. في مايو قال الرئيس الصيني زي جينبينج إن أي لقاحات ينتجها بلده سوف "تكون سلعة عالمية عامة" يجري اقتسامها مع البلاد الفقيرة. وأضاف قائلا أمام جمعية الصحة العالمية في اجتماعها الافتراضي إن "هذا سيكون إسهام الصين في ضمان توفر اللقاح للبلاد النامية". ويقول مراقبو الصين إن الأرجح أن تشرك الصين البلاد المشاركة في مبادرة الحزام والطريق الخاصة بالرئيس الصيني.

حتى أوربا، بكل حديثها عن التعددية الواسعة، تنظر إلى نفسها. فألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا سارعت بصياغة تحالفاتها الشرائية، تحت اسم "تحالف اللقاح الحصري". وأثارت الخطوة حفيظة قوى أوربية أخرى منها بلجيكا التي شكت من أنها تدمر جهود الاتحاد الأوربي لشراء اللقاح بالنيابة عن الدول الأعضاء.

في الوقت نفسه تحرك مسؤولون في الحكومة الفرنسية لسحق جهود الولايات المتحدة لتوقيع اتفاقية حصرية لشراء أولى اللقاحات المحتملة المنتجة في شركة سانوفي الفرنسية العملاقة، ووصفوا هذه الجهود بـ"غير المقبولة". واحتج وزير الصحة البريطاني بأن اللقاحات المنتجة في بريطانيا ـ حيث أنتجت مختبرات جامعة أكسفورد أحد أكثر اللقاحات المحتملة تبشيرا ـ ينبغي أن تستعمل لحماية البريطانيين؟

وقال دبلوماسي رفيع المستوى "إن الأوربيين يتكلمون عن التعددية على مستوى الخطاب، لكننا لم نر بعد ما إذا كانوا سوف يلتزمون بها".

وإثر انتقادات، سعت فرنسا وألمانيا إلى ضمان البلاد التي سوف تدعم توزيعًا واسع النطاق لأي لقاح مستقبلي. وفي أبريل دعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ومنظمة الصحة العالمية فعالية افتراضية لجمع تمويل بثمانية بلايين دولار لتوفير ما يلزم لإنتاج اللقاحات لجميع البلاد.

قالت ميركل "إننا نتكلم عن ملكية عامة عالمية، عن إنتاج هذا اللقاح ثم توزيعه في شتى أرجاء العالم".

أما الولايات المتحدة فقد رفضت المشاركة في تلك الفعالية.

  • نشر التقرير في نسخته الإنجليزية في فورين بوليسي