أفكار وآراء

لماذا أخفق مشروع النهضة العربية؟

20 يونيو 2020
20 يونيو 2020

عبد الله العليان -

في الحديث عن الحركة الإصلاحية العربية، التي انطلقت في القرن الثامن عشر وما بعده، وأسهمت في طرح فكرة المشروع النهضوي العربي/ الإسلامي، فهل الإخفاق رافق هذه الحركة منذ انطلاقتها، بسبب وأد الاستعمار مشروعها في إصلاح واقع الأمة المتردي، التي كانت تعيش فيه منذ ما قبل غزوة نابليون؟ وازدادت تراجعاً بعد هذه الغزوة، وأصبحت واقعا سلبياً في جوانب عديدة، يطول الحديث عنها.

الحقيقة أن الكثير من الآراء تعددت في تحديد سبب الإخفاقات والتراجعات التي أصاب حركة النهضة العربية الأولى، وكذلك الإصلاح الديني في بعض الاجتهادات الفكرية والتجديدية، خاصة المشروع الذي بدأه الإمام محمد عبده والمصلح جمال الدين الأفغاني، في التغيير والإصلاح الذي ينهض بواقع الأمة مقارنة بأمم عديدة، إلى جانب تنبيه هذه الحركة الإصلاحية، بمخاطر الحملات الاستعمارية، التي كانت استهدفت أغلب البلاد العربية، منذ أوائل القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر.

فمن رأى أن إخفاق مشروع الإصلاح النهضوي العربي والإسلامي، أن الأفكار التي طرحت كانت، لا غبار عليها من حيث المضامين، وكذلك من الرؤى العقلانية والفكرية التي رسمها هؤلاء الرواد للأمة، من حيث النظرة إلى أهمية تجديد الرؤى والأفكار الإسلامية كما أشرنا، التي تحقق مسار النهضة للخروج من الواقع التخلف العلمي والفكري، وكذلك التخلص من نير الاستعمار والتحرر منه، والجمع بين التجديد الديني والعقلي في قضية إيقاظ وعي الأمة، للتخلص من التخلف والتمزق والاستعمار، وهذه ليست بعيدة عن الأسس الإسلامية التي انطلقت منذ العصور الأولى، وأسست حضارة كبيرة متماسكة.

لكن الحركة الإصلاحية، واجهت إعاقات كبيرة من الدول الاستعمارية التي تريد واقعا متخلفا للأمة لأهداف لا تخفى على المتابع الحصيف، وإن ادعت ـ هذه الدول ـ أنها جاءت لتنهض بهذه التي تم استعمارها، عندما أحست بنشاطات الحركة الإصلاحية، في الأوساط الفكرية والمؤسسات العلمية في مصر على الوجه الأخص، وتأييد النخب السياسية والفكرية في ذلك، من خلال الكتابات الصحفية والخطابات المتعددة، وقد تم اعتقال الإمام محمد عبده، بسبب وقوفه مع ثورة العرابية، ثم تم نفيه خارج مصر لعدة سنوات، وتم طرد جمال الدين الأفغاني من مصر إلى الهند، وتمت أيضا مضايقته من السلطات الاستعمارية البريطانية، وسجنته لفترة في مدينة كلكتا الهندية، بسبب تحركه في خلق الوعي الفكري والسياسي بين المسلمين بالهند، للتحرر واليقظة من الواقع الذي يعيشه المسلمون وغيرهم من التيارات الدينية الأخرى، وكان حراك الأفغاني ونشاطه، الأكثر تأثيراً حتى من محمد عبده، لتوحيد الأمة لمواجهة الغزوات الاستعمارية، أما محمد عبده، الذي تراجع عن بعض تحركاته السياسية تحت ضغوطات سياسية، بعد عودته من منفاه القسري خارج بلده واتجه إلى التربية والتعليم، عندما تمت محاصرة نشاطه الفكري والسياسي في مؤسسة الأزهر والأندية الفكرية والثقافية الأخرى.

وللحق أن الحركة الإصلاحية والنهضوية في القرن الثامن، للشيخين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، لم تحقق كل أهدافها في تلك الفترة، التي انطلقت فيها لأسباب معروفة، لكن أفكارها، ساهمت في خلق الوعي بعد ذلك، لتغيير واقع الأمة وحشد طاقاتها ضد الاستعمار، كما أن بعض المحافظين في مؤسسة الأزهر، لم يتفقوا مع بعض آراء الإمام محمد عبده، في مسألة تجديد الفكر الإسلامي، تجاه قضايا النهوض والتقدم والفهم الجديد للإسلام، والتفاعل مع العصر وتحدياته الجديدة، وما حصلت عليه الأمم الأخرى، وتغيير بعض ما هو متبع في مناهج الأزهر آنذاك، خاصة أن أفكار جمال الدين الأفغاني، لاقت تجاوباً كبيراً لدى محمد عبده، خاصة في النقد الاجتماعي، والاهتمام بقضية العقل ودوره في النهضة العلمية والفكرية والفلسفية، والتفكير في أوضاع الأمة المتردية في مناح كثيرة، لكن البعض لم يكن واعياً آنذاك بأهمية هذه الرؤى الفكرية التجديدية.

كان الشيخ محمد عبده، مدركاً لتلك المرحلة ومتطلباتها، التي تحتاج إلى رؤى جديدة، للخروج من مأزق التخلف والتراجع، إضافة إلى مخاطر وآثار الاستعمار العسكري والفكري، الذي حاول أن يخلخل الأفكار ويبث فكره ونزعاته بين بعض النخب الليبرالية، لتكون تابعة له تحت مسميات فكرية وفلسفية، ليكون فكره هو البديل لواقع هذه الشعوب، فالظروف التي جعلت المسلمين في مؤخرة الركب في مجال النهضة والتقدم والتحديث، لا ينسب إلى الإسلام ولا لتعاليمه، التي تدعو إلى النظر والتدبر والبحث في هذا الكون الفسيح وتبديل السنن مع التحولات والتغيرات بما يواجه التحديات، ويشير د. غريغوار مرشو في ردود محمد عبده على بعض النقد للإسلام وواقع المسلمين، إذ ركز: «أكثر على الدفاع المستمر عن العقل في القرآن، ويعني هذا مجموعة من الحجج تقوم على البرهان الخطابي المسنود بمعيار كوني لا يمكن أن يكون في المحصلة الأخيرة إلا العقل. بذلك يوضح عبده: (جاء القرآن... وخاطب العقل واستنهض الفكر وعرض نظام الأكوان وما فيها من الإحكام والإتقان على أنظار العقول، وطالبها بالإمعان فيها، لتصل بذلك إلى اليقين بصحة من دعاه ودعا إليه)».

ولا شك أن محمد عبده، وكذلك ما كتبه وتحدث عنه جمال الدين الأفغاني، يهدف إلى مخاطبة البعض ممن انجرف إلى تقليد الآخر والذوبان فيه، وليس الاقتباس والاستفادة من مناهجه، التي يراها مساراً للنهضة والتحديث. لكن الإشكالية أنه بعد رحيل الاستعمار، وقيام الدولة القُطْرية، أنها للأسف لم تأخذ المسار الصحيح في رؤيتها للنهضة والتقدم من أساس تاريخا وواقعها القائم، فشّرقت وغرّبت في تطبيق النظريات الفكرية والفلسفية من الآخرين، واتخذت الاستبداد طريقاً، بدلاً من أن تتاح للمجالس النيابية والتعددية، لتكون المرجع للقرارات والخطط والبرامج في توجهاتها، ففشلت المشاريع، ودخلت الأمة في أزمات عديدة، لا نزال نعاني منها ومن إفرازاتها حتى الآن.