هل يمكن تجاوز الأطُر المرجعية؟
أحمد بن سالم الفلاحي -
تفرض المراحل التنموية استحقاقات جديدة على أفراد المجتمع، قد تتناقض و«الأطُرَ المرجعية» المختزنة عند الفرد، حيث تعمل على خلخلة القناعات، والاستسلام للواقع الجديد،
يلعب عمر الإنسان أكبر الأدوار المرحلية في حياته، فهذا العمر، وبحكم تجربة الحياة؛ هو الذي يتاح له تجميع هذا الكم الهائل من الخبرات والتجارب، والمواقف، والصور الذهنية، وكلما قطع الإنسان الفرد، شوطا مقدرا من هذا العمر، كلما راكم ذلك من هذا كله، ونقله من حالة اليسر إلى حالة العسر، والعسر واليسر هنا، ليس المقصود بهما الحالة المادية، وإنما الرؤية المتضخمة والمعقدة، والتي تنبني عليها المواقف، والآراء، وهذا ما يحسب على الإنسان، أكثر مما يحسب له، لأن هذه المواقف؛ وبحكم هذه الخبرات؛ قد تتعقد، وتأخذ بعدا نفسيا أكثر منه اجتماعيا، ولذلك يوصف كبار السن بأنهم أكثر تشددا، وتصلبا في المواقف، وفي الآراء، وفي تقييم الأشياء، بخلاف الأفراد من ذوي الأعمار الصغيرة، الذي يستسهلون الأمور، ويتنازلون عن كثير مما يتوقع أنهم يحافظون عليه، ذلك لأن صفحات الذاكرة لا تزال بيضاء، لم تتداخل مع كثير من المواقف الصادمة لحياتهم، التي للتو يبدأون شق طريقهم فيها، فخرائطهم الذهنية لا تزال على خط أفقي مستو، لا ترى فيه عوجا.
يتصدر مفهوم «الأطر المرجعية» والمقصود به: «مجموعة خبرات الفرد المختزنة ومعتقداته وقيمه الخاصة بالمجموعات التي ينتمي إليها سواء في محيط الأسرة، أو المدرسة، أو الجامعة، أو العمل ، أو المجتمع عموما» كما عرفه أ. د. هاشم السلعوس؛ أستاذ الاتصال بجامعة اليرموك؛ بالأردن - وهو من مفاهيم القيم الاتصالية التي يركز عليها المنظرون في الشأن الاتصالي من المتخصصين في علوم الاتصال والإعلام، عند تقييم العلاقة بين الفرد، ومجموعة الأفراد في المجتمع المحلي، وعند تقييم العلاقة بين الفرد ومدى مساهمته في المجتمع، وعند تقييم العلاقة بين الفرد وغيره من الأفراد في مجتمعات مغايرة، وعند تقييم العلاقة بين الفرد وذاته، كآخر محطة في هذه التقييمات كلها، فنتائج الأفعال والممارسات التي تنتج من هذه العلاقات كلها هي التي تظهر مدى تأثير هذه «الأطر المرجعية» سواء أكان هذا التأثير إيجابيا؛ حيث يضيف قيما نوعية؛ أو تأثيرا سلبيا؛ حيث يعقد من حقيقة هذا الإنتاج، ولا يضيف بعدا ما لهذه العلاقات كلها.
في كل مجتمع إنساني هناك عدة تفاهمات بين أفراده، سواء على شكل أطر دلالية، أو أطر مفاهيمية متبادلة، أو أطر معرفية ملزمة؛ لا تقبل النقاش، ومع كل ذلك هناك مجموعة اتساقات تنظم هذه المفاهيم كلها، بحيث لا يظهر على تصرفات أفراد المجتمع شيئا يحدث خلالا في تركيبته المفاهيمية هذه، وهذه الصورة في مجملها تعاد إلى مستوى «الأطر المرجعية» التي يتقارب من خلالها أبناء المجتمع الواحد، لتشابه الممارسات، والقيم والعادات، إلى حد كبير بين أفراده، وحرص هؤلاء الأفراد على تلقين الناشئة بها، ولذلك تتوالى الأجيال؛ ويكادون؛ يكررون نفس الممارسات، ويؤمنون بنفس المعتقدات، ولا أحد يلومهم على ذلك إطلاقا، بل بالعكس يجدون التأييد، والمؤازرة، وتحضرني هنا قصة تؤكد هذا الواقع، وهي: أنه إبان عملي في جريدة عمان في قسم التحقيقات الصحفية، ذهبت في جولة لعدد من ولايات السلطنة، وفي إحدى الجولات كنت في الموقع السياحي المسمى «هوية نجم» الواقع ما بين ولايتي قريات وصور، على الشارع العام، فالتقيت هناك بمجموعة من السياح من عدد من دول العالم، فتقدمت إلي سائحة؛ كبيرة في السن؛ وقالت بنص العبارة: «لماذا لا تلزمون السياح؛ وخاصة النساء بارتداء الملابس الساترة للجسم، كحال نساء بلدكم؟» ولأنني لست في مقام المعلل والمفسر، فقلت لها سوف نرفع وجهة نظرك إلى المعنيين من خلال هذا التقرير، وهذا ما يعكس مجموعة القيم التي قد تؤمن بها مختلف الشعوب لأنها تقترب كثيرا من الهوية المجتمعية عند كل شعب على حدة، وهذه الصورة لها بعدين؛
الأول: قبول الآخر بكافة أطره المرجعية، سواء أكانت تتناقض مع الواقع المحلي، أو تتوافق معه، والثاني: رفض الآخر رفضا قاطعا، وقد تصل إلى معاداته، في حالة التشدد المفضي إلى الخلاف؛ غالبا؛ وهذه المسألة سهلة في حالة أن من يتبنى الرفض من مجتمعين مختلفين، ولكن النقيض عندما يحدث تصادم في الرؤى بين فردين هما ينتميان إلى نفس المجتمع، لأن الجميع هنا يشترك في «الأطر المرجعية» المشتركة، فكيف يحدث التناقض إذن؟
هل تؤثر الأمكنة على مخزون الأطر المرجعية في حالة تعرض الأشخاص إلى التنقل من مكان إلى مكان؟
هذه السؤال الحاضر الغائب في مواقف كثيرة، ولعلنا نستحضر هذا الفهم من موقف السائحة الأوروبية عند سؤالها عدم تعرضها للإلزام بارتداء ملابس تتفق وقيم المجتمع في السلطنة، والسؤال الأكثر إلحاحا، هل لدى هذه المرأة المسنة؛ التي تربت على لباسها غير الساتر، من وجهة نظرها، الاستعداد لأن تتخلى عنه، إذا أقامت في بلد؛ كسلطنة عمان؛ خاصة وأنها في هذا العمر، وليس في عمر صغير عنده القدرة على التغيير والتحول بكل بساطة، لضعف مجموعة «الأطر المرجعية»؟
فاليوم شعوب كثيرة تعيش في غير بلدانها الأصل، وتعمر في الوطن البديل سنوات تصل إلى العشرات من السنين، ومع ذلك تجد أفرادها لا يزالون على نسق البلد الأم في كثير من الممارسات اليومية، ومنها اللغة، واللباس، والعادات، وكأن الوطن البديل بكل قيم أفراده وممارساتهم، لا أثر له على الإطلاق.
إذن ما هي المساحة المتاحة أمام الفرد لكي يربك مجموعة الأطر المرجعية المختزنة عنده، ويتماهى مع البديل في كل شؤون حياته اليومية؟
ليس هنا من بديل سوى تجربة الحياة ذاتها، وهذه لها متطلب محدد ومهم، وهو العمر، فكلما صغر العمر، كلما كان قبوله بالآخر أكثر منطقية، أما من عمر سنين، فلا أتصور أن يتنازل، وأن يخالف أطره المرجعية التي بناها طوال سنوات عمره التي عمرت طويلا، ولذك كان هناك موقف من بعض الأنظمة السياسية، التي تستضيف بلدانها مجموعات من المهاجرين، وهذا الموقف يتمثل في رفض إقامته إن كان هذا المهاجر ليس عنده القدرة، أو الرغبة على التأقلم مع المجتمع الذي يعيش فيه، وبالتالي فعليه العودة إلى بلده الأم.
يرى البعض أن هناك مجتمعات نشطة، وأخرى خاملة، يتضح ذلك من خلال مجموعة الاشتغالات على أرض الواقع، فهل في الأولى تتذبذب «الأطر المرجعية» فلا تعمر طويلا؛ أي تظل عند أفرادها القدرة على التحول، والتغيير، وفي الأخرى تبقى «الأطر المرجعية» أكثر ديمومة، لأن كمية الاشتغال ضعيفة، وبالتالي لا تتعرض هذه الأطر إلى إرباك ما.
هذه الصورة يمكن قياسها على كثير من شعوب العالم اليوم، فالشعوب في المجتمعات المتقدمة؛ حضاريا؛ لا تجد عندهم النزعة نحو البقاء على ضرورة تأصيل محصلات «أطرهم المرجعية» وإنما يخرجون كثيرا، ويفسحون أمامهم المجال لممارسة كل شيء، والخروج عن المألوف في كل شيء، حيث يتحركون بقناعاتهم الشخصية، ولا يعيرون كثيرا لمجموعة مناخات «الأطر المرجعية» الخاصة بموروثهم الثقافي والاجتماعي، ولذلك تجد حريتهم في الحركة أكثر من غيرهم من الشعوب التي لا تزال تتحكم في تصرفاتهم وممارساتهم مناخات «الأطر المرجعية» التي تكبل أي خروج عن المألوف عن ثقافات المجتمع الذي ينتمون إليه، ولذلك تجدهم مقيدين بمجموعة هذه الأطر. تفرض المراحل التنموية استحقاقات جديدة على أفراد المجتمع، قد تتناقض و«الأطر المرجعية» المختزنة عند الفرد، حيث تعمل على خلخلة القناعات، والاستسلام للواقع الجديد، وذلك لأن الواقع الجديد يكون الفاعلون فيه أفرادا من جنسيات أخرى، غير أبناء المجتمع، فتحدث كثيرا من حالات التأثر، فتبدأ بعض القيم بالانحسار عن قوتها الفاعلة، عندما كان أفراد المجتمع غير مختلطين بالشعوب الوافدة الأخرى، ولعل بدايات الانحسار تبدأ من التأثر باللغة غير لغة الأم، ومن ثم يمتد إلى اللباس، وبعض الصور الأخرى المعبرة عن غير المعتاد إليه، وكما قلت إن الفئات السنية الصغيرة هي التي لها القدرة، والشغف في الخروج عن المألوف والمعتاد، ومن خلال نمو هذا الخروج يبدأ تأسيس أطر مرجعية جديدة، تتناسب، ومتطلبات الشعوب وطموحاتها، في مرحلة زمنية متقدمة.