465
465
التعايش

في الجانب المشرق من كورونا .. هل وجد الأدباء والمثقفون ضالتهم في العزلة!؟

30 يونيو 2020
30 يونيو 2020

استطلاع - عامر بن عبدالله الأنصاري -

فرضت جائحة كورونا المستجد على العالم عزلة جبرية للوقاية من شرّ هذا الوباء الذي أودى بحياة ما لا يقل عن 470 ألف شخص حول العالم -حتى كتابة هذا الاستطلاع- وتعرض أضعاف هذا العدد إلى أوضاع صحية مزرية وحالة نفسية عصيبة إلى أن كتب الله لهم الشفاء، فوقاية من شرور هذا الوباء، أصبحت العزلة أسلوب حياة للتعايش مع الوضع الحالي لفترة طويلة.

ولكن، كيف أثرت العزلة على الأدباء، فهل كانت أسلوب حياة للتعايش مع الوباء بسلام وأمن، وهل كانت العزلة التي يفضلها كثير من الآباء فرصة للانكفاء بالذات والاكتفاء بها لتجود قرائحهم بعذب البيان وروعة البديع، أم أن العزلة التي يختارها الأديب بإرادته هي الملهمة، بينما تكون العزلة الجبرية منغصة له؟!

وفي التالي نبحر مع وجهات نظر مختلفة نابعة من أفكار عدد من الأدباء والمثقفين، فإلى ما قالوه.

معنى جديد للعزلة

البداية مع الشاعر خميس بن قلم الهنائي، الذي انساب قلمه للحديث عن العزلة، فقال: «أرى أن مفهوم العزلة (في هذا الزمن الذي يغرق فيه الفرد في الجموع والمجموعات عبر وسائط التواصل الرقمية) قد أخذ معنى جديدًا، فحين كانت العزلة توحش المنقطع في رأس جبل إلّا أنها لن تفلح في ممارسة وحشتها عليه الآن وهو -منفرد- مع هاتفه المحمول، بما يحتويه من تطبيقات تواصلية لا يملك من خيار (لإيقاف تدفق أصوات الآخرين إليه وتلصصهم عليه وإزعاجهم برسائل القص واللصق) إلا بإلقاء هاتفه من رأس الجبل، وإن كانت العزلة في السابق ضرورة ليجد الفيلسوف أفكاره، والنبي وحيه، والصوفي إشراقاته، والفنان حلمه فهي أشد ضرورة في زمن فقد الإنسان فيها ذاته،، إذا توافقنا على أنّ فرض الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي بسبب الفيروس هو ضرب من العزلة الجبرية فلا شك أنه سيكون لها أثر على الكاتب وغيره، فمن متابعاتي الاجتماعية وجدت أنّ العزلة عملت بشكل عكسي أحيانًا فكانت سببًا لزيادة ذوبان بعض الأشخاص مع المحيط الاجتماعي العام عبر التواصل الرقمي خصوصًا مع تزايد أوقات فراغهم لقلة الحركة والعمل، فيما انكمش آخرون وضربوا عزلة على عزلتهم القسرية منشغلين بمشروعاتهم الخاصة كالاهتمام بالزراعة أو تربية النحل أو مطالعة سلاسل للمعارف أو الانغماس في عالم الأفلام والمسلسلات، وينحصر تواصلهم بالمقربين فقط، وفي رأيي أن الصنف الثاني يعيش حالة من الهدوء والرخاء ويكتسب خبرات أكثر أصالة وإنتاجًا، ولا شك أن هناك ما بين هذا وذاك».

وتابع قائلا: «عن نفسي سعيت لأن تكون عزلة كورونا -كما تسميها- فرصةً لمراجعة إيقاع حياتي الاجتماعية، والتفكّر فيما يشغل بالي من قضايا لم يكن الوقت يسعف للنظر فيها، وقد توفقت في هذه العزلة بإعداد كتاب (إنها موجة عالية) سينشر قريبًا، وبالمناسبة الكتاب يشتمل على نص عن الفيروس الذي أدخلنا إلى هذه العزلة وقادنا لهذا الاستطلاع».

كائنات اجتماعية

بينما تحدث الشاعر حمود بن وهقة اليحيائي بقوله: «نحن بفطرتنا كائنات اجتماعية نستند إلى بعضنا بعضا، نتقوّى بالمحبة في أوقات اليأس ونتشارك لحظات السعادة، حاجة الإنسان للإنسان أمرٌ مُسلّم فيه لكن بقدر ما تمنحنا العلاقات الاجتماعية من حبّ وصداقات وملء لأوقات الفراغ فهي تأخذ منّا جزءًا كبيرًا من ذواتنا وتسطّح نظرتنا لأنفسنا، من هنا جاءت الحاجة للعزلة فهي تأخذنا إلى الاستقلالية والتفرّد والحرية، جاءت عزلة كورونا لتجبرنا على العودة لذواتنا وحققت الأحلام المؤجلة في الابتعاد قليلا، وأوصلتنا لنقطة عميقة في الروح، واجهنا مخاوفنا بشيء من الجرأة، وساعدتنا على فهم مشاعرنا وضبط أنفسنا، فالهدوء يجعلك تستمع أكثر مما تتحدث، ومن الناحية الابداعية، فالعقل الجمعي يُفقد المبدع شخصيته وتميّزه، وهو الذي يعيش في حالة صراع دائم مع ذاته لاكتشافها، ويحلم بصنع هويّته المختلفة عن الآخرين، لذاك فهو يرى في العزلة شيئا شخصيا كالصلاة والتأمل ليصل إلى عمق الفهم الذاتي للحياة والإنسانية، يأخذ من الطبيعة البكر تأملاته ومن ذاته تخيلاته ليسهم في مجاله الإبداعي أيّا كان بطريقته وبصمته الخاصة، فمعظم كتابات الشعراء والأدباء التي عاشت إلى وقتنا وستعيش إلى ما لا نهاية كانت في العزلة فهم موقنون بأنهم ليسوا وحيدين حتى ولو كانوا وحدهم».

العزلة .. تقارب أسري

الشاعر فيصل الفارسي، يختلف قليل في وجهة نظره حول العزلة، إذ قال: «للأسف لم تكن العزلة ذات مردود إيجابي من الناحية الأدبية هذه المرة، لكنني استثمرت عزلة كورونا للتقارب أكثر مع الأسرة حيث نقضي أغلب أوقاتنا معًا.

من وجهة نظري أرى أن العزل المنزلي لا تتوفر فيه كافة أركان العزلة المطلوبة للكتابة، إذ نجد كل أفراد الأسرة موجودين في المنزل والأطفال يلعبون في كل مكان بحيث لا يجد الكاتب وقتًا ليخلو بفكره، من هذا المنطلق كان نتاجي ضئيلًا جدًا خلال هذه الفترة مقارنة بما قبل كورونا».

العزلة .. حالة وجود

الكاتب هلال البادي شاركنا الحديث حول العزلة بقوله: «أعتقد أن مقولة (المبدعون ميالون للعزلة) ليست صحيحة تماما، فالعزلة في حقيقتها ليست مرتبطة بمن هم مبدعون فقط، بل هي حالة موجودة لدى كثيرين، وقد يكون بعض المبدعين من ضمنهم،، هذا كمدخل مناسب للحديث عن العزلة الإجبارية التي وجدنا أنفسنا فيها بفعل كورونا، وهي عزلة غالبا ما كانت غير فردية، بمعنى أننا وجدنا أنفسنا مع أسرنا الصغيرة، معزولين عن فضاء التجمعات العائلية الكبرى، وبعيدين عن التجمعات المعتادة رفقة الأصدقاء والزملاء، هذا ما فرضه فيروس كورونا على الجميع، لعلّي هنا سأتذكر شعوري عندما تم الإعلان من قبل اللجنة العليا المكلفة بمتابعة فيروس كورونا، بأن كل من عاد إلى السلطنة من الخارج بعد تاريخ الثاني من مارس عليه أن يدخل في العزل المنزلي، كنت عدت للسلطنة في تاريخ السابع من مارس، وعدت إلى عملي وحياتي الطبيعية منذ اليوم التالي، ولكن الإعلان أو الطلب الذي وجهته الجهات المختصة جاء في منتصف الأسبوع التالي، لقد انقضت أغلب الأيام التي يفترض أن تكون فيها في الحجر المنزلي، وأنا أخالط الناس وألتقي بهم، سيما في العمل، خمسة أيام قضيتها في العزل وأنا أفكر فقط في احتمالية أنني بعد انقضاء المدة المفترضة، وهي أربعة عشر يوما، أن أكون مصابا بالعدوى، ساعتها سأفكر في كل الوجوه التي صافحت وجهي خلال المدة التي سبقت دخولي العزل، سأفكر في أعداد البشر الذين كنت سببا في نقل العدوى إليهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، بل خطرت في بالي الوساوس بأن يموت أحدهم لا قدر الله، وأنا كنت سببا في حدوث تلك الوفاة، مثل هذه المشاعر المتضاربة والجارحة في الوقت ذاته، هي التي تسبب تلك الرغبة عند الكثيرين بضرورة الانعزال وعدم المخالطة، وهذا ما يعيدنا إلى بداية الحديث عن العزلة، وبأنها عزلة إجبارية لا اختيار فيها».

وتابع البادي قائلا: «المبدعون بطبيعة الحال من الفئات الأكثر توقًا للعزلة، لضرورات إبداعية في غالب الأمر، وليست لضرورات نفسية أو شعورية اقتضتها طبيعتهم الإبداعية، وفي كل الأحوال هم في حاجة لها غالبا، وكما أسلفت: لضرورات إبداعية كإتمام أعمال لم يتموها، ولم يجدوا الوقت لإتمامها أساسًا، هنا تأتي الفرصة في أن تكون (عزلة) كورونا المفترضة، فرصة للكثيرين لإتمام ما كان لديهم من أعمال، أو للبدء في أعمال لم يجدوا الوقت للبدء فيها، فرصة ثمينة أيضًا لقراءة كتب مؤجلة جدولها البعض، ولكن لم يجدوا الوقت المناسب لها، ثمة وقت فائض وكثير فرضه فيروس كورونا على الناس جميعا، يمكن من خلاله القيام بمشروعات متعددة».

وأضاف: «الآن، ومع الفكرة العامة التي تقول إن كورونا باق، وعلينا أن نتعايش معه، وأن نكيف حياتنا مع الوضع الذي وضعنا فيه هذا الفيروس، سأقول إنها فرصة إضافية في البقاء رفقة الأعمال غير المنتهية، لعلها تنتهي، فرصة للقراءة أكثر، أو لاكتشاف مساحات جديدة لم تكن في الحسبان، كتعلم لغة مثلا، أو برنامج من البرامج الكثيرة التي قد لا نعرف كيف تعلم، أو التفكير في خطط إبداعية جديدة، وقت كافٍ لعمل أشياء كثيرة لم نجد الوقت لها من قبل، ربما الكثير منا سيفتقد أجواء تعود عليها من قبل، لكن علينا أن نكتشف الفرص، فالتحسر على ما فقدناه وما ألفناه من قبل، لن يعيد إلينا حياتنا السابقة».

أدب كورونا

فيما قال الشاعر مسعود الحمداني: «في حياة المثقف والأديب العديد من المحطات التي يخلو فيها بنفسه، منها العزلة، هذه التي يستطيع من خلالها أن يعيد تشكيل ثقافته، وحالاته، ويُبصر فيها البعيد الذي لا يكاد يراه وهو مزدحم بالناس، إنها عزلة قراءة، والاختلاء بالذات، تبدأ بقرار ذاتي حاسم ولكنها لا تنتهي بقرار، فالمثقف والأديب هو الشخص الوحيد الذي يجد دائما صديقا حميما في عزلته، حتى حين يتخلّى عنه الباقون، ويبتعد عن الأقربون، فالكتاب يعتبر صديقا وفيّا وواعيا وأليفا، والعزلة محاولة جادة كي يستفيد الكاتب الاستفادة القصوى من الكتب، والقراءات والمعارف، ففيها هدوء الذات، ورؤية الأشياء بشكل أنقى، وأصفى، ولعل هذه الجائحة العالمية التي فرضت شروطها على البشر، قادرة على إنتاج ما يمكن تسميته بـ(أدب كورونا)، وهو أدب بدأ يأتي ثماره، أدبٌ يختزل مشاعر إنسانية مرهفة، ومشاهد غير مألوفة، وحكايات مختلفة لم يعتدها حتى أكثر الكتّاب خيالا، ففي التأمل العميق في الذات، والآخر، والكون، سيجد الكاتب ضالته التي ربما افتقدها في زحمة الحياة اليومية».

وتابع الحمداني قائلا: «ستعود الأمور بإذن الله إلى حالها المعتاد، غير أن الكاتب سيظل يطارد غربته، وعزلته، التي هي وقود كتاباته، وربما هي وقود حياته برمّتها، في أيقونتها فقط يتنفس الكاتب والشاعر والمثقف، وفي أتونها يروي مشاهداته، وحكاياته، وسيرة أحلامه .. هذه هي العزلة التي تتبع المثقف أينما كان، سواء كان في ذلك في زمن كورونا أو في زمن آخر».