أفكار وآراء

تاريخ لوم «متعصب» في أزمنة الوباء

29 يونيو 2020
29 يونيو 2020

آلان ميخائيل ترجمة: أحمد شافعي -

قبل نحو أربعين سنة دعتنا سوزان سونتاج إلى الامتناع عن تقوية المرض بالمعاني. ففي كتابتها الضارية عن مرض السرطان الذي أصيبت به، توصلت إلى آراء إنسانية عامة استخلصتها من تجربتها الشخصية، موجهة النقد اللاذع لنا كجماعات في إلقائنا اللوم على ضحايا المرض. ولقد التفت الكثيرون ـ في عصر كوفيد 19 ـ إلى ما كتبته سونتاج عن السرطان ثم عن الإيدز. وبوسعنا ـ إن نحن مضينا في طريق مختلف بعض الشيء ـ أن نرى في أفكارها طرقا مثمرة للتفكير في الاتجاهات التاريخية العميقة السارية في تياراتنا الجيوسياسية المتعلقة بالمرض واللوم.

ليس إلصاق دونالد ترامب تهمة فيروس كورونا بالصين، وبمنظمة الصحة العالمية، وبالتجار الأمريكيين آسيويي الأصول إلا اتباعا لميراث قديم وبالٍ دأب على أن ينسب المرض إلى الدخلاء، أو المحسوبين من جملة الأعداء، أو الأضعف في من بيننا. لقد كانت لأوروبا المسيحية ـ وهي سلف أمريكا ـ جماعتان أساسيتان تمثلان الآخر، وهما تاريخيا: اليهود والمسلمون. فعلى مدار قرون بقي اليهود في الغرب أضخم أقلية داخلية غير مسيحية. فكانت تفشيات الطاعون المتواترة في مدن أوروبا غالبا ما تتحول إلى تفشيات لموجات من معاداة السامية، مصحوبة بهجمات دموية على حواري اليهود بوصفها مصادر المرض.

الآخر الكبير الثاني بالنسبة لأوروبا هو المسلمون الذين كانوا يمثلون خطرا من نوع مختلف. فالمسلمون ـ خلافا لليهود ـ حكموا دولا داخل القارة الأوروبية ـ في إسبانيا والبلقان ـ وفي الجهة المقابلة من البحر المتوسط. ونظرا لأن المسلمين قد حظوا بداعمين سياسيين من الخارج فقد اعتُبروا داخل أوروبا بمثابة طابور خامس محتمل. ولقد فهم الأوروبيون المسيحيون العلاقة بين الإسلام والمرض من خلال فكرة «القدرية الإسلامية»، أي أن المسلمين المؤمنين يضعون إيمانهم كله في المشيئة، وإن خالفوا العقل، ومن ثم فهم أقرب إلى «القبول» بتفشي مرض باعتباره قدرا وبما يترتب عليه من موت. وإذن فقد أنشأ اليهود المرض، وتسامح معه المسلمون فنشروه. ومن ثم انغرست بعمق في الذات المسيحية فكرة أن تينك الأقليتين تتحملان المسؤولية لا عن موت المسيحيين وحده بل وعن مصائر مجتمعيهما نفسيهما.

ومعروف أن الصور النمطية قديمة الوجود تستعصي على الزعزعة، وأن التحيزات تتوارثها الأجيال، مهما تكن خرافية، وأنها تجد سبيلا للتحول إلى حقيقة وإن تنكرت في مختلف المظاهر. ونحن اليوم، للأسف الشديد، نعيد تشغيل نسخة من فكرتَيْ العدوى اليهودية والقدرية الإسلامية. وانظروا إلى بعض المظاهر الخاصة التي يُرى من خلالها المسلمون الآن في فترة فيروس كورونا.

ومن المهم القول بأن مسلمين وغير مسلمين يرون أن الإسلام، بطريقة ما، هو أكثر نقلا للمرض من أديان أخرى. فإيران على سبيل المثال لامت على تفشي كوفيد 19 فيها زوار ضريح مقدس في مدينة قم. وحكومة الهند المناهضة للمسلمين وضعت عينها على المساجد وتجمعات المسلمين الأخرى متخذة الوباء ذريعة للإمعان في سياساتها التمييزية. واللغة المستعملة في حق اللاجئين المسلمين على الحدود الأوروبية الآن أو في حق الروهينجا في بورما والهند ـ وكلا المجتمعين معرض بشدة للعدوى ـ تصف المسلمين بالحشود المريضة وبالعدوى. وربما ليس غريبا أن أضاف ترامب صوته إلى هذه الجوقة. ففي أحد لقاءاته الصحفية قبل أيام من بداية رمضان هذا العام، دافع عن ترويجه لتغريدة تقول إنه لا بد من أن تكون المساجد أهدافا لإجراءات ضمان التباعد الاجتماعي «لأن -هذه الإجراءات- تتوجه إلى الكنائس ولا تميل إلى التوجه إلى المساجد».

ولنا في الرؤية الجيوسياسية القديمة ولما رسخ في الغرب من رؤى للإسلام عونٌ على تفسير أسباب هذه النظرة إلى المسلمين في فترة وباء كورونا. فتصورات أوروبا القرون الوسطى للإسلام بوصفه عدوا داخليا وخارجيا، وللمسلمين بوصفهم طابورا خامسا محتملا، لم تزل باقية فينا. بل لقد اكتسبت هذه التصورات اليوم صبغة عالمية في واقع الأمر. فمنذ عقود نرى حكومات الولايات المتحدة والصين والفلبين وأستراليا وكثير من بلاد أوروبا وأفريقيا ـ كل لأسبابها الفريدة الخاصة ـ تستهدف الإسلام ومجتمعات المسلمين لديها باعتبار أنهم يمثلون خطرا مميزا، وكثيرا ما يُنظر إلى المسلمين باعتبارهم إرهابيين محتملين تتجاوز ولاءاتهم بلادهم. وقد يتخذ تشويه مجتمع أشكالا كثيرة، وفي ضوء ظروف زماننا، أصبح الاتهام بالمرض مرة أخرى هو الصورة المتبعة بيننا.

في أوروبا العصور الوسطى، كان المسيحيون غالبا ما يلومون اليهود على تفشيات الطاعون. وإن لهذا المنحى العميق في معاداته للسامية أصداء تتردد اليوم في تصوير المجتمعات اليهودية الأرثوذكسية باعتبارها مجتمعات متلاحمة يسهل تكاثر الأمراض فيها. ومثلما علمنا جميعا تمام العلم على مدار الشهور الماضية، فإن أي جماعة، دينية أم غير دينية، «أصيلة» أو غير أصيلة، معرضة لانتشار فيروس كورونا. فلا يتفرد دين في هذا الصدد. والكنائس من سول إلى سكرامنتو تنشر الفيروس بين شعوبها. ويرجح أن تجمعا في معبد يهودي في نيو روشيل هو الذي تسبب في أول تفش كبير في منطقة نيويورك. ولئن أقيم الحج في صيف العام الحالي فستكون مكة والمدينة مصدري انتشار عالميين بنسب هائلة (أعلن عن تقليص العدد وحصره داخليا). إن الأديان تعيش على التقارب الاجتماعي، لا على التباعد، وهذه مشكلة في زمن كوفيد 19.

ولأن الصدمات العالمية المماثلة للتي نعيشها اليوم غالبا ما تظهر خطوط التصدعات التي لم تكن ظاهرة في السابق، فإن هذا شعاع نور محتمل في عتمة أيامنا هذه ـ وإنه فرصة لأن نرى تحيزاتنا الراسخة في الأعماق، والكامنة عادة تحت الأسطح. وانتهازنا هذه الفرصة أو إهدارنا لها، حتى في لحظة الأزمة، بل لا سيما في لحظة الأزمة، مسألة ترجع إلينا كمواطنين في بلاد متفردة وفي عالم لم تعد تقف فيه حدود أمام الأفكار أو الفيروسات. تكتب سونتاج أن المرض ينبثق «من مفهوم الخطأ نفسه، وهو المفهوم المطابق تاريخيا للانحن، للغرباء». عسى أن ينتصر النحن على اللانحن. عسى أن نسمي تحيزاتنا بأسمائها، ونقاوم تقويتها بالاستعارات وألاعيب السياسة، ونهزم أمثال هذه الانقسامات التي تزعزع أسس مجتمعاتنا. عسى ألا نجعل وبال فيروس كورونا طريقا إلى وبال على المسلمين أو اليهود أو الأمريكيين الآسيويين أو الأمريكيين السود أو سواهم. والتاريخ كما ترينا سونتاج لا يدفعنا إلى التفاؤل، لكن، عسى أن نكون نحن مختلفين.

كاتب المقال هو أستاذ التاريخ ورئيس قسم التاريخ بجامعة ييل. يصدر له قريبا «ظل الإله: السلطان سليم، والإمبراطورية العثمانية، وصنع العالم الحديث».