أفكار وآراء

التطورات في ليبيا..ومحاولة احتواء الخطر !!

22 يونيو 2020
22 يونيو 2020

د. عبد الحميد الموافي -

على امتداد السنوات التسع الماضية، ومنذ أن تم إسقاط حكم العقيد الليبي معمر القذافي في ليبيا بتدخل مباشر من جانب قوات حلف الأطلنطي عام 2011، تحولت ليبيا الشقيقة إلى جرح مفتوح ونازف في الجسد العربي، ليس فقط لأن حلف الأطلنطي والولايات المتحدة والدول الأوروبية تركت الساحة الليبية لتفاعلات قواها الداخلية المنقسمة والمتنافرة،

ولكن أيضا لأن القوى الإقليمية والدولية ذات المصالح في ليبيا أخذت تسعى بشكل فردي وراء مصالحها الخاصة والمباشرة، ومن ثم ظهرت وتكاثرت مجموعات الميليشيات المسلحة، التي استولى بعضها على بعض مخازن السلاح الليبي، وحاول البعض الآخر الاستيلاء على بعض المناطق والمدن والسيطرة عليها في تكرار لخبرة القاعدة وداعش، بل ورفع شعارات هذين التنظيمين أحيانا، وهو ما انطوى على مخاطر حقيقية وملموسة بالنسبة لمصر بحكم الحدود الطويلة مع ليبيا - اكثر من 1100 كيلومتر - من ناحية وبحكم موقف التيارات الدينية الليبية المتطرفة من مصر من ناحية ثانية، كما طالت تهديدات تلك الميليشيات كلا من تونس والجزائر بدرجات متفاوتة، وعبر تفجيرات وعمليات إرهابية في هاتين الدولتين في السنوات الماضية.

وفي الوقت الذي يمثل فيه برلمان طبرق، البرلمان الليبي الشرعي والمنتخب، فإن حكومة عبد الله الثني لم توافق على تسليم السلطة لحكومة فايز السراج التي تكونت في إطار مؤتمر الصخيرات عام 2015 ومقرها طرابلس، والتي شكلت والمجلس الرئاسي الليبي الجهاز التنفيذي الليبي المعترف به دوليا، ومن ثم أصبحت هناك سلطتان متنازعتان في ليبيا، إحداهما في بنغازي والأخرى في طرابلس، وزاد من الانقسام بين السلطتين أن اللواء السابق خليفة حفتر قام بتجميع الكثير من عناصر الجيش الليبي السابق، وسعى بمباركة مجلس النواب الليبي وحكومة الثني في بنغازي إلى استعادة سيطرة الجيش الوطني الليبي على مناطق ليبيا المختلفة، بما فيها العاصمة طرابلس، على أمل استعادة تماسك الدولة الليبية مرة أخرى وإنهاء حالة التشرذم المستمرة منذ سقوط القذافي. في مقابل ذلك عمد السراج إلى ضم وتجميع مجموعة ميليشيات متنوعة الاتجاهات، سواء للدفاع عن العاصمة طرابلس، أو في استكمال هياكل السلطة في غرب ليبيا، وقد استفادت هذه الميليشيات، التي لا تزال تحتفظ بهياكلها وتكوينها الخاص بها، من الغطاء السياسي الذي توفره حكومة الوفاق بحكم الاعتراف الدولي بها.

وبينما حاول خليفة حفتر السيطرة على العاصمة الليبية، في حملة عسكرية بدأت في أبريل عام 2019، فإن خطوط الإمدادات الطويلة بين شرق وغرب ليبيا، والصحراء الليبية المفتوحة والافتقار إلى مراكز إمداد ودعم لوجستية مناسبة على امتداد خطوط الإمداد، والتدخل التركي الواضح والقوي والمباشر، ونقل أنقرة آلاف الميليشيات من سوريا إلى ليبيا، وتوفير كميات كبيرة ومتطورة من الأسلحة لها، وهي أمور تحدثت عنها تركيا بشكل واضح ومباشر خلال الأشهر الأخيرة، أدت إلى قلب ميزان القوى منذ أواخر الشهر الماضي، حيث اضطرت قوات حفتر إلى التراجع من محيط طرابلس وقيام حكومة السراج بالسيطرة على مدن الغرب الليبي التي كانت في قبضة قوات حفتر، بما فيها مدينة ترهونة، بل والاتجاه شرقا لمهاجمة مدينة سرت بدعم تركي واضح ومعلن كذلك. ومن ثم تبلور الموقف في ليبيا الآن على الأقل في سعى حكومة السراج والميليشيات الداعمة لها، وبدعم تركي في محاولة التحرك شرقا على أمل السيطرة على سرت، ومثلث النفط، كما أعلن الرئيس التركي أردوغان ذاته من جانب، وسعت قوات حفتر إلى الدفاع عن مواقعها واستجماع قواها وإعادة تنظيم صفوفها مرة أخرى لوقف تقدم قوات حكومة الوفاق شرقا. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

أولا: انه إذا كانت الأزمة الليبية قد استقطبت اهتماما إقليميا ودوليا كبيرا وملموسا، تمثل في الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة عبر مجلس الأمن، ومن خلال مبعوثي الأمين العام لها، وآخرهم غسان سلامة، الذي استقال من مهمته التي بدأت في يونيو 2017 وانتهت في 2 مارس 2020، وعبر جهود الاتحاد الأوروبي، وآخرها مؤتمر برلين في 19 يناير الماضي، فإن ليبيا شهدت في الوقت ذاته منافسات وصراعات مباشرة وغير مباشرة لعدد من الأطراف الإقليمية والدولية، المؤيدة لحفتر من جهة، والمؤيدة للسراج من جهة أخرى خاصة بعد التدخل التركي القوي إلى جانب حكومة الوفاق الليبية، والذي أدى إلى قلب ميزان القوى وتراجع قوات حفتر. ولعل ذلك هو ما دفع القاهرة إلى طلب عقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب لبحث الأوضاع على الساحة الليبية وهو الاجتماع الذي سيعقد على الأرجح خلال الأيام القليلة القادمة. ولعل ما يزيد من أهمية اجتماع وزراء الخارجية العرب أن الآونة الأخيرة شهدت رغبة وعملا تركيا حثيثا لاستغلال قاعدة الوطية الجوية جنوب شرق طرابلس، والتي تم انتزاعها من قوات حفتر مؤخرا وإقامة قاعدة جوية تركية فيها، حسبما عبرت عنه مصادر تركية، وكذلك بحث إقامة قاعدة بحرية في ترهونة، أو سرت إذا تمت استعادة السيطرة عليها، ومعروف أن سرت موقع بحري استراتيجي حيوي على البحر المتوسط ويتحكم في خليج سرت. يضاف إلى ذلك أن أنقرة تستعجل القيام بعمليات إعادة إعمار في ليبيا لتحقيق الاستفادة الاقتصادية من ناحية ولتثبيت وجودها في ليبيا ولنقل المزيد من السلاح والقوات إليها تحت غطاء نقل معدات ومواد إعادة الإعمار، إذا تم الاتفاق على ذلك من ناحية ثانية. جدير بالذكر أن أنقرة تعتمد في ذلك على اتفاقية التعاون الأمني والدفاعي التي تم التوقيع عليها بين تركيا وحكومة السراج قبل اشهر، والتي تعتمد عليها تركيا لتعزيز نشاطها في شرق البحر المتوسط، برغم اعتراض اليونان وقبرص ومصر وفرنسا على تلك الاتفاقية التي تطلق يد أنقرة في ليبيا على نحو غير مسبوق، وهو ما تنظر إليه القاهرة بتوجس كبير، خاصة في ظل العلاقات المعروفة بين تركيا ومصر على مدى السنوات الأخيرة.

وليس مصادفة أن يقوم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بزيارة لقاعدة محمد نجيب العسكرية في المنطقة الغربية ويتحدث عن قوة الجيش المصري، واكتمال مسوغات شرعية التدخل المصري المباشر في ليبيا، إذا قررت مصر ذلك، وعن اعتبار مصر تجاوز خط سرت - الجفرة، خطا أحمر. وهي رسالة بالغة الدلالة والوضوح، خاصة وأن مصر قد أكدت باستمرار حرصها على الحل السياسي في ليبيا وعلى استعادة تماسك الدولة الليبية والقضاء على الميليشيات الإرهابية وإخراج الميليشيات الأجنبية من ليبيا، إلا أنها في رسالتها الأخيرة أكدت على أهمية الحفاظ على أمنها القومي، وعلى الدفاع الذاتي عن النفس، وعلى أن أمن ليبيا واستقرارها من أمن مصر. وقد أثار هذا الموقف اعتراض تركيا وحكومة الوفاق في طرابلس.

ثانيا: انه في حين توجد خلافات واضحة ومتواصلة بين إيطاليا وفرنسا حول التطورات في ليبيا، حيث تميل روما إلى تأييد حكومة السراج، وتميل باريس إلى تأييد قوات شرق ليبيا، وذلك تعبيرا عن تضارب المصالح بين القوتين الأوروبيتين، فإن الاتحاد الأوروبي لم يستطع حتى الآن على الأقل القيام بدور ملموس وفعّال بالنسبة للازمة الليبية، ولا حتى بالنسبة لوقف تدفق الأسلحة والميليشيات من تركيا وسوريا إلى ليبيا، وهو ما كان مؤتمر برلين قد أكد عليه في يناير الماضي. ومن أجل محاولة خلخلة الموقف الأوروبي أكثر، سعت تركيا إلى اجتذاب إيطاليا في الأيام الأخيرة - خلال زيارة وزير خارجية إيطاليا لأنقرة الأسبوع الماضي - بالتلويح بتعاون تركي إيطالي للتنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط. من جانب آخر فإن الولايات المتحدة لا تزال تتحفظ، أو لا تتحمس على القيام بدور فعّال في ليبيا، خاصة منذ مقتل سفيرها في ليبيا في 11 سبتمبر 2012، ولأنها تريد أيضا أن تترك المجال لتورط روسي اكبر في ليبيا، أملا في استنزاف موسكو في سوريا وليبيا أيضا، ولم يكن مصادفة أن يدعو وزير الخارجية الروسي لافروف واشنطن إلى القيام بدور أكبر للتعاون من أجل وقف القتال في ليبيا قبل أيام. وفي ظل هذه التحركات المتعددة، فإن مبادرة القاهرة التي أعلنها الرئيس السيسي، لوقف القتال في ليبيا، وذلك في إطار تفاوضي وحل سلمي لا يستبعد أي من الأطراف الليبية وبالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، قد أيدتها أطراف إقليمية ودولية وفي شرق ليبيا، إلا أن تركيا وحكومة الوفاق في طرابلس رفضتها وأعلنت استمرار القتال.

ولعل الاجتماع القادم لوزراء الخارجية العرب يتمكن من الوصول إلى مواقف بناءة وفعّالة من أجل الدفع نحو الحل السلمي للأوضاع في ليبيا وبما يقطع الطريق على محاولات استفادة بعض القوى الإقليمية منها على حساب المصالح الوطنية الليبية ومستقبل ليبيا. وهنا تثار في الواقع تساؤلات حول الموقف الروسي من الأوضاع والتطورات في ليبيا، وهل تدفع موسكو بالفعل نحو وقف إطلاق النار في ليبيا، أم أنها تدخل في مساومات مع أنقرة وعلى نحو يربط بين ما يجري في سوريا وما يجري في ليبيا، حيث تمثل تركيا قاسما مشتركا فيهما، فكيف يمكن أن توازن موسكو مصالحها في البلدين الشقيقين وبما يحافظ على استقلالهما ووحدة أراضيهما؟

على أية حال فإن ترؤس السلطنة للدورة الحالية للمجلس الوزاري لجامعة الدول العربية والتي أعلنت حكومة الوفاق عدم المشاركة فيها، يمكن أن يعزز ما يمكن أن تقوم به السلطنة من مساع حميدة للتقريب بين شرق وغرب ليبيا، ولتعزيز فرص وقف القتال والسير نحو الحل السلمي، خاصة وأن السلطنة استضافت من قبل مفاوضات ليبية تمخضت عن التوصل إلى مسودة للدستور الليبي، فليبيا الآن في حاجة ماسة إلى كل جهد إيجابي ومخلص لوضع حد للقتال وللحفاظ على موارد ليبيا لأبنائها.