أفكار وآراء

العالم العربي والنموذج الآسيوي

23 يونيو 2020
23 يونيو 2020

عوض بن سعيد باقوير /صحفي ومحلل سياسي -

التجارب الإنسانية على صعيد الدول والمجتمعات يمكن القياس عليها في مرحلة زمنية محددة بصرف النظر عن الظروف الموضوعية في بعض الأحيان، ومع ذلك فإن التجربة العربية منذ عهد الاستقلال يمكن قياسها بتجربة دول جنوب شرق آسيا وكيف انتهى المطاف بعد عقود بكلا التجربتين.

فالعرب يقترب عدد سكانهم الآن من ٤٠٠ مليون نسمة مع وجود ٢٢ دولة تحت منظومة الجامعة العربية التي تعد أقدم منظمة إقليمية في العالم، بل إنها سبقت الأمم المتحدة في وجودها بشهور عام ١٩٤٥ وهناك دول جنوب شرق آسيا والتي خاضت حروبا مدمرة مع الاستعمار لعقود وهي حروب أكثر قسوة من الحروب التي واجهها العرب مع الكيان الإسرائيلي وأيضا مع الاستعمار البريطاني والفرنسي والأمريكي والإيطالي، ومن هنا فإن القياس على التجربة التنموية والفكر السياسي والاقتصادي والذي أوجد الفارق في التجربتين العربية والآسيوية هو واقع معاش حاليا.

حروب الاستقلال والتنمية

كانت عقود الخمسينات والستينات وحتى عقد السبعينات من المراحل الزمنية الفارقة في المشهدين العربي والآسيوي حيث النضال والكفاح لنيل الاستقلال والتحرر من التبعية الاستعمارية، وقد دفعت شعوب المنطقتين ثمنا باهظا ولعل التجربة الجزائرية تعد نموذجا من خلال مقاومة الاستعمار الفرنسي البغيض لأكثر من ١٣٠ عاما وهناك التجربة المصرية والمغربية والتونسية وحتى الموريتانية والصومالية، في حين كانت منطقة الخليج والجزيرة العربية في وضع أشبه بالاستعمار أو الحماية البريطانية، وكانت هناك حروب فاصلة خاصة في فلسطين المحتلة منذ سنة النكبة عام ١٩٤٨ وحرب العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦ وبعد ذلك الهزيمة المدوية للعرب عام ١٩٦٧ وانتهاء بالحرب المشرفة التي انتصر فيها العرب على الكيان الإسرائيلي عام ١٩٧٣ وبعد ذلك تحول العالم العربي إلى مرحلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبقت قضية فلسطين هي الجرح الذي لايزال ينزف حتى الآن. على الجانب الآخر كانت دول جنوب شرق آسيا تحديدا تخوض حروبا كبيرة وقاسية لنيل الاستقلال أولا وبعد ذلك معركة التنمية، وكانت دول كماليزيا وإندونيسيا وكوريا وفيتنام وكمبوديا ولاوس وغيرها من النمور الاقتصادية الآن تعاني الأمرين ويكفي نموذج الحرب على فيتنام وهي حرب قاسية وظالمة لندلل على قسوة الحروب في منطقة جنوب شرق آسيا من قبل القوى الكبرى، فحرب فيتنام خلفت ملايين الأبرياء وهو الأمر الذي حدث في الجزائر الشقيق وهناك الحرب الكورية التي أدت إلى انفصال الكوريتين وهو نفس نموذج الحرب في اليمن. ومن نتائج حروب منطقة جنوب شرق آسيا هو انفصال سنغافورة عن ماليزيا.

من هنا فإن هناك مرحلة زمنية متشابهة بين المنطقة العربية ومنطقة جنوب شرق آسيا ولكن بعد مرحلة الاستقلال حدث الفارق التنموي الكبير بين رؤى وأفكار وخطط وفلسفة الحكم بين المنطقتين أدى إلى واقع اليوم.

المسار الآسيوي

يمكن النظر إلى نموذج ماليزيا في مراحل التنمية ما بعد الاستعمار البريطاني والذي تحدث عنها صانع ماليزيا الحديثة الدكتور مهاتير محمد من خلال مذكراته المنشورة أو من خلال أحاديثه الشيقة هذه الأيام من خلال برنامج شاهد على العصر الذي تبثه قناة الجزيرة، حيث يتحدث فيها عن التجربة الماليزية وأيضا تجربة دول رابطة الاسيان والذي كان له دور في ظهورها مع عدد من قيادات دول جنوب شرق آسيا وهي المنظمة التي بدأت بأربع دول وأصبحت الآن كيانا آسيويا هاما.

عانت ماليزيا من عدة أمور معقدة في زمن الاستعمار حيث فرض عليها عرقيات من خارج البلد الأم خاصة من الصين والهند وبقي السكان الملاي مهمشين ثم حدث انفصال إحدى مناطقها المهمة والتي سميت بعد ذلك بسنغافورة ذات العرقية الصينية والتي أصبحت أحد نمور آسيا الكبار على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجيا واللوجستي، ومن هنا عانت ماليزيا الأمرين كما هو الحال في كوريا وفيتنام حيث عانت هذه الأخيرة الأمرين من الحرب القاسية عليها من الولايات المتحدة الأمريكية والتي انتهت بخروج مذل للقوات المعتدية.

إن العقلية الآسيوية والفكر الذي انتهجه قادة تلك الدول المنكوبة هو الذي قاد دول جنوب شرق آسيا إلى التطور التنموي خاصة في مجال التصنيع والتنافسية والإنتاجية بعيدا عن الصراعات السياسية ولغة الخطابة وفلسفة الهيمنة والغرور التي لم تستطع فلسفة الحكم في عدد من الدول العربية الفكاك منها حتى اليوم.

إذا انطلقت دول جنوب شرق آسيا من مفهوم التنمية الشاملة وتطوير المجتمعات ونبذ الحروب وإيجاد مقاربة سياسية وحتى استيعاب العرقيات واندماج الكتل الاجتماعية في بوتقة واحدة، لتظهر لنا النمور الآسيوية بعد نصف قرن من العمل الجاد مع تواضع قيادات تلك الدول وإظهار قيم التسامح مع المعتقدات والقيم المختلفة من خلال التراكم التاريخي لتلك الدول.

إن تلك المعايير هي التي حددت مسار التنمية وفلسفة الحكم كما يرويها أحد قادة منطقة جنوب شرق آسيا الكبار وهو الدكتور مهاتير محمد والذي يعد أحد مفكري تلك المرحلة، إذا فلسفة الحكم الرشيد والابتعاد عن الحروب الأهلية والإقليمية مكنت تلك الدول في جنوب شرق آسيا على استعادة تفكيرها في جو من الشفافية والإنتاجية بعيدا عن ضجيج الإعلام ليصحو العالم على نمور آسيوية تلعب دورا محوريا في اقتصاد العالم ولتحتل دولتين منها المركزين الثاني والثالث على قمة الاقتصاد العالمي وهي الصين واليابان، وهذه الأخيرة لها تجربة متفردة سوف نتحدث عنها في مقال مستقل بفعل الواقع والمشاهدة عن قرب.

الواقع العربي المرير

كان الواقع العربي أفضل حاليا في مرحلة ما بعد الاستقلال من دول جنوب شرق آسيا والتي دمرتها حروب قاسية بل وتعرضت عدد من مدنها للقنابل الذرية كما في الحالة اليابانية، كما أن هناك في البلدان العربية الثروات الطبيعية خاصة النفط والممرات البحرية الاستراتيجية كقناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز والبحار المفتوحة، وكان عدد السكان يقل كثيرا عن دول جنوب شرق آسيا وكانت هناك فرصة للانطلاق التنموي في نفس الفترة الزمنية مع دول جنوب شرق آسيا الأقل إمكانيات وأكثر تضررا من الحروب. صحيح واجه العرب الخصم الإسرائيلي في أكثر من حروب ومع ذلك كانت هناك فرصة للتفوق العلمي والاقتصادي وهو الأمر الذي نجحت فيه إسرائيل بشكل واضح، ومن هنا فإن هناك تساؤلات كبيرة عن العجز العربي والحال المعقد والسلبي الذي وصل إليه العرب في هذه المرحلة من خلال اشتعال الحروب الأهلية والمغامرات غير المحسوبة وإهدار المليارات من الدولارات في استراتيجيات وهمية وطغيان المراهنات على كسب الحروب، من هنا فإن القيادات العربية مدعوة إلى مراجعة النفس وإنقاذ الأمة العربية من الواقع المزري الذي تعيشه في حين إن تجربة دول جنوب شرق آسيا وصلت إلى مرحلة متقدمة ونرى بأن الوقت لم ينته من خلال عقد قمة عربية فكرية تناقش الواقع العربي وكيف السبيل إلى مقاربة سياسية جديدة في ظل المقومات والثروات الطبيعية والبشرية والجغرافيا المميزة من أقصى المغرب العربي إلى أقصى شرقه، في ظل المتغيرات وانطلاق المنافسة بين أجيال العالم في مجال الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء.

إن واقع الأمة العربية يحتاج إلى إعادة نظر وفض النزاعات والحروب العبثية في أكثر من بلد عربي والتفرغ لتطوير الأوطان وأن تكون الجامعة العربية هي المظلة التي تقود العمل العربي المشترك، كما حدث ذلك بالنسبة لمنظمة الاسيان والتي تركز على العمل الاقتصادي والاجتماعي الذي ينشر الازدهار والرفاهية بين شعوب تلك المنطقة، وبدون ذلك ستظل المنطقة العربية بدولها منطقة مهمشة يتم استغلال ثرواتها ومقدراتها وتظل سوقا للسلاح يستنزف مقدرات الشعوب. إن الهدف من عرض سريع للنموذجين العربي والآسيوي هو مجرد صرخة للتفكير في واقع الحال حتى لا نجد منطقة أخرى بعد سنوات قليلة تتجاوز العالم العربي في مجال الحكم الرشيد والفكر التنموي بعيدا عن حركة الاستقطاب والحروب وإهدار الثروات، ولعل المنطقة الإفريقية ليست ببعيدة في قادم السنوات عن النموذج الآسيوي وهناك بعض الشواهد على ذلك في نموذج رواندا الذي تحدثنا عنه في مقال سابق.