أفكار وآراء

ثلاثية القوة: العنف الثروة المعرفة

21 يونيو 2020
21 يونيو 2020

أحمد بن سالم الفلاحي -

ربما قد يتبادر السؤال ابتداء عن ماهية العنف الذي يشكل أحد مصادر القوة؛ عند التسليم جدلا على أن الثروة والمعرفة هما حتميتان رئيسيتان في مصادر القوة.

يفرض الواقع في كل عصر أدوات مختلفة، وعناصر مختلفة، بغية التناغم مع متطلباته المختلفة، وإذا كان الإنسان هو اللاعب الأكثر فعلا في محيط هذا الواقع، فإن هذا الإنسان هو ذاته من يأتي بهذه الأدوات، وهو نفسه الفاعل فيها، وهو نفسه الذاهب إلى تأصيل فعلها، وتعميق تأثيراتها، من منطلق «الحاجة أم الاختراع» ولكن على الرغم من هذه الحقيقة التي لا جدال فيها، ترى هذا الإنسان هو من يشتكي من قسوة تأثير هذه الأدوات عليه، فليس كل ما أوجده الإنسان تسهيلا لحياته، كان موضع استحسان، بل أصبح في حكم النقمة على حياته، لما جره من مآسٍ وقعت الإنسانية برمتها في مأزقه.

ولذلك ينظر بكثير من التمعن في الترقي في هذه الأدوات التي توافقت مع ترقي الحياة الإنسانية منذ البدايات الأولى لعمر الإنسانية، وإن كانت القوة العضلية في جانب القوة؛ هي التي ابتدأ الإنسان بها حياته لتسخير الكثير مما يعترض طريقه، فإن هذه القوة تصل اليوم إلى ضغطة زر، فإذا هي تشعل العالم من أوله إلى آخره، حيث شكلت الحروب على وجه الخصوص؛ أحد الدوافع المهمة في حياة البشرية للارتقاء بأدوات الحرب، بدءا من الأقواس والنبل، مرورا بالاستعانة بالحيوانات، ومن ثم الأسلحة التقليدية، وصولا اليوم إلى الأسلحة الإلكترونية، والأسلحة البيولوجية، وربما القادم يحمل أنواعا اكثر دقة وخطورة، لما يكتب له عمر معايشتها، ولكن إجمالا تبقى القوة هي الأداة المحورية للبقاء والاستقرار، أو للتشتت والانتهاء، ومعنى هذا فلا بد أن يكون للقوة موضع قدم في أي فكر إنساني ينشد البقاء والتطور والاستمرار، وهذه من الأمور المسلم بها مطلقا، حيث «لم يبن ملك على جهل وإقلال» ولذلك تأتي اليوم قوائم مسميات الحروب: الإلكترونية، البيولوجية، النووية، كلها نواتج لفضاءات المعرفة في حالة تسخيرها لهذا النوع من الحروب، وهي المتاحة اليوم، حيث تجاوز مفهوم الحرب المسمى التقليدي للحروب، فلم تعد الدبابة، والطائرة الحربية، والمدفع هي الأدوات المعتمد عليها في الحروب اليوم، ويكفي الطائرات المسيرة بدون طيار الـ « درون» المثال الأقوى لهبات المعرفة في مجال الحروب.

ينظر إلى ثلاثية القوة: العنف والثروة والمعرفة على أن لها اليد الطولى في تقصي الأوراق القادرة على إركاع الشعوب، أو الأفراد، ولذلك هي تكتسب أهمية كبرى لدى الوعي العام في أي مجتمع، وكما هي تشكل أهمية قصوى في ذات الاتجاه لدى الدول في عموميتها، والأنظمة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، في خصوصيتها وتفردها، وتخصصها، هي كذلك تشكل نفس الهاجس لدى الفرد الواحد، طبعا مع اختلاف الإمكانيات، وتوافق الرؤى والطموحات، فليس هناك فرد عاقل في أي مجتمع له طموحات تحقيق قوة ما، لا يأخذ بأسباب امتلاكها، كالثروة؛ على سبيل المثال؛ التي إن سنحت له الفرصة لامتلاكها، أن لا يمتلكها، أو المعرفة؛ ولعلها الأقرب إلى تحقيقها، فقط تحتاج إلى اهتمام، وهمة، مع اليقين الموجود عند الناس، أنه من يمتلك المعرفة، يمكنه أن يمتلك الثروة إلى حد ما، وبالتالي امتلاك القوة، والتي في استطاعته أن يجيرها لقضاياه الخاصة، ولو بأسلوب العنف، وهذا مأزق وقع فيه البعض، وتجارب الحياة وقصص الفاعلين فيها، لا تخلو من ثيمة الـ«قوة» التي تحتاج إلى عنصر ما من (العنف، أو الثروة، أو المعرفة) وعندما تؤول العلاقة بين هذه المعززات الثلاث إلى تكوين قوة ما، فسوف تكون لذلك حسابات الربح والخسارة، وهذا أمر مفروغ منه، وبالتالي سيبقى الحرص إما على تنميتها جميعا، أو التركيز على أحدها، وذلك كله متوقف على الرؤى الاستشرافية، سواء للدول، أو للأفراد، ومن هنا يأتي وضع خطط العمل والبرامج لتحقيق ذلك، ووضع كل الحسابات الدقيقة للكسب، وليس للخسارة ويقينا لا خسارة في بذل الجهد لتحقيق المعرفة.

ربما قد يتبادر السؤال ابتداء عن ماهية العنف الذي يشكل أحد مصادر القوة؛ عند التسليم جدلا على أن الثروة والمعرفة هما حتميتان رئيسيتان في مصادر القوة، هنا استشف هذا المعنى مما جاء في كتاب (سوسيولوجيا الثقافة) للدكتور عبد الغني عماد، حسب النص التالي: «لا يشك أحدنا بأن العنف يأتي بنتائج مدهشة، لأن مجرد وجود ظلال العنف أو القانون يكسب الدولة مهابة وقوة. لكن العنف بشكل عام يعاني سقطات، لأن البدء به يشجع على الدخول في حلبة سباق التسلح، ويزيد الخطر الذي يهدد كل إنسان، ويولد «مقاومة» من الطرف الضحية. وأسوأ ما في العنف انه يتصف بعدم المرونة والفظاظة، وأنه لا يصلح إلا للعقوبة، لذلك فهو أدنى أنواع القوة» - انتهى النص-.

نظر إلى الثروة منذ البدايات الأولى لعمر الإنسانية على أنها القوة الخارقة، وأن مجموع كل القوى الفاعلة في حياة الناس، ما هي إلا انعكاس لتطور الثروة، بل هي نتائج لها، ومعنى ذلك أن أي مفهوم للقوة لا يمكن اعتماده قبل أن يدخل في مطبخ الثروة، وأن المعرفة ما جاءت إلا نتيجة من نتائج الثروة، وأن الثروة هي التي أرخت للمعرفة القدرة على النمو، والإنتاج، ولذلك يلجأ دائما عند المقارنة إلى الدول الأكثر فقرا، في عدم قدرتها على تأصيل المعرفة، لتواضع إمكانياتها، فللمعرفة ثمن باهظ أيضا، وتأتي الثروة أحد أركانه الأساسية بلا منازع، ولكن في ختام الأمر، إن فقدت المعرفة في إدارة الثروة ضاعت الثروة، وذهبت يبابا تذروه الرياح، لأن توظيف الثروة يحتاج إلى كثير من الحكمة والتروي، ففاقدها لا يعوض بتلك السهولة والبساطة والسرعة، وبالتالي فهي الحارس الأمين للثروة يقال: «التحكم في المعرفة هو لب الصراع الذي سيدور غدا على السلطة في كل مؤسسة بشرية على نطاق العالم»- حسب المصدر السابق - على عكس ما هو شائع على أن احتكار المعرفة واحدة من الأسلحة التي تستخدمها الأنظمة السياسية لابتزاز القوى الأضعف، وضعفها يكمن في قلة امتلاكها للمعرفة، وبالتالي متى تنبهت الأنظمة لأهمية المعرفة، واستعدت لذلك الاستعداد المفضي لامتلاكها، كان لها فضل ترسيخ الأمن والاستقرار لشعوبها على الأقل، فالمعرفة لم تعد «حكرا» لأحد بصورة مطلقة، وكما هو معلوم بالضرورة أن ازدهار سيادة الدول اليوم تكون بالقوة المعرفية، وكلما استطاعت الدول أن تمتلك جوانب كثيرة من المعرفة في شؤون الحياة المختلفة، أهلها ذلك لأن تتبوأ مكانة الصدارة في جلب الثروة، وبالتالي الصدارة في توظيف عناصر القوة بما يخدم برامجها وخططها الإنمائية، بما يعود بالخير العميم على شعوبها، وشعوب العالم من حولها، حيث تشكل النتائج السلمية للمعرفة في مجالات الطب، والهندسة، والغذاء، والبيئة، والاقتصاد بجميع مناخاته، وبالتالي فالأنظمة السياسية التي تسعى لإحلال السلام والأمن في ربوعها على الأقل تمكنها المعرفة من الوصول إلى أهداف كل هذه العناوين المطروحة اليوم؛ أكثر من أي وقت مضى؛ على طاولة الاهتمامات، ولذلك تنجز بعض الدول كما نوعيا من نتائج المعرفة، ولعل دول «نمور آسيا» هي المتقدمة اليوم أكثر من غيرها في هذا الجانب، وهي بذلك تتقدم بخطى سريعة، متجاوزة بذلك مجموعة القوى التقليدية، التي هيمنت على العالم ردحا من الزمن بعنصر قوة العنف، وها هي؛ أي القوى التقليدية؛ تتراجع اليوم أكثر من أي وقت مضى، وتسجل خسائر كمية مقابل حصاد الدول التي تتبنى سبل المعرفة للتقدم، ولعل جائحة «كورونا - كوفيد19» أظهرت الكثير من صور التراجع، وأقلها عدم قدرتها على مواجهة هذه الجائحة، قياسا بما كان يتوقع منها.

ختاما؛ هل سيشهد العالم تحولات جوهرية - نتيجة تقدم المعرفة - في حقيقة العلاقة بين الطبقات الاجتماعية التقليدية بدءا من قاعدة الهرم العريضة، مرورا بالطبقة الوسطى، وصولا إلى الطبقة العليا؟ أم أنه لا علاقة بين الأطر المعرفية الذاهبة إلى خلخلة كل الكيانات التقليدية وتفكيكها، وبين الأطر الاجتماعية المتجسدة في قناعات الأفراد الذين لا يزالون ينظرون إليها على أنها الرهان الأبقى لبقاء المجتمعات، وأن الإنجاز المعرفي للفرد الواحد لا يعدو أن يكون حالة استثنائية في خضم مجتمع كبير.