غادة-الأحمد
استثمار ثقافي
02 يوليو 2020
02 يوليو 2020
غادة الأحمد
عند الحديث عن استثمار في الثقافة تنصرف أذهاننا إلى أنماط خاصة من الثقافة ترتبط بالأساس بالسياحة، كالتراث المادي للشعوب الذي يستقطب الزوار ويدعوهم للتمتع بتلك الشواهد العينية، ما يجعلهم ينفقون على تلك الزيارة، وهو ما يعود بعوائد مادية على المؤسسات التي تقدم الخدمات المرتبطة بها، كشركات السفر والسياحة والفنادق والمؤسسات المالكة للمواقع السياحية والمتاحف التي يتوجه إليها الزوار، فهذا هو النوع الرائج من الاستثمار الذي يستقطب الممولين بسرعة وبشكل مباشر لأن عائداته واضحة، وهناك أنواع أخرى من الاستثمارات في الثقافة كالنشر وصناعة السينما والمسرح وإقامة الحفلات الموسيقية، وكل منها يحقق عائدات مؤكدة، ويمكن أن يعتمد عليها في دعم الاقتصاد في كثير من الدول، وتضرب الأمثلة في العادة ببرج إيفل الذي يعادل ثقله الاقتصادي السنوي 1 على 15 من الدخل القومي لفرنسا حسب إحصائيات 2012، فصورته الخارجية وسمعته تسمح باستقطاب أعداد السياح، وما يصرفه هؤلاء أثناء زيارتهم من أكل وشرب ومواصلات ومشتريات، وأعداد العمال الذين يتم تشغيلهم في البرج ومحيطه مباشرة أو بواسطة شركات خارجية، وحتى استغلال اسمه التجاري كل ذلك يعطيه ثقلاً كبيراً في الاقتصاد على الرغم من أنه معلم ثقافي في الأساس، وتماثله حالة معهد العالم العربي بباريس، حيث ساعد على خلق فرص عمل جديدة وساهم في نشر الثقافة العربية في أوروبا. إن الاستثمار في الثقافة ليس استثماراً في الأثر الناجم عنها، لكنه استثمار في المؤثر الذي أنتجها، وذلك بإقامة مشاريع وبرامج لتحفيز الإبداع ورعاية الموهوبين، وتسهيل فرص النجاح لهم، وتنمية وعي المجتمع بقيمة الثقافة، وضرورة الأخذ منها، وترويج عادة المطالعة التي هي أحد أنجع السبل لنمو الثقافة، وهذه العملية في الأغلب لا تقدم ربحاً للقائمين عليها، لأنه لا مردود مادي لها، ولكن بمقابل معنوي هو نقل المجتمع من الجهل إلى المعرفة، ومن غياب الوعي إلى الوعي، ومن الفقر في الإبداع والإنتاج الثقافي إلى حالة من النمو والحركة الإبداعية الدائمة، وهذا مشروع لا تضطلع به مؤسسات عامة أو أهلية تقدم خدمات مجانية، لأن المستثمرين لن يكونوا مستعدين للإنفاق على مدرسة للفنون التشكيلية أو معهد للمسرح أو محترفات للتدريب على الإبداع الروائي والشعري، أو الإنفاق على نشر تشجيعي لمؤلفات كتّاب غير معروفين من أجل إيصال كتبهم إلى القارئ، أو دفع منح تفرغ لكتّاب وباحثين من أجل إنجاز مشروع إبداعي أو بحثي مهم، وحتى ولو قام المستثمر بشيء من هذا القبيل، فإنه سيظل محدوداً وفي إطار ما يعرف بالإعلان الممول وهو شيء ثانوي ومحدود بالنسبة إلى المؤسسات الربحية. إن الاستثمار في الثقافة هو استثمار في الأشخاص المنتجين لها، وفي المجتمع المستهلك لها، ولم يحدث أن قامت نهضة ثقافية في أي مجتمع إلا بعد أن توفر لها بشكل أو بآخر ذلك النوع من الاستثمار الذي يعطي ولا يأخذ، وينفق ولا يربح، والأمثلة على ذلك في التاريخ العربي كثيرة، فقد كانت النهضة العلمية التي عرفتها الدولة العباسية بسبب الإنفاق السخي الذي ينفقه الخلفاء على المدارس، والتشجيع المادي للشعراء والعلماء والمؤلفين والمترجمين، حيث كان لهم نصيب ورواتب جارية من بيت مال المسلمين، مما شجع الإبداع والإنتاج الثقافي، وأحدث نهضة علمية أمدت الثقافة العربية بكتب أصبحت من أهم المراجع في عدة مجالات. وفي الدول العربية على الرغم من الخطط الكثيرة التي توضع للاستثمار في الثقافة، إلا أن التمويل المباشر للعمل الثقافي لا يزال يأتي من خزانة الدولة، ولا تزال وزارات الثقافة هي التي تسيّر بصورة مباشرة النشاط الثقافي، ولا يزال قطاع الثقافة موكلاً إلى الحكومات، وندر أن تدخله الخصخصة، ويمكن التذكير بتجربة نادرة لاتحاد الكتاب العرب في سوريا الذي اتجه إلى الاستثمار في تسعينيات القرن المنصرم وحقق دخلا عاليا من هذا الاستثمار جعله يستغني عن معونة الحكومة المادية، ويقدم خدمات مميزة لأعضائه تبدأ بالنشر والتوزيع للكتب والدوريات وتقديم الضمان الصحي ومعونة اجتماعية ومالية تقدم عند وفاة الكاتب وراتب مالي عند التقاعد وإقامة الندوات والمهرجانات الأدبية والثقافية المحلية والعربية ليكون رديفا حقيقيا لوزارة الثقافة السورية في نشر الثقافة وتحقيق مبتغاها. يحق لوزارات الثقافة في الوطن العربي أن تستثمر آثار الثقافة من أجل العوائد المادية، وأن تشجع استغلال التراث المادي في هذا الاتجاه، لكنّ دورها الأساسي هو الإنفاق على المشاريع الشاملة الطويلة الأمد الهادفة لخلق مجتمع مثقف واع، وخلق الظروف لظهور أجيال من المبدعين العرب الشباب في كافة المجالات الثقافية، وذلك هو الاستثمار الحقيقي في الثقافة.