أفكار وآراء

«حياة السود مهمة».. هل تضع نهاية للتمييز؟

20 يونيو 2020
20 يونيو 2020

د. عبدالعاطي محمد -

من الواضح أن حركة حياة السود مهمة تحمل هدفا ساميا ويهم كل الأمريكيين هو إلغاء كل صور التمييز. وما لا يحتاج إلى تفصيل أن هذا التمييز تقر به العين في أكثر من مجال، فالمسافة واسعة حقا بين البيض والسود من حيث نوع الحياة

تتفق الحركات الاجتماعية والسياسية فى أنها كلها تسعى إلى التغيير، ولكنها تتباين فيما يتعلق بالقضية أو القضايا التي تتبناها كل منها، والبناء التنظيمي، والقدرات الذاتية على تحقيق الأهداف، ويتوقف نجاح أيا منها على وضوح الرؤية والتكامل بين هذه العناصر واستغلال الفرص. ولا تخرج حركة «حياة السود مهمة» عن كونها واحدة من هذا النوع من الممارسة السياسية. وبما أنها أظهرت تأثيرا تعدى حدود الولايات المتحدة مما شغل اهتمام العالم، يصبح من الأهمية بمكان التساؤل حول مصير هذه الحركة وقدرتها على وضع نهاية للتمييز ضد الأمريكيين من أصول إفريقية.

بداية، فإن التمييز ضد السود في الولايات المتحدة لا يحتاج إلى تبيان، لأنه قضية معروفة منذ أكثر من قرنين من الزمان، ليس فقط لدى الأمريكيين وإنما لدى غيرهم من مختلف شعوب الأرض، بحكم قسوة هذا التمييز وما تركه من مآس إنسانية، سجلها التاريخ عبر صور مختلفة من بينها أعمال درامية مشهورة (مسلسل جذور). وبرغم النضال الطويل من أجل إنهاء العنصرية أو التمييز أو عدم المساواة، والذي أدى بالفعل إلى تغيير سياسي دستوري منذ أواسط ستينيات القرن الماضي وضع نهاية لهذا الوضع، اتضح أن الثقافة السياسية الأمريكية لدى البيض لم تتخلص بعد من هذا المرض، وخصوصا بين رجال الشرطة. فلم يكن فلويد الذي فجر مقتله الاحتجاجات هو آخر الضحايا في مينابوليس ولن يكون آخرهم حيث تم قتل أمريكي أسود آخر برصاص الشرطة أيضا يدعى بروكس في اتلانتا بجورجيا ولم يكن قد مضى إلا بضعة أيام على مقتل الأول وكانت مظاهرات الاحتجاج مستمرة في مدن أمريكية عديدة تستنكر عنف الشرطة مع الأمريكيين من أصول إفريقية. ومن جهة أخرى فإن حركة «حياة السود مهمة» لم تكن وليدة الاحتجاجات على مقتل فلويد لأنها حركة قامت عام 2013 احتجاجا على مقتل المواطنين السود على يد الشرطة وتقاعس القضاء في إقرار العدالة، وقد عرفها الأمريكيون في كثير من الحوادث اللاحقة لهذا التاريخ، حيث كانت تنظم المظاهرات مع كل واقعة مقتل أفراد من السود على يد ضباط الشرطة.

هذه الحركة تحققت فيها بعض عناصر تمييز الحركات الاجتماعية عن الأحزاب مثلا، فهي لديها هدف واضح لتحقيق التغيير في الأوضاع الاجتماعية الأمريكية هو رفض كل صور التمييز العنصري وعنف الشرطة تجاه الأمريكيين من أصول إفريقية، وتستخدم رموزا وشعارات بعينها تعبئ بها الأعضاء والمتعاطفين (التجنيد)، ومن ذلك مثلا استخدام الهاشتاج الذي تم تدشينه على وسائل التواصل الاجتماعي العام 2013 وهو حياة السود مهمة، أي استخدامه اسما للحركة، وكذلك العبارة الأخيرة التي نطق بها فلويد وهو يحتضر: «لا أستطيع أن أتنفس» باعتمادها لافتة رئيسية يرفعها كل المتظاهرين داخل وخارج الولايات المتحدة. وأيضا مظهر من يثني إحدى ركبتيه وهو جالس على الأرض تذكيرا بنفس ما فعله الشرطي قاتل فلويد الذي ضغط بركبته على رقبته لمدة 8 دقائق حتى لفظ أنفاسه. هذا وغيره من أدبيات الوسائل التي تلجأ إليها الحركات الاجتماعية للحشد والتعبئة والتعبير عن الذات (الهوية). ومن جهة أخرى هي حركة سلمية لا تلجأ إلى العنف حيث تعتمد على التظاهر السلمي فقط، ومن الصحيح أن الاحتجاجات شهدت عنفا وتخريبا ولكن هذا كان من فعل قوى أخرى استغلت الموقف مثل جماعة أنتيفا المعادية للفاشية ولكنها فوضوية (أناركية). كما اتسمت الحركة بميزة أخرى كحركات اجتماعية عديدة هي التأثير الخارجي، أي الانتشار خارج الحدود الوطنية، ووضح ذلك من حجم المظاهرات التي خرجت في بلدان أوروبية كبرى مؤيدة للمحتجين على مقتل فلويد، ومنها بلاد مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، وكان المتظاهرون يرفعون نفس الشعارات والمطالب التي كان يرفعها المتظاهرون في مختلف المدن الأمريكية.

وبرغم ما يمثله كل ما سبق من صور للنجاح إلا أنه ليس كافيا للتأكيد على أن هذه الحركة يمكن فعلا أن تحدث التغيير الذي عجزت عنه الجهود العديدة السابقة سواء من جانب الأمريكيين السود وحدهم أو بتعاون قطاع من البيض معهم. فالحركة وفقا لما هو متداول عنها من معلومات ليس لها قيادة محددة ولا بناء تنظيمي قوي، بل تعتمد على لامركزية التحركات، وهي معرضة للوقوع في نفس الاتهام الموجه إلى البيض، وهو الدعوة إلى العنصرية أي دعم عرق أو جنس بعينه بينما الولايات المتحدة هي بلد الأعراق المختلفة، وأزمتها هي أنها تركز جهدها كله على هدف إدانة الشرطة والتحريض ضدها فيما يتعلق بالسود تحديدا، مما يضع القضية في مربع التعصب العنصري ومن ثم تعميق الانقسام القائم في المجتمع الأمريكي. ومن اللافت أن رجال الشرطة وهم معظمهم من البيض يرفعون شعارا مضادا يقول: حياة الزرق مهمة، في إشارة إلى اللون الأزرق لملابس الشرطة!، وليس خافيا أن هناك رجال شرطة لقوا حتفهم على أيدى المواطنين سواء كانوا من السود أو البيض.

من المؤكد أن هناك ماضيا مؤلما للعداوة بين الشرطة والسود لأسباب بعضها عنصري والآخر عام يشمل الحفاظ على الأمن وتطبيق القانون، والجدل في هذا الوضع قديم جديد ولم تنجح أي حكومة في وضع نهاية سعيدة له، وعلى سبيل المثال فإن عهد أوباما وهو أول رئيس أمريكي أسود قد شهد أحداثا مؤسفة عديدة كحادثة فلويد وكان أوباما مهتما بالقضية ولكنه لم ينجح أيضا كغيره من الرؤساء. ومن الواضح أن حركة حياة السود مهمة تحمل هدفا ساميا ويهم كل الأمريكيين هو إلغاء كل صور التمييز. وما لا يحتاج إلى تفصيل أن هذا التمييز تقر به العين في أكثر من مجال، فالمسافة واسعة حقا بين البيض والسود من حيث نوع الحياة. ولكن الحركة بحصرها الجهد في تغيير العلاقة بين الشرطة والسود تحديدا تفتقد للتأييد الشعبي الواسع وبالعكس تثير غضب البيض وهم الأكثرية (77%). وتحقيق هدف إعادة هيكلة الشرطة ليس بالأمر الهين أو البسيط لأنه يحتاج إلى تشريعات من الصعب الاتفاق عليها. والأهم أن الأمر بالأساس يتعلق بتغيير الثقافة وهو أمر يحتاج إلى زمن طويل. والمعنيون بالأوضاع الأمريكية يؤكدون أن كلا من الجمهوريين والديمقراطيين لا يرغبون في المساس بوضعية نظام الشرطة الراهن. والجدير بالملاحظة أن كثير من حوادث القتل في هذه القضية تقع في ولايات حكامها من الديمقراطيين!.

ومع ذلك فإنه عملا بقاعدة استغلال الفرصة يمكن القول إن التغيير وارد وإن كان جزئيا بالنسبة لأساليب عمل الشرطة، وأوسع نطاقا فيما يتعلق بتحسين الأوضاع الحياتية للأمريكيين من أصول إفريقية، هذا إذا وجهت حركة «حياة السود مهمة» جهودها للتأثير في الانتخابات الأمريكية العامة المقرر إجراؤها في نوفمبر 2020. ويتوقف ذلك على نجاح الحركة في كسب تأييد عدد كبير ومؤثر من الناخبين الأمريكيين من مختلف الولايات، ليس بتعميق الدعوة إلى إدانة الشرطة وعقاب أفرادها وإنما بتعميق الشعور بالتسامح والمساواة والعدالة للجميع وليس لفئة بعينها. كما يتوقف على ما إذا كان لدى هذه الحركة إمكانيات للتأثير في مجرى الانتخابات سواء بتجنيد المؤيدين للمرشحين الذين يتعهدون بإحداث التغيير أو بالحشد الإعلامي وعبر وسائل التواصل الاجتماعي خصوصا أن أيا من الحزبين الكبيرين مهتم بكسب تأييد أنصار هذه الحركة. ولن يكون مفيدا لهذه الحركة أن تؤدي تطورات الحملات الانتخابية إلى تجاوز الحزبين لهذه القضية تبعا لاعتبارات جني الأصوات، ولذلك من المهم لها أن تجعل هذه القضية في صلب أجندة الانتخابات ومواقف المرشحين. ويضاف إلى ذلك أن تتطور الأحداث المتعلقة بجائحة الكورونا إلى استعادة عمل الاقتصاد مما يعني إتاحة فرصة العيش للملايين من السود الذين فقدوا وظائفهم بسبب هذا الوباء. في هذه الحالة تهدأ ثورة غضب المحتجين ويصبحون أكثر مرونة في المطالب الخاصة بإصلاح الشرطة.

على صعيد آخر، فإن لأنصار هذه الحركة أن يدركوا أهمية الدعم الخارجي الذي تحقق تلقائيا لقضيتهم الأم وهي إلغاء كل صور التمييز عمليا، فمثل ذلك يؤثر في حسم مواقف المترددين في الانتخابات القادمة وهؤلاء يمثلون حوالى 15% من القوة الانتخابية (لا ينتمون لأي من الحزبين ويحسمون موقفهم ليلة الانتخابات!)، ولقيادات الحركة أن يجدوا الوسائل التي تمكنهم من استثمار هذا الدعم. لقد تطور رد الفعل الخارجي إلى حد عدم الاكتفاء بالمظاهرات وإنما استغلال الرياضة في الحشد لما لها من تأثير على الجماهير، وبدأ أكثر من فريق كروي شهير في أوروبا التعاطف مع قضية السود وحياتهم المهمة للجميع. حدث هذا من جانب اللاعبين في الدوري الألماني، وصدر بيان من الدوري الإنجليزي يتعلق بتضامن ووحدة اللاعبين للقضاء على التمييز العنصري. وهكذا، الفرصة قائمة ولكن هناك فرق بين أنها متاحة في سابقة فريدة في تاريخ النضال ضد العنصرية في الولايات المتحدة، وبين عدم استغلالها جيدا. من تجارب التغيير التي عرفها العالم المعاصر لا تدوم الاحتجاجات طويلا لأنه لو حدث ذلك، فإنه يأتي بنتائج مضادة، ولذلك فإن سرعة الاستفادة من الظرف القائم بالغة الأهمية. دون ذلك يعود الذين يعانون من التمييز إلى المربع الأول!.