أفكار وآراء

الطريق إلى كسر دائرة الخناق على القرار العربي

27 يونيو 2020
27 يونيو 2020

د. عبدالعاطي محمد -

إن التطورات المتلاحقة بعد 2011 قادت إلى نتيجتين واضحتين هما أنه لم تعد هناك قوة خارجية موحدة تجاه قضايا المنطقة تجبر دولها العربية على القبول بمشروع سياسي تريده هي ويحقق مصالحها بالإجمال لا المصالح العربية .

من حق المواطن العربي من الخليج إلى المحيط أن يجزع، وربما يغضب، من المشهد العام الذي تعيشه الأمة العربية منذ سنوات، حيث عدم القدرة على التخلص من الأزمات السياسية والمحن الإنسانية. ولكن بقليل من التأمل الهادئ والمتزن يستطيع أن يدرك أن الفرصة للخلاص من هذا وذاك لا تزال قائمة، بالنظر إلى أن هناك من الحقائق أو المعطيات القائمة على الأرض التي من الممكن استغلالها لكسر دائرة الخناق على القرار العربي المستقل الذي يعيد الأوضاع إلى كل ما هو في صالح هذه الأمة.

ليس ذلك من قبيل المبالغة في التفاؤل، ولا المكابرة في عدم الاعتراف بالمشكلات القائمة، ولا هو محاولة للتزييف أو اللعب على المشاعر والعواطف، ولكنه قراءة موضوعية لأحداث أو وقائع يشهد بها الواقع المأساوي ذاته وكلها تصب في اتجاه أن هناك تغييرا قد حدث ولا يزال يحدث في المشهد العام ما بين ما كان عليه بين عامي 2005 و2011، وما بعد ذلك حتى يومنا هذا، من المظاهر البارزة لهذا التغيير أن العوامل أو المعطيات التي جعلت المشهد الأول بالغ السواد والمأساوية لم تعد مؤثرة بنفس القوة في المشهد التالي أي بين عامي 2011 و2020، فإما تلاشى بعضها أو ضعف تأثير البعض الآخر أو تبدل البعض الثالث إلى النقيض أي أصبح في صالح القرار العربي، ويسرى هذا التغيير على ما يتعلق بالصعيد الداخلي أو الصعيد الخارجي. ولكي يكون الأمر واضحا من البداية أننا لا نرسم صورة وردية زائفة للوضع المعاصر، فأي عاقل رشيد يدرك جيدا أن الصورة ليست على هذا النحو مطلقا بل لا تزال تحمل الكثير من الهوان والمحن والضعف في كل مصادر القوة والتأثير في مجريات الحياة العامة.

لا يمكن ادعاء الكمال أو حتى التحسن النسبي، ولكن لا يمكن لمنصف أن لا يأخذ في الاعتبار ما حدث من تغيير بين المشهدين وهو الذي يدفع بالاعتقاد بأن الفرصة لا تزال قائمة للخلاص، ويصبح الاهتمام هو ليس التسجيل اليومي لكل ما يدخل في إطار الوهن والضعف، وإنما المهم هو تدبر معالم هذا التغيير على الصعيدين الداخلي والخارجي، والتركيز على كيفية استغلال الفرصة التي أتاحها فعلا هذا التغيير.

علينا أن نتذكر أنه بعد أحداث 11 سبتمبر 2011 الشهيرة عندما تم ضرب برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك والذي أسفر أيضا عن مصرع ما يقرب من 3 آلاف أمريكي، اتجهت الإدارة الأمريكية آنذاك بقيادة جورج دبليو بوش (بوش الابن) إلى تحميل العالمين العربي والإسلامي المسؤولية بالنظر إلى أن من قاموا بالهجوم ينتمون إلى كل منهما. ورأت تلك الإدارة أن مشكلة الإرهاب تكمن في وجود أنظمة عربية وإسلامية تفرز هذا النوع من الجماعات الإرهابية، ولكى يتوفر الأمن والاستقرار ليس لأمريكا وحدها بل للعالم كله لابد من القضاء على هذه الأنظمة، فكانت الحرب الأمريكية على أفغانستان عقب هذه الهجمات مباشرة لإسقاط حكم طالبان، ثم كانت الحرب على نظام صدام حسين في العراق عام 2003. وآنذاك بدأ الخبراء والسياسيون الأمريكيون يتحدثون عما يسمى بالفوضى الخلاقة، إلى أن كشفت كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك في عام 2005 عن مشروع الشرق الأوسط الجديد لنشر الديمقراطية عبر الفوضى الخلاقة. ودون الدخول في تفاصيل يعلمها الكافة كانت نظرية الفوضى الخلاقة تعنى تشجيع أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف واسع النطاق بين قوى المجتمعات وإشاعة الخوف عند الجماهير مما يؤدى إلى إسقاط النظم القائمة وإقامة مجتمعات جديدة بهويات جديدة تحت راية نشر الديمقراطية. وآنذاك أيضا انتشر ما تم تصميمه لخريطة جديدة للمنطقة تتضمن عددا كبيرا من الدول بدلا مما كان قائما. ولتحويل المشروع إلى واقع تم إسقاط نظام صدام حسين ودخل العراق في حالة من الدمار والعنف وانتهى إلى نظام جديد تماما واعتبرته الولايات المتحدة نموذجا يجب أن يحتذى من جانب بقية الدول العربية كمثال على النظام الديمقراطي.

وعاشت المنطقة العربية سنوات صعبة للغاية من حيث عدم الاستقرار الداخلي طيلة السنوات التي تلت 2005 حتى وقوع ما سمى بالربيع العربي 2011. فقد ظهرت قوى محلية عديدة ترفع راية العصيان وتقود محاولات مستمرة لتغيير الهوية والنظم السياسية القائمة بدعوى التعبير عن الحريات وإقامة الديمقراطية، وتم ذلك بدعم صريح من الولايات المتحدة وبقية الدول الأوروبية. وباتت الدول الغربية على قلب رجل واحد في مواجهة دول المنطقة العربية، حيث تكثفت وتواصلت ضغوط الطرف الأول، وجاهد الطرف الثاني في احتواء هذه الضغوط دون جدوى. وجاءت أحداث 2011 لتمثل أقصى محاولات الغرب تحقيق عملية التغيير لإقامة الشرق الأوسط الجديد. فما عجزت عن تحقيقه المحاولات التالية لعام 2005 أرادت دول الغرب وفى المقدمة منها الولايات المتحدة تحقيقه عبر الدعم الصريح لما سمى بثورات الربيع العربي التي شملت عدة دول عربية. وكان الهدف الرئيس لهذه الموجات من التغيير هو إسقاط الدول القائمة وإحلالها بأخرى تستند على إتاحة الحكم لقوى محلية تنفذ تعاليم الحكومات الغربية وتتبنى سياساتها على الصعيدين الداخلي والخارجي وتحمى مصالحها الاقتصادية. إلا أن مصير مشروع التغيير عبر «الربيع العربي» قد أخفق سريعا. فلم يمضِ وقت طويل حتى جاءت النتائج عكس ما كان مخططا له أو حتى متوقعا. ومن الصحيح أنه أسقط رؤوس السلطة في بلدان التغيير ولكنه لم يسقط النظم واستطاعت بعض الدول أن تحافظ على كيانها كدول بينما دخلت أخرى في مرحلة سيولة بين وجود مظاهر للدولة وغياب أخرى دون الجزم بسقوطها كدول بالفعل. ومثلما كان للغرب رجاله المحليين وقت موجات التغيير، ظهرت قوى محلية أيضا مناوئة له وداعمة لأنظمة ما بعد هذه الموجات!

وهكذا بات التغيير الذي كانت تحلم به الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وذلك في الفترة الثانية لحكم باراك أوباما بإقامة مجتمعات ونظم سياسية جديدة وبذلك يتحقق الشرق الأوسط الجديد، وبات الأمر منتهيا.

لم ينتهي مشروع التغيير المرتبط بأحداث 2011 إلى فشل على الصعيد الداخلي فقط، وإنما لحقه فشل آخر على الصعيد الخارجي. فما كادت الفترة الثانية لحكم باراك أوباما تنتهي أوائل 2016 ووصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ذلك الوقت، حتى وجدنا انهيارا واضحا في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة لبناء الشرق الأوسط الجديد (أصبح مجرد ذكرى من الماضي في الحقيقة)، أي أن المشروع لم يفقد فقط قواه المحلية المدعومة من الغرب، وإنما فقد أيضا زخمه الخارجي أو بالأدق فقد ذلك التحالف وحدته الداخلية.

روسيا لم تقبل التلاعب بها مجددا مثلما حدث عند تحقيق توافق عالمي في مجلس الأمن للسماح لحلف الناتو بضرب نظام القذافي في ليبيا وإسقاطه. لم تشأ روسيا أن تعترض وقتها، ولكنها بعد فترة قليلة اكتشفت أن الغرب يبحث أساسا عن مصالحه الاقتصادية هناك وليس عن تغيير الأوضاع لصالح الشعب الليبي، ولأنها هي صاحبة مصلحة نفطية واقتصادية أيضا، شعرت بأن بقية الكبار قد خدعوها في الملف الليبي، وعليه اتخذت طريقا مضادا منذ ذلك الوقت.

ومن جهة أخرى تراخت وحدة الموقف الغربي تدريجيا بالنسبة لتطورات المنطقة. فلم يهتم ترامب إلا بإسرائيل التي أغدق عليها الهدايا السياسية، ودخل في خلافات مع حلفائه الغربيين، ولم يهتم بسوريا بالكلية وأبدى اهتماما نسبيا بالعراق بسبب صراعه مع إيران بالدرجة الأولى وكسب شعبية داخلية من خلال النصر على «داعش».

وساهم كل ذلك في انفراد روسيا بالملف السوري، ثم بالدخول بشكل صريح في مصير الملف الليبي. وأما الدول الأوروبية فقد دخلت في نفق الانقسام فيما يتعلق بمواقفها من قضايا المنطقة بالنظر إلى تباين مصالحها الاقتصادية والبحث عن النفوذ في المنطقة لتحقيق هذه المصالح.

وهكذا بعد أن سلمت هذه الدول عمليا الملف السوري لروسيا، دخلت في صراع مع بعضها البعض في الملف الليبي مثلما حدث بين فرنسا وإيطاليا، وجدت ألمانيا نفسها عاجزة عن توحيد الموقف الأوروبي من الملف الليبي. ولم تستطع الدول الأوروبية عرقلة الدور التركي الصريح في ليبيا، لأن أنقرة استطاعت أن تستفيد جيدا من التناقضات القائمة بين هذه الدول.

الخلاصة هنا أن التطورات المتلاحقة بعد 2011 قادت إلى نتيجتين واضحتين هما أنه لم تعد هناك قوة خارجية موحدة تجاه قضايا المنطقة تجبر دولها العربية على القبول بمشروع سياسي تريده هي ويحقق مصالحها بالإجمال لا المصالح العربية، وذلك مثلما كان عليه الحال بين 2005 و2011، وكذلك لم تعد هناك قوى محلية ضاغطة تتبنى المشروع الغربي بل هناك قوى محلية مضادة.

والسؤال الذي يفرض نفسه يتعلق بما إذا كانت المتغيرات السالف الإشارة إليها تمثل فرصة لكسر دائرة الخناق على القرار العربي، بحيث يستفيد مما هو قائم من تناقضات في علاقات الكبار من دول الغرب، ومن تزايد لحمته الداخلية مع تراجع دور القوى المحلية التي تصدرت المشهد 2011، أم لا. والإجابة حسب اجتهادنا هي أنه بالإمكان ذلك فعلا. والحجة هي أنه إذا لم يكن ممكنا توفر عامل خارجي موحد العناصر وقوي التأثير يعمل للصالح العربي، فعلى الأقل الاستفادة من التناقضات القائمة في بنيان العامل الخارجي مثلما فعلت تركيا فيما يتعلق بدورها في الملف الليبي، ومثلما فعلت إيران في الملفين العراقي والسوري (يجب ملاحظة خلافات أوروبا مع الولايات المتحدة مؤخرا بالنسبة لموضوع العقوبات)، ومن جهة أخرى يمكن الاستفادة من حالة الاستقرار الداخلي - ولو كان نسبيا - في التخلي عن حسابات القلق المتوقع حدوثها لو اتخذ صاحب القرار العربي موقفا مضادا لأي من التدخلات الخارجية المنفردة (أو غير الجماعية) من شأنه التأثير على أمن واستقرار هذا البلد العربي أو ذاك. والمعنى أن هناك أريحية توفرت لصانع القرار العربي لم تكن قائمة من قبل. هي لحظة للتضامن ووحدة الموقف بلا توجس من تداعياتها، إن لم يتم اغتنامها فستلحق بما سبقها من فرص.